الشوارع التي علمتنا أن نكون يا عقار

 


 

 

قال عقار كلمة صدئة بحق المتظاهرين لا تصدر إلا من ثوري في المعاش. حاول مثلهم تغيير الحال بسلاحه بل داع لأربعة عقود بل جدوى. خرج من الرحلة العقيم صفر اليدين. جرده الحلو من أل والإضافة في صراع أسف له كل حادب على قضيتهم لا أشخاصهم. وجردته الثورة المدنية من كل زعم في تغيير الوطن. و"سختت" سلاحه الفاجر ضباً قديماً عند قاشه. وجاءنا اليوم يعظنا عن شراسة المقاتل حين يخرج للنضال. فهو، في قوله، ليس كالمتظاهرين يهتف ويعود إلى بيته. فالمسلح يعود لساحة الوغي ويَقتل ويُقتل. ولم يسأل نفسه: وعماركم بربك شنو؟ يبدو أن المتظاهر الذي يعود لمنزله أعرف بالتغيير وإحداثه من مسلح يُقتل ويَقتل سدى لينهار على مقعد في مجلس السيادة بغير استحقاق كرفيقه برطم (الأعور داك).
وهذه كلمة عن ملكة التظاهرة في تخيل وطن مختلف. هي عن علم المظاهرة التي سخر منها عقار الذي كان اكتسب احترامنا حين أولى الثقافة عنايته فأقام كوال للنيل الأزرق مركزاً ثقافياً لم يسبقه إليه وال. وقدِمنا إليه بدعوة منه للتضامن مع لفته الثقافية النادرة. ثم دافعنا عن المركز حين اعتدى عليه نظام الإنقاذ بعد المفاصلة التي اضطرت عقار ليغادر الدمازين على عجل.
ثم لقا عقار هواه في مجلس السيادة ليضري أو أضل. ونسي ذلك كله ليطلق لساناً خبيثاً في شباب كانوا هم سبب إنقاذه من محنته مع الحركة الشعبية.
إلى الكلمة القديمة:

لا أعرف فيديو طربت له خلال هذه الثورة مثل فيديو الطفل الذي ظل يبكي ومتى سألته أمه عما يريد قال: "ماشي المظاهرات".
عمر التظاهرة عندنا 95 عاماً. وأول مظاهرة وقعت في السودان كانت في 1924. ولغرابة الظاهرة سمى الناس والد المرحوم التجاني الطيب، الزعيم الشيوعي، ب"المتظاهر" لتزعمه بعض مظاهرات تلك الثورة. والتظاهر مما نظر فيه السودانيون لمصر وثورتها في 1919 وتظاهراتها العديدة. لم نكن نعرف التظاهر قبل 1924. وأقرب الأشكال لها في المهدية تجده في العبارة "عرض مهدية" وهي خروج الرجل في قومه بعد بيعة المهدي. وتعني أنه أعلن الثورة على الحكومة وهي ثورة مسلحة بالطبع.
والتظاهرة قرينة بالشارع. والشارع هو الطرف المضاد للطرف الثاني وهو الحكومة. ففي الشارع يستعرض الشعب قواته كما تستعرض الحكومة قواتها كما نرى اليوم. وصار الشارع من فرط تكرار الصدام في ثنائية الشارع والحكومة أكثر المفردات ترميزاً في خطابنا:

هذى الشوارع لا تخون
هي الشوارع علمتنا ان نفيق
أن نَبِر البرتقالة أو نموت فداء للرحيق

قَلّ من درس هذه التظاهرات التي علمتنا أن نكون. وأسعدني الحظ مؤخراً بقراءة كتاب للدكتور إلنا فيزاديني "الحركة الوطنية المُضاعة: الثورة، والذاكرة، والحركة المعادية للاستعمار في السودان" (2015) التفتت فيه بصورة ربما غير مسبوقة لدراسة مظاهرات 1924 كدراما لا تعرض فيها جمهرة ما أشواقها على مسرح الشارع بالتظاهرة فحسب، بل تكون هذه الجماعة في التظاهرة بدء التغيير.
فقالت إن التظاهرة أكثر من مسيرة. هي طقس علماني. ولا نقول طقساً ناظرين لرفرفة الرموز مثل علم البلاد فوق سمائها. فالعلم نفسه ليس قطعة قماش، بل رمزاً جيد السبك للقيم الأساسية للأمة. وسببنا للقول إن التظاهرة طقس لأنها هي نفسها رمز في كلياتها. فهي احتفال أفراد في المجتمع معاً بحالهم في يومهم وبحالهم كما يريدونه أن يكون في المستقبل معاً. ونظرت في كيروقرافي (حركاته وسكناته) الجسد في التظاهرة. ففيها يكشف الجسد عن علاقة فيزيائية بالظلم الواقع عليه. فالتظاهرات تُسَبِك المشاركين فيها في مجتمع-جماعة بإعطائهم الفرصة للكفاح معاً في مغامرة خطرة واستثنائية.
كما تناولت فيزاديني التظاهرة كدراما سياسية. فمظاهرة المدرسة الحربية في ثورة 1924 عندها غاصة بالرموز مثل التوقف عند بيت علي عبد اللطيف، وعند سجن كوبر لتعزيز على عبد اللطيف، ثم إلى محطة السكة حديد لإذاعة خبر التظاهرة ينقله المسافرون. وطلباً للمساواة في الخطر والقيمة في طقس التظاهرة نزع طلاب الكلية الحربية الشارات الدالة على رتبهم بمعنى زهدهم في التراتبية. وبلغ من حس الإنجليز بخطر دراما هذه الأجساد في تشكيلها الصميم المُقَاوم أن دفع بهم لدمغ المتظاهرين كرجرجة مجانية يقودها مشبوهون يتبعهم أطفال بلا أدب. كانت التظاهرة في 1924 هي ممارسة السياسة ب"وضع اليد" بعد أن احتكرها الإنجليز وبيوت الزعامات التقليدية.
التظاهرة هي تخيل درامي شفيف مكلف وخطر لمجموعات على مسرح الشارع للمجتمع المنتظر.

IbrahimA@missouri.edu

 

 

آراء