الطريق الى السلام : هل ستحقق مفاوضات نيفاشا .. مطالب المناطق المهمشة الثلاث .. والسلام الدائم .. أم بداية للصراع فى السودان
25 January, 2010
بقلم / آدم جمال أحمد – القاهرة
إن طريق السلام فى السودان محفوف بالمخاطر وليس بالسهل ، فالتاريخ قد أوضح لنا أن السعى من أجل السلام فى بلادنا أمر شاق وعسير .. وملئ بالعقبات التى تحتاج الى الكثير من المثابرة والتفهم التام ، والإستعداد لإبداء التنازلات فى سبيل تحقيق السلام العادل والمساواة فى إطار الحل السياسى الشامل لكل مشاكل السودان.
وتدخل أزمة المناطق الثلاث وما تبقى من قضايا كتقسيم السلطة لحسم جولة المفاوضات فى نيفاشا لوقف نزيف الحرب ، وبأن لا عودة عن عملية السلام الى الإقتتال من جديد ضمن قوام القضايا والعقد التى تشغل الرأى العام العالمى والاقليمى والمحلى ، بوصفها إحدى الأزمات التى قادت السودان الى حرب أهلية مدمرة طوال عقود طويلة ، إنتهت الى خسائر بشرية وأخرى فى الثروة القومية والقدرات والطاقات والتى يمكن تسخيرها لعملية البناء والتنمية الوطنية.
لقد نجح الوسطاء فى محادثات السلام السودانية التى أجريت فى بلدة مشاكوس ونيفاشا الكينية ، فى تحقيق إختراق مهم فى الخلافات بيى الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان من خلال ممارسة ضغوط مكثفة على الطرفين من جانب أمريكا ، وبموجب أثر ذلك قدم الطرفان ( اللاعبان الأساسيان ) فى حلبة الصراع تنازلات مهمة فى أهم قضايا على خلاف سابق بينهما فى المفاوضات ، وهى علاقة الدين بالدولة وتقرير المصير لجنوب السودان وملف النفط .. ( البترول ) وما يطلق عليه التقسيم العادل للثروة والترتيبات العسكرية والأمنية ، التى كانت تعتبرها الحكومة من ثوابتها .. وسط أجواء متباينة من التقديرات والتكهنات السياسية وتحفظات لبعض الأوساط السودانية والاقليمية على تطبيق البنود ، وما تسفر عنه الجولة الأخيرة والحاسمة فى يوم الثلاثاء الموافق السابع عشر من فبراير القادم من فتح الملفات العميقة بين الطرفين وتناول قضايا لا تزال محل خلاف أهمها .. مسألة المناطق الثلاث ( جبال النوبة والنيل الأورق وأبيى ) ، والتى بدأ النقاش فيها ثم رفعت الجلسات بحجة أداء فريضة الحج وعطلة أعياد الأضحى المبارك ، وكذلك ملف تقسيم السلطة وما يتعلق بها من مسائل حساسة.
إلا أن هناك بعض المحاذير التى تحيط كنف المفاوضات وفى مقدمتها المناطق الثلاث وخاصة منطقتى جبال النوبة والنيل الأزرق ، والتى أصبحت أضعف حلقة فى المفاوضات بعد أن بدأت تتكشف بعض توجسات الخوف بأن تتخلى الحركة الشعبية عنهما بتقديم تنازلات فى سبيل التمسك بمنطقة أبيى ، والتى بموجبها قل حماس الحركة الشعبية حيال منطقتى جبال النوبة والنيل الأزرق حتى لا تعيق حركة مسيرتها فى إطار حدود الجنوب الجغرافية المتفق عليها فى 1956 م ، بالإضافة الى شكل الحكم وعدم تحديد آلية لترتيبات الفترة الإنتقالية ووضع العاصمة القومية وإستيعاب قادة الحركة الشعبية فى الحكم ، والحكومة القومية ذات القاعدة العريضة وتجاهل القوى السياسية الشمالية والجنوبية والأطراف التى تحارب مع الحركة الشعبية جنباً الى جنب ومستقبل قواتهم ، والعلاقة بين الشمال والجنوب على أساس فيدرالى أم كونفدرالى ؟!.. مما يفتح المجال أمام المزيد من التحديات والتعقيدات الداخلية !.
وفى ظل هذه التطورات لقد أصبح خيارات أبناء النوبة متباينة ومتأرجحة من حيث التقديرات والتكهنات وما تسفر عنه هذه الجولة الأخيرة من المفاوضات ، وخاصة فى شأن مستقبل جبال النوبة التى ذاقت الأمرين وتجرعت فيها كؤوس ظلم ذوى القربى من جانب الحكومة ، وأمتطوا بعدها قطار الحركة الشعبية للسلام المتجه الى المفاوضات ولكن فى أى محطة يكون آخر المطاف ، بعد أن فوضوا زمام أمر قضيتهم ومستقبل منطقتهم للقائد جون قرنق للتفاوض نيابة عنهم ، وهم فى إنتظار أن يسلمهم مفاتيح السلام على ظهر ( حصان طروادة ) بجبال النوبة وهم يهتفون له فى مراسم إستقبال الفاتحين وهم فى تناسى تام بأن إنضمامهم للحركة الشعبية ليس كحلفاء مؤثرين ، بل إختاروا أن يكونوا مقاتلين فى صفوف الحركة الشعبية وصاروا وقوداً للحرب ، دون أى إستراتيجية حتى تهابهم قادة الحركة الشعبية وتضع لهم إعتبارات كمحالفين أقوياء فى كيان نوبى مؤسس يعمل جنباً الى جنب مع الجنوبيين داخل وعاء الحركة الشعبية فى نضالها المسلح عبر رؤى وأهداف وإستراتيجيات من أجل منطقة ومستقبل شعب جبال النوبة ، وليست من أجل الجنوبيين بالحركة الشعبية فقط ، والتى تبدلت وتغيرت وتمحورت فى أثواب عديدة مما أدى الى تهميش دور أبناء النوبة .. وبل تصفية خيرة قيادات أبناء النوبة على أيادى قيادات عليا فى الحركة الشعبية بعد أن شقوا عصى الطاعة والولاء للجنوبيين وأعلنوا تذمرهم صراحة لجون قرنق وسياساته ونهجه التعسفى ضد أهداف ورغبات أبناء النوبة ، والتى من أجلها أعلنوا إنضمامهم الى الحركة الشعبية ، نحن إذ نسرد جزئيات لبعض من المسكوت عنه .. حتى يعى أبناء النوبة جزء من الحقائق المرة والأليمة التى مارسها قادة الحركة الشعبية ضد النوبة وما يحاك لهم للإنتباه ، وليس بيان المدعو ( أجويت ) الذى تجرأ فيه ووصف فيها أبناء المناطق الثلاث ب ( ثالوث الشر ) ، وهذه ما هى إلا واحدة من حلقات التآمر الخفى والتى إستطاع فيها ( أجويت ) أن يعبر صراحة ما يجيش بصدور كل الجنوبيين ونظرتهم للنوبة وغيرهم ، وهو فى غفلة وجهل بقدر وحجم ومجاهدات ( المناطق الثلاث ) ، وللأسف بدأت تعلو بعض أصوات القادة الجنوبيين بأن منطقتى جبال النوبة والنيل الأزرق تختلفان حضارياً وفكرياً وإجتماعياً عن قضية الجنوب وهما خارج إطار حدود الجنوب الجغرافية ، وتمسكهما بهما فى فترة من الفترات ما هى إلا مطية لتحقيق ما عجزوا فى تحقيقه بقوة السلاح ، فأصبحتا الآن تشكلان عائقاً فى تقدم مسألة الجنوب ، فلذلك يجب التخلى عنهما بإعتبار أن أبناء هذه المناطق كفيلة أو بإمكانهما تحقيق مطالبهم لأننا لا ندير معارك نيابة عن الآخرين.
لذا لقد أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية فى الأونة الأخيرة إهتماماً بالشأن السودانى ، ونجحت واشنطن بموجبه فى الإشراف على ملف السلام وكثفت الإدارة الأمريكية إتصالاتها مع المسئولين السودانيين لتسريع عملية السلام ودعت الى تعجيل إقرار إتفاق نهائى وأبلغوا قادة الحكم غى السودان ، وأجرى وزير الخارجية الأمريكى للشئون الأفريقية تشارلز سنايدر ومسئول ملف السلام فى الخارجية السفير رونى بيرغر محادثات منفصلة مع الرئيس البشير ونائبه الأول على عثمان طه ووزير الخارجية مصطفى عثمان إسماعيل ووفد الحكومة الى محادثات السلام ، والتى ركزت على على تسريع عملية السلام وتجاوز القضايا الخلافية التى تبطئ المفاوضات ، بالرغم من تقديرهم للتقدم الذى طرأ على المفاوضات ، لكن المفاوضات أخذت وقتاً طويلاً .. وواشطن لها الإستعداد فى طرح إقتراحات وأفكار لمعالجة القضايا الخلافية العالقة والمرتبطة بملف المناطق المهمشة الثلاث ( جبال النوبة – النيل الأزرق – أبيى ) .. وإقتسام السلطة حتى تكون جولة المفاوضات القادمة حاسمة ، لأن هناك تعهد من طرفى النزاع الى وزير الخارجية الأمريكى كولن باول قبل ثلاثة أشهر بإقرار إتفاق قبل نهاية العام الماضى .. وتسعى واشنطن الى تعزيز مبادرتها من أجل إحلال السلام فى السودان بإعتباره إستراتيجية لخوض معركة إنتخابات الرئاسة للرئيس بوش .. وواحدة من إنجازات حكزمته لتضمن مع تحقيق الديمقراطية فى العراق .. ومحاربة الإرهاب فى أفغانستان.
وتبدو الصورة مفعمة بالتناقضات والغموض الشديد وثمة مخاوف بأن تمارس واشنطن ضغوط على الحركة الشعبية لتقديم تناولات معقولة بشأن ( جبال النوبة والنيل الأورق ) لتمكن الجانبين من الوصول الى حل توفيقى فى شأن القضايا العالقة ، لكن أبناء هذه المناطق لا يقبلوا بأى شئ أقل من الحكم الذاتى ذات صلاحيات واسعة وحق الاستفتاء أو تقرير المصير بعد سنوات الفترة الإنتقالية الست أو تخيير المجتمع الدولى وعلى رأسها أمريكا بوضع إقليم جبال النوبة تحت الوصايا الدولية والتلويح بتوفير كل الضمانات التى تكفل لهم كل حقوقهم ومطالبهم المشروعة دون المساس من الشمال أو الجنوب بمكتسباتهم.
أصبحت عملية السلام فى السودان تمر بمنعطف خطير لا أحد يعرف ما سيحصل لأن العقل الأمريكى الذى يقوم بهذه الهندسة السياسية عقل له خبرات وتجارب كبيرة على مختلف شعوب المعمورة ، ويستفيد من هذه الإتفاقيات ولذلك تبرز هيمنته وضغوطه ومحاولاته ( اللائية ) فى تمرير ما يعتزمه ، لأن الفرصة مواتية فى الوقت الراهن .. وحكومة الخرطوم تريد تحسين علاقتها مع واشنطن وهى أكثر إستعداداً اآن لتقبل سياسات وتغليمات أمريكا من أى وقت مضى ، خاصة بعد زهور قائمة بأسماء أثنى عشر من كبار قادة الحكم مكلوبين للمحاكمة كمجرمى حرب ، غير إنه إذا إستحال التوفيق بين مواقف الحكومة والحركة الشعبية فقد تكون الإجابة عندئذ نموذج فرانسيس دينق دولة موحدة تعمل بنظامين فى السودان:
■ دولة مسلمة فى الشمال.
■ دولة جنوبية مسيحية علمانية.
■ كيانات تتمتع باستقلال فضفاض فى جبال النوبة والنيل الأزرق وأبيى ودارفور والشرق.
إلا إن هذه التسميات التى تطلق على تلك الصيغ مثيرة للجدل .. وهى تسميات إنتقائية ، لكن من المؤكد لقد أصبح السودان أمام ( حل دولى ) وخيارات محددة أمام الحكومة والحركة الشعبية .. فالولايات المتحدة أصبحت سيدة الموقف وحديثنا الذى ذكرناه خير دليل على صدق ما ذهبنا اليه بالرغم من تجاهل الكثير بأن السلام الجارى اآن صنيعة أمريكية .. بأى كيفية هى ما تحدده الأيام المقبلة لمسار ومنحى المفاوضات وما يتم تحت الطاولة من إتفاقات سرية.
سدنى – استراليا 20 نوفمبر 2007 م