(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) صدق الله العظيم لقد حل على الناس عيد الاضحى، في ظروف بالغة العسر والمشقة، فالفقراء الذين يعيشون في أطراف العاصمة، وكانوا يدخرون من قوت لايسد الرمق، حتى يشتروا "الأضحية"، داهمتهم الأمطار، فوقعت بيوتهم على رؤوسهم، وحاول بعضهم بناء أو ترميم بعضها، وهاهم يقابلون العيد وهم صفر اليدين، يتحاشون نظرات أطفالهم، الذين يطالبونهم بشراء " خروف العيد"، ومهما تهربوا منها، تصلي تلك النظرات البريئة قلوبهم، وتغض مضاجعهم، وتحيل فرحة العيد إلى غصة في حلوقهم، ودموع في مآقيهم !! إن الغلاء الفاحش، وزيادة منسوبي الإخوان المسلمين الذين يشترون بأي سعر، قد جعلت " الأضحية" حلم عزيز المنال، وليس هناك جمعيات تعاونية، أو دعم حكومي يستهدف توفير " الأضحية" بسعر معقول، وبدلاً من أن يتدخل الفقهاء، و "علماء" السودان، ورجال الأوقاف، برأي ديني، يريح الفقراء من تلكفة "الأضحية"، ويرفع عنهم حرجها، أفتى بعضهم للفقراء أن يستدينوا ثمن "الأضحية"، ويسددوها في زمن قد يصل بهم إلى العيد القادم !! لماذا يؤكد هؤلاء (العلماء) بزعمهم أن " الأضحية" فريضة واجبة، فيضللون البسطاء، ويكذبون على الله دون حرج ولا ورع ؟! هل هو جهل بمقاصد الإسلام، وجهل بتاريخ الأصحاب، والسلف الصالح رضوان الله عليهم، في شأن " الأضحية"، أم أنه ترك للدين، وجري وراء العادات الإجتماعية الراسخة، طلباً للقبول عند الناس على حساب الحق ؟! ولقد وصلنا القول من قبل للفقهاء ورجال الدين، بأن الضحية غير واجبة لا على الفقراء ولا على الأغنياء !! فلم يقفوا عند ما شرحنا، بل ظلوا في طغيانهم يعمهون. وها نحن نكرر لهم ما سبق ان ذكرناهم به، حتى يجئ اليوم الذي يقلع الناس فيه عن عادة "الأضحية". لقد كانت المجتمعات القديمة، وهي تمارس ديانات التعدد، تضحي بالإنسان، فتنحره في معابد الآلهة، حتى ترضى الآلهة عنهم .. وكانت هذه الشريعة مقبولة ديناً وعرفاً، حتى وقت أبي الأنبياء ابراهيم الخليل عليه السلام، وهو قد عاش قبل المسيح بحوالي ألفي عام .. وحين رأى الخليل في النوم، أن عليه أن يذبح إبنه زلفى لله، لم يستغرب هذا الأمر، بل أقدم على الشروع في تنفيذ التوجيه الإلهي، غير هيّاب ولا وجل .. ولكن الله تأذن في ذلك اليوم، بنسخ التضحية بالبشر تقرباً الى الله، وأبدلها بما هو دونها في الحيوانية، من سائر الأنعام .. قال تعالى في ذلك (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ). (ولقد أصبحت التضحية بالحيوان بدلاً عن الإنسان، في التقرب الى الله، سنة ابراهيم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأله أصحابه: ما هذه الأضاحي؟؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم!! "سنن إبن ماجة، الجزءالثاني، صفحة 26، وتفسير إبن كثير لسورة الحج، الجزء الرابع، صفحة 641" .. ولما جاء عهد النبي الكريم، كانت حكمة الضحية بالحيوان قد أشرفت، هي أيضا، علي غايتها، فضحي هو ببهيمة الأنعام، ختماً لسنة أبيه إبراهيم، في الفداء بالحيوان، وإفتتاحاً للعهد الذي تنتهي فيه عادة القربان الحيواني. وفدى الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأن ضحى عنها، فاسقط الضحية عن كافتها!! جاء فى تفسير ابن كثير، الجزء الرابع ، صفحة 642 "عن على بن الحسين عن ابى رافع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فاذا صلى وخطب الناس أتى باحدهما وهو قائم فى مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: "اللهم هذا عن أمتى جميعها، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ" ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: "هذا عن محمد وآل محمد" فيطعمهما جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما. رواه احمد، وابن ماجة .." ثم يمضى ابن كثير فيقول ، فى صفحة 646: "وقد تقدم أنه عليه السلام ضحى عن أمته فاسقط ذلك وجوبها عنهم". فالنبى الكريم بضحيته، عنه، وعن آل بيته، وعن أمّته، إنما فعل سنة أبيه ابراهيم، ولكنه لم يستن الضحيه إبتداء .. فعل سنة ابراهيم فاختتمها، وفدى أمته عنها، وافتتح عهداً جديداً للتقرب الى الله بالعلم، وفدى النفس بالفكر، لا بالحيوان، وهو فى نفس الوقت، إنما جارى عادة سائدة، فهذبها، وتسامى بها، وفتح الطريق إلى ما هو خير منها .. ومما ورد أيضاً جاء في "سبل السلام"، صفحة 96: "و أخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صلي الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية، وأنه قد لايجدها، "قلم إظافرك، وقص شاربك، وأحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل" !! رواه أيضا أبو داؤود فى "سنن ابى داؤود الجزء الثالث، صفحة 93". وفى هذا الحديث إشارة لطيفة إلى استبدال الضحية بالحيوان، بعمل يتجه الى تهذيب بقايا الموروث الحيوانى فى البشر، أنفسهم، وهى الشعور، والاظافر، مما يفتح الطريق أمام قيمة جديدة هى ان يفدى الانسان نفسه، بتهذيب نفسه، لا بكائن خارجه، إنساناً كان أو حيواناً!! (ومعلوم أن كبار الأصحاب كانوا لا يضحون بما في ذلك الموسرين منهم .. جاء فى تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة 646 "وقال أبو سريحة "كنت جارا لابى بكر وعمر وكانا لايضحيان خشية ان يقتدى الناس بهما" وجاء فى "سبل السلام" الجزء الرابع صفحة 91: "وافعال الصحابة دالة على عدم الايجاب – ايجاب الضحية – فأخرج البيهقى عن ابى بكر وعمر رضى الله عنهما، أنهما كانا لا يضحيان خشية أن يُقتدى بهما" وجاء فى "الاعتصام" للشاطبى الجزء الثامن صفحة 91 "وكان الصحابة رضى الله عنهم لا يضحون – يعنى أنهم لا يلتزمون" "الخطوط من وضع الكاتب". وهكذا فلو لم تسقط الضحية عن الأمة، لكان الأصحاب وعلى رأسهم الشيخان، أولى الناس بادائها .. وقد جاء أيضاً في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الجزء الأول، صفحة 464: "قال عكرمة: بعثني إبن عباس بدرهمين إشتري بهما لحما، وقال: من لقيت فقل له هذه أضحية إبن عباس!! وروي عن بلال أنه ضحي بديك!!" وجاء في " سبل السلام" صفحة 91 "وقال طاووس: ما رأينا بيتا أكثر لحماً وخبزاً وعلماً من بيت إبن عباس، يذبح وينحر كل يوم، ثم لا يذبح يوم العيد". أما عبد الله إبن مسعود، فلم يدع قط حجة لمحتج بوجوبها، لا علي المعوزين، ولا علي الموسرين!! فقد روى الشاطبي في "الإعتصام"، الجزء الثاني صفحة 91: "و قال إبن مسعود: أني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم، مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة"!!) وهكذا علم الأصحاب أن "الأضحية" غير واجبة فلم يضحوا وأبانوا ذلك .. واليوم، فإن حكم الوقت، يجعل الضحية عمل سيئ من القادر عليها، وذلك لأنه يدفع جاره غير المستطيع الى تكلف الشطط، والإستدانة، حتى لا يرى أطفاله اللحم في أيدي أبناء الغني فيتأثروا بذلك .. وهذا ما جعل أغنياء الأصحاب كأبن عباس لا يضحون. إن هذه الكلفة الاقتصادية والإجتماعية الضارة للضحية، تجعلها أمراً مرفوضاً، دينياً وأخلاقياً، ويجب تركة والتواصي بتركه .. فإذا عجز علماء السلطان، عن رؤية ذلك، على وضوحه، فما حاجة الناس إلى دعاوى شهاداتهم وخطبهم والصلاة خلفهم ؟! والحق أن المواطن الفقير، العاجز عن تعليم أبنائه، والذي دفعه الغلاء الى الجوع، ودفعه الجوع الى المرض، ودفعه المرض الى الموت، هو "الضحية" .. والفتاة التي ترعى إخوانها، ولذلك لم تكمل تعليمها، ولم تجد عملاً يسد الرمق، ويحفظ حياة الصغار، فاضطرت إلى الإنحراف هي "الضحية" .. والشاب الذي بذل جهداً كبيراً من نفسه، وأسرته، حتى يتخرج من الجامعة، ثم عندما تخرج لم يجد عملاً، فأصابه الإحباط، ودفعه اليأس الى تعاطي المخدرات، هو "الضحية" .. والمواطن الأعزل، المسالم، الذي تسقط فوق رأسه البراميل المشتعلة في جبال النوبة، وتضربه الطائرات بالأسلحة الكيماوية في جبل مرة، ونواحي دارفور، فتقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، هو "الضحية" . وحكومة الاخوان المسلمين هي الجلّاد، الذي ألهب ظهر الشعب بسياط القتل، والإفقار، والتهميش، حتى إذا بلغ غاية الفقر والعجز، أرسل إليه فقهاؤه، يدبجون له الفتاوى في جواز " الضحية" بالدًين !! إن الشعب السوداني هو "الضحية"، وليس على "الضحية" أن تضحي، بل عليها أن تواجه جلادها، وترفع الظلم عن نفسها، فإن فعلت ذلك، فهو قربى عند الله، أكبر من التضحية ببهيمة الأنعام !! والشعب وهو الآن "الضحية" الكبرى، سيثور على جلاديه، ويجعلهم أحاديث، وذكرى من الذكريات المؤلمة، التي تدفعها الشعوب، حتى تنال حريتها.. ويوم يزول هذا النظام الغاشم، سيكنس معه (علماء) السوء، وسيجئ العلماء الصادقون، الذين يعلمون شعبنا، أن التقرب إلى الله، لا يتم بإهراق دم الحيوان، وإنما يتم بالتقوى .. ويقرأوا لهم، قوله تعالى (لن ينال الله لحومها، ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم .. كذلك سخرَها لكم لتكبروا الله على ما هداكم، وبشر المحسنين). د. عمر القراي Omerelgarrai@gmail.com