الطراز المنقوش: يوحنا البرغماتي، الخليفة عبد الله الداعشي

 


 

 

 


لا أعرف ضحية للإنقاذ غير مقصود مثل الخليفة عبد الله أعز الله وجهه. فتعاور على التهوين من تاريخه خصوم الإنقاذ الذين وجدوا فيه سابقة تاريخية ل"صناجة" الإنقاذ العقائدية. وصارت علاقته مع الحبشة بالذات مضرب المثل على هوس الإنقاذ الديني. فحال هوسه بالفتوح في بلاد الكفر، في قول هؤلاء الوافدين على التاريخ يفرجون كربتهم مع الإنقاذ، دون عقد التحالفات السياسية مع ملوك الحبوش، يوحنا (١٨٧١-١٨٨٩) ومنليك (١٨٨٩-١٩١٣)، لتجاوز خلافاتهم القطرية لمواجهة التحدي الأوربي. فبينما كان الحبوش على معرفة بأحوال العالم معرفة طبعتهم على البرغماتية، في قول شانئي الخليفة، كان الخليفة داعشياً ذا عبل.
جئت في الماضي بملابسات أفضل لفهم نباهة الخليفة في التعاطي مع عرض منليك. وبدا لي من قراءة أنا شارع فيها لكتاب محمد سعيد القدال "المهدية والحبشة" (١٩٧٣) أن أحصحص إن كان رفضه لعرض يوحنا من ذات شاكلة رفضه لعرض منليك نباهة. ولم يخذلني حتى الآن.
قال صلوات الله عليه وسلم أتركوا الحبشة ما تركوكم. وأول ما استرعي انتباهي أن الخليفة بدا في علاقته مع الحبشة بإخلاء طرفه برصانة من قيد هذا الحديث. فطلب من مركز دراساته الاستراتيجية، لو صح القول، أن يزور النص المانع لخصومة الأحباش من جديد ويرى مناسبته لزماننا. فكتب إسماعيل عبد القادر الكردفاني كتابه "الطراز المنقوش بقتل يوحنا ملك الحبوش". وسوغ للخليفة حرب الحبوش بنظر حديد. فقال كانت الحبشة مملكة ذات بأس على عهده صلى الله عليه وسلم. ولما كان النبي مشغولاً بالدعوة في الجزيرة العربية لم يرد الاشتغال بالحبشة طالما لم تؤذه. وهكذا فترك القتال جائز للظرف وفعل القتال جائز بالضرورة إذا لم يقف مثل الأحباش عند حدودهم مثل ما كانوا من قبل. فحرب الحبشة ليس جائزاً فحسب، في قول الكردفاني، بل هو واجب، وأن الحديث أتركوا الحبش ما تركوكم ليس قائماً بعد إذاً.
رخّص الكردفاني للخليفة قتال الحبشة بالنظر للحقائق التي استجدت. فلم يقف الأحباش مثل وقفتهم على عهد النبي التي جوزت ترك قتالهم. بل تحرفوا لقتال المهدية. فامتدوا في عهد يوحنا حرباً حتى احتلوا القلابات، وجعلوا عليها عمالاً، ووضعوا النواقيس على الكنائس، وألزموا أهلها بدفع الجزية.وبثوا جنوداً كثيرة على ساحل البحر الأحمر ليأخذوا من الدولة التركية عدة مدن.
وأهم ما جاء عند الكردفاني قوله إن يوحنا من أشد ملوك الحبشة بغضاً للإسلام حتى أنه كان يتشاءم من رؤية المسلم في الصباح. ولم يقل سوى الحق. فكان يوحنا مبغضاً ذا صليل ضد الإسلام. وليس من كتابنا الذين أعجبتهم عروض تحالفه للخليفة ضد الاستعمار الأوربي من اعتبر عداوة الرجل للمسلمين. بل قرأت لمن قال إن المسيحيين والمسلمين كانوا على زمنه أهل مودة إلا قليلا. فهؤلاء الكتاب من أهل نسخة في الحداثة لا دور للدين في التاريخ عندهم. ومتى لعب هذا الدور كان على الجانب الخاطئ من التاريخ، أو متطفلاً.
وكان اضطهاد يوحنا للمسلمين من عيار أندلسي. فأصدر في ١٨٧٦ فرماناً عن المجلس الكنسي في الحبشة يقضى بأن البلاد مسيحية أرثوذكسية وعلى المسلم فيها إما أن يرتد عن دينه ويتنصر، إما أن يهرب بدينه إلى بلد يأويه. وصدر هذا الفرمان في سياق مساع عدد من قادة الصفوة الإقطاعية المسيحية لتوحيد الحبشة في كيان إمبراطوري معلوم ورثنا عنه أثيوبيا الحديثة كدولة ووطن. ولم يكن هذا أول فرمان مسيحي يُخير المسلمين بين التنصير والهروب بدينهم في الآفاق. فكان البادي عبد المسيح الإمبراطور تيودرس (١٨٥٥- ١٨٦٨). وأراد أن يقوى المنعة المسيحية حتى لا يسود الأرومو، وغالبيتهم مسلمين، على الحبشة. ووعد المرسوم الملكي بتأمين المرتدين عن الإسلام في مالهم وأنفسهم. وطلب من العصاة أن يتركوا الحبشة لأنها ليست من أوطان المسلمين كما تقدم. فهم أمة لوحدها في قلب البلد المسيحي.
"وجالك كلام" الكردفاني. فجاء في المرسوم إلزام المسلمين ببناء الكنائس ودفع الإتاوة للقسس. ومنع من أن يرفع الآذان أو تتحجب نساء المسلمين. وقد صب يوحنا جام غضبه على مدينة قالو التي كانت مركزاً ثقافياً حياً. وأنشأ كنائس جديدة في ١٨٨٠، وأمر مسلمي مقاطعة ولو وغيرهم بتعميد جماعي في المسيحية. وأحرق نواب يوحنا الكتب الإسلامية في إقليم شوا كما ذبحوا ٢٠ ألف مسلم تعالوا بإسلامهم وما بدلوا تبديلا. وللمؤرخ الأثيوبي حسين أحمد كتاب وثيق عن الإسلام في أثيوبيا عرض فيه لمقاومة المسلمين القوية لأندلستهم.
لو صح شيء واحد هنا فهو أن الخليفة لم يكن سياسياً "خالي ذهن" كما تبادر إلى من جاؤوا إلى كتابة سيرته مع الحبوش وهم على ضغن عظيم من الإنقاذ. والإنقاذ نظام زائل كما رأينا. ويبقى أن نقف مستقبلاً على دقائق العرض الذي قدمه يوحنا البراغماتي للخليفة الداعشي.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء