الصرح الفني الباذخ – وداعا أبوللمين

 


 

 

إنكسر كبري شمبات العتيق قبل أيام قليلة بسبب حرب الفاسدين العابثين الغافلين والجهلاء.. لم يدرك أكثرنا ما يعنيه ذلك الكم من الحديد والحجارة والإسمنت إلى أن تهاوى وسقط في مياه النيل.. لم يكن أكثر من مجرد (كبري شمبات عادي) نعبره من بحري إلى أم درمان والعكس!.. ولطالما قطعناه مشيا على خُطىً من الصمت، الحنين، والشباب مرات!.. ثم من الدهشة وعدم التصديق، الحسرة، والأمل مرة أخرى وحيدة*..

إلى أن إنكسر،

لنستشعر فجأة ضخامة وزخم ذكرياتنا معه.. وفوقه.. وبالقرب منه.. وتحته و[شمباتنا تحت الكبري - صلاة النبي فوقو].. لم نكن نَعِي أنه يحتل فينا كل هذه المكانة إلى أن إنكسر..

وإنكسر فجر أمس صرحٌ فنيٌ بقامة الوطن تاركا فراغا لن يُسَدّ..

لن يُسَدّ!..

أن تحب ود اللمين هو أن تحب كبري شمبات. لا أحد يحب الكباري. ولكن ود اللمين كان فينا تماما كما هذا الـ (كبري شمبات).. رحل تاركا فراغا لن يُسَدّ البتة.. ليس لأنه لا يدانيه في قمته أو يخاطر بالإقتراب من مكانته سواه، ليس لأننا عشقنا ألحانه الباذخة وموسيقاه وتفرده، ثم عن طيب خاطر نصبناه واحدا على قمة تخصه هو فقط، ليس لأنه كان عنوان الأمانة والدقة في رسالته الفنية، ولكن لأنه بلا شبيه..

محمد الأمين، ود اللمين، أبو اللمين، الباشكاتب، والأستاذ، كما أحببناه وأحببنا أن نناديه ونعظَّمه.. لطالما تندرنا بمقدرة أذنه السحرية العجيبة على تمييز الخطأ أو اللحن في العزف وعدم مقدرته على تحمّل ذلك..

ولأنه نادر..

ولأننا بشر، نشوه دوما روعة أجمل ما لدينا عن قِصَرٍ منا عن إدراك أهمية وجمال الأشياء.. فقد إعتدنا الإستماع إليه والإستمتاع بفنه تماما كإستمتاعنا وإحتفائنا بشرب الماء وتنفس الهواء.. حولناه إلى خانة الإعتياد كأي شيء عظيم آخر في حياتنا.. وغفلنا -من هول عظمته- أن ننتبه إلى كونه أسطورة تمشي على قدمين..

يا إله السماء.. يا للهول.. لقد ظل هذا الرجل يغني لنا منذ أكثر ستين سنة بإلتزام موغل في الصرامة.. إبتداءا من البدلة الكاملة وربطة العنق إلى حد إيقاف الغناء في المسرح وأمام جمهوره حال وجود أدنى خلل في أي وتر في أي آلة موسيقية.. بل وحتى في حال وجود خلل في وزنة أوتار إستماع الجمهور..

لطالما عن ظهر قلبٍ سمعنا وحفظنا أغنياته بتفاصيل ألحانها وتقاسيمها، ثم ها نحن بكل الحزن الذي بوسع قلبٍ أن يحتمله نبكي رحيله وحالنا متوكئين الصمت والصبر الوجيع..

ذكّرنا فقده أننا نتمرّغ في كمٍ مضنٍ من الأحزان.. تجسد في فقده حزننا على متحف السودان القومي الذي نهبه الرعاع.. فتّح غيابه أعيننا على مأساة عدم مقدرتنا على السفر إلى الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان وزيارة من نحب فيها أو لمجرد التسكّع في الشوارع.. إنتبهنا برحيله إلى أن هناك حرب تدور بلا سبب وأن الإنسان عندنا -منذ بدأ يغني لنا وقبل ذلك- يموت بلا سبب هو الآخر.. ذكّرنا فقده بفداحة مشاهد الشوارع الخاوية والمليئة بكآبة الحرب والدمار والخراب..

ما أقسى مغالبة الدموع التي تتحين كل ذات حزن -وما أكثرهنّ- لتطغَى.. فكثيرا وكثيرا جدا ما نضطر بكل قسوة ممكنة لقمع الشجن وإدّعاء الإعتياد في الصوت والملامح لنمشي في الأسواق ونذهب إلى العمل ونظل على قيد الحياة.. ويحدث كذلك أن نشجَى في ذات موقف عادي لا يستحق.. ونفشل ذات مرات أُخَر في الإحساس بما يستحق التفريغ عنه.. فكأننا وكأنما بدأت مشاعرنا تختلط وتتضاد!.. وكأننا وكأنما بدأنا نفقد قدرتنا على الإحساس الحقيقي بالأشياء.. الأكيد أن رحيل أي إنسان أمر مؤلم.. فالموت لا يوجع الموتى ولكنه يوجع الأحياء.. أما رحيل الصروح والأساطير فإنه لا يؤلم الأحياء ولكنه يوجع الشعوب!.

آسانا أن زامنّا الأساطير محمد وردي، محمد الأمين، أبو عركي البخيت، مصطفى سيد أحمد، محمود عبد العزيز، ومن شابههم في كونهم وُجِدوا ليسعِدوا.. الذين جمّلوا زماننا وحياتنا وخففوا كثيرا من ظلم ونتاج غباء الترابي وبشيره وبرهانهم ودقلوهم ومن ركب ركبهم من الذين وُجِدوا لتشِقَّ بهم وتتنغّص وتضيع حياة شعوب بأسرها..

رحل بعد أن خلّد إسمه وإسماء كل من قرية ود النعيم الوديعة، مدني الوريفة، والجزيرة الخضراء، بأحرف من نور.. وأهداها والسودان والعالم ألحانا عبقرية لن يعفى عليها الدهر وإن شاء..

تذكرته عند رحيل العملاق وردي وأجدني برحيله أتذكر عركينا الإنسان الفنان الذي نحب، متمنيا له طول العمر ودوام الصحة و إستمرار العطاء.. وقِلّة قليلة من فنانين آخرين وهبونا حياتهم وأجمل سنيّها.. صدقوا في إحساسهم وفنهم فأجادوا، وأبدعوا في عطائهم فأسعدوا..
--

هشام عبيد جودة - 14 نوفمبر 2023

* قطعنا كبري شمبات مشيا في طريقنا من منزل الفنان محمد الأمين بشمبات الحلة إلى نادي الفنانين للقاء أبو عركي البخيت لأول مرة أواخر تسعينات القرن الماضي.
hisham_joda@yahoo.com

 

آراء