الطفل مصطفى سعيد مريض بمتلازمة التوحد (الجزء الثاني)!!
فقر الذكاء العاطفي، غني التفكير، تلكم مأساته الأولى!!
(في ذكرى الطيب صالح وشخوصه الحية)
(الجزء الثاني)
هذا ما قاله الفتى عن طفولته، الاعتراف، سيد الأدلة:
"أنني لست كبقية الأطفال في سني، لا أتأثر بشيء، لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثنى علي المدرس في الفصل، لا أتألم لما يتألم له الباقون. كنت مثل شيء مكور من المطاط، تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز" (1)
هذه الحالة الآن، تسمى "ضعف في الذكاء العاطفي"، إي ضمور الانفعال الوجداني بما يجري حولك، من مشاركة وجدانية وإنفعالية، كما نرى عند كل شخص سوى، "والاستواء درجات"، في تمثله لوقائع الحياة، وانفعاله بها، وتأثيره فيها، في جدلية التلاقح، والتفاعل، والولادة لوعي نضير فيه، ومن ثمة تأثيره عليها، فمثلا من يتابع قناة الجزيرة، ويرى الحروب والأحداث فتدمع عيناه، أو يوافق على فكرة سياسية طرحت، أو يغالط بخواطره ما طرح، ويفنده، (هنا تبدأ بذر التغيير، فالعاطفة هي من يثير الفكر من أجل التغيير).
لم يمر بتاريخ البشرية رجل محب عظيم، يهوى الأرض وأهلها، وإلا ترك أثرا فكريا يعالج به بما (آذى قلبه)، فقد لام غاندي نفسه، رغم جبروت نضاله، حين همس لقاتله، وهو يحتضر (أنا المذنب لأني لم أعلمك معنى الحب)، ومثل نبي الإسلام، عليه المحبة، حين قال لأصحابه، في مضارب كل الصحارى والقرى النائية، والمدن البعيدة عنه : (لا يشاك أحدكم الشوكة حتى أشعر بها في قدمي)، بل يعلم (خواطرهم وبؤس أحلامهم: كيف أصبحت ياحارثة)، ثم جاءت بركات تفكيره، ورسالته، أي ثمرة (العاطفة التي وقرت في مضغة قلبه)، وهي أس التغير، في قلب كل رجل صالح، (حتى خلوة/سجن غرامشي، وروزا لوكسمبروج، أورثت عاطفة نبيلة، تجاه الكل، حتى السحب والعشب)، ثم يعقبها الفكر، ومن ثمة ثورة التغيير (وليس الهروب، والتوحد)، كما جرى للطفل المتوحد، مصطفى سعيد (ليت بمدينة بالخرطوم حينها، مراكز علاج نفسي، أو روحي)، لتغيرت حياته، برمتها، واستفاد العالم من جمال عقله، وسحر قلبه، ولكن جرت حياته، أمثولة للعقل الجاف، فراح ضحية مرض عضال أصاب قلبه، وعقله، معا، وجعله ملك الفرار، ليس من لندن، والخرطوم، بل حتى من قرية دومة ودحامد البسيطة، التي فر إليها، ثم فر منها، وقد نصبته (في تلك الهنيهة التي عاش فيها) رئيسا للتعاونية، وحكما لأمورهم البسيطة، بما أكتسبه من تجربة وعلم، وسفر، ولكنه زرع فيهم "الغيرة، والدم والانتقام"، فدفنت القرية ود الريس وحسنة، وكأنها تدفن أثاره السلبية، دوما، آثار عقل ذكي، بلا عاطفة نبيلة، وما اخطر أمثال هؤلاء "هتلر، بعض جنون ونزوات نتشة الجميلة "نسبيا" في مرضه النفسي،، وغيرهم من عتاة العقل والمكر، ونسيان نبض القلب الأمومي "بالمعنى المجازي للأم"، كقلب غاندي، وجوته، وسرب آخر، لم يقدم الفاضل على المفضول، أي العقل على القلب (فالحياة هي الشعور)، وليس الذكاء (فالطبيعة ذكية جدا في صرامة قوانينها المادية)، ولكن نملة صغيرة، سوداء، أروع منها، برمتها، فقد قفزت (للحياة، للشعور) وهي تحن لإكرام صغارها، بخزن القوت "والجبل قربها تتهاوى صخورة ولا يبالي، جبل أشم، وهي حقيرة صغيرة، لكنها "تحب"، رغم ذكاء ذرات الجبل وعلاقتها بالنواة، والالكترون، وفنون القوى الثلاثة، قوى الطبيعة الصارمة الذكية، كعقل، وليس عاطفة نبيلة، فحداء الحياة، هي العاطفة الآن، بعد أن كان العقل الصارم، بدخول القلب، (وأن كان قبلا، حتى في مرحلة الجنين).
قد تسمى تلكم الحالة، (صدأ القلب)، ولكل فكر عظيم، روحي، أو وضعي، طرائقه لأيقاذ تلكم المضغة العملاقة "القلب"، من ثباتها، كي تنفخ الشعور الاصيل في الحياة، ولا تعادي كل من نعق، بل تجري بها حكمتها لمحبة كل مغني، ولو اختلف اللون والمعتقد، وهي ترى "أي تلكم القلوب الكبيرة"، الأب آدم، والام حواء، مثل رؤية ابن العربي (أن الكون أنثى)، وهو يقصد رمزية جماله، كله، ودقه صنعه، وفتنة أنفاسه، وهي تنبثق نباتا، وحيوانا، وجنا، ولذا لم يعاتب راهبا، أو ناسكا، أو نصرانيا (بل اعتنق مذهب الحب)، ومثله جوته، وغيرهم من أصحاب القلوب الجائشة بالعطاء، كما أن لمرض (الصدأ القلبي، عدة أدواء)، كما حكيت في كثير من الأفكار والاديان، من تأمل، (وامشي حفيان)، كما قيل لمريد جاف الطبع، أو قراءة القرآن، كما اوصى النبي رجل صلف جاف القلب (أنها لتصدأ كم يصدأ الحديد)، أو أتحب؟ كما سأل راهب تلميذه، فقال له لا أحب سوى (معزتي)، فقال له أصبر عليها، فسوف تصل.
ثم ماذا قالت عنه مسز ربسنون، وفي كلمات بسيطة، كلمة من يعرف "الأطفال"، (إنه كان طفلا معذبا)، فهل أدركت سر حزنه العظيم، المرضي؟ وهذا سنمر عليه في بقية المقال، وهي ذات الكلمة التي قيلت له في عنفوان شبابه، وفي لمحكمة (إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة)، ولاشك يعني التكوين العاطفي، أي الحس العميق والشعور بالجمال حولك، والتعاطف مع الأشياء الأحياء.
(أن الذكاء العاطفي يتشكل في سنى الطفولة، إلا أنه يمكن تنميته، ودعمه خلال مرحلة النضج، مما يعود بمزايا فورية على الصحة والعلاقات الاجتماعية والعمل)(2).
ولكن أصغي معي للشاب مصطفى سعيد، وهو في قلب لندن، ماذا كان يرى فيها، وقبلها "القاهرة (كلها")، لم يراها سوى حضن مسز ربنسون (أي مجرد امرأة)، وليتها كانت رمزية (كابن العربي)، ولكنها مجرد امراة فراش، يقضي وطرها منها، ثم يسرج غرائز شهوته الجامحة "لخيمة أخرى"، في طريقه المحزون "آآآه كم أرثي عليك يا مصطفى"، أنت طفل معذب، بحرب ضروس تدور رحاها بين جوارحك.
هاهو الشاب مصطفى (في كرسي الاعتراف)، ومثل ما اعترف في طفولته، فلنصغي إليه في شبابه، وما الشباب سوى صدى الطفولة، بصورة ما، (وسمح الكلام في خشيم سيدو):
(ثلاثون عاما، كان شجر الصفصاف يبيض و يخضر و يصفر في الحدائق، و طير الوقوق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاما و قاعه البرت تغص كل ليله بعشاق بيتهوفين و باخ، و المطابع تخرج الاف الكتب في الفن و الفكر. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت و الهيماركت. كانت ايدث ستول تغرد بالشعر، و مسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب و الالق. البحر في مده و جزره في بورتمث و برايتن. و منطقه البحيرات تزدهي عاما بعد عام، الجزيره مثل لحن عذب، سعيد حزين، في تحول سرابي مع تحول الفصول، ثلاثون عاما و انا جزء من كل هذا، اعيش فيه، و لا احس جماله الحقيقي، و لا يعنيني منه الا ما يملا فراشي كل ليله) (3).
هذه حالة الشاب "مصطفى سعيد في لندن"، سوق الحضارة حينها (شئنا ام أبينا"،، فأي صراع هنا؟ لشاب أو فتى لا يعرف (أمه، "أمو" بالسوداني)، كي يبارز حضارة أخرى؟ أنه غير منفعل بها، ولم يلامسها مثلا، يعرف ويجس نبضها، ولكنها كانت امتداد لعلاقته مع "امه" في امدرمان، برود، وشرود، وموت عاطفة، حتى أنه لم ينبهر مثل الطهطاوي، وأبريزه في حب باريسه، ولكنه جاء للأنتقام (لو هربت مثل الأورد من العسكري البرينطة)، هل كنت ستحاربهم؟ ثم ما هي هويتك (أنت متأزم لأنك من أم تضهدها ثقافتك الرجعية، وهويتك لا تزال خلاسية حزينة لم توضح (عربي أم افريقي)، أم مسلم (وللحق جوهر الاسلام آخى بين بلال والرومي، والعربي والافريقي)، تلك قضية أخرى، ولكن مصطفى الطفل المعذب، في نفسه في البدء، وفي خفاء هويته، مشى من أجل الصراع؟ وبلدته لاتزال قابعه في عصور قديمة، أظن الاستعمار نفض عنها سبات ما، لو نظرنا بعين الحياد الفكري، والعاطفي النبيل، فالتاريخ (كما يقول الطبري)، هو إرادة الله، فأي صراع ياصديقنا إدوار سعيد، هذا؟.
لست من أنصار، صراع الحضارات، أحسها حضارة واحدة، قافلة، فيها المتأخر، وفيها المسرع، وفيها من غاب في المستقبل (نماذج الإنسان الكامل التي قدمتها البشرية في لمح قبس هنا وهناك)، أو غاب في الماضي (بعض الشعوب التي تدور كجمل الرحى)، لكنها حضارة بشرية، تتلاقح، وتتحاور، وتورث لكل ذي هم وصدق، (وهناك أمثلة لسودانين، وغيرهم كثر)، مثلا، هناك من عاش في قرية طين قرون اوسطية، بسيطة (ولكن روحها تسمو لاشك فوق الذرى)، ثم مضى، فدرسهم في عقر دراهم؟ فأي صراع هذا؟ الذي يتمثله فتى، من "عرب الجزيرة"، طفل عاش بطحين المرحاقة، وعولج بالحجاب والبسلمة، وركب الحمار للدرس، وحلق الذكر، وتحنن بطين الجرف حين أصابه مرض البرجم، ثم التهم فكرهم، الاكاديمي، وغيره، ثم كتب في السبورة، وخط في الدفتر، ورسم في القماشة، كمعلم لتلاميذهم، أي حضارة تمثلت في بعض عمر، لا أظنها تغيير عظيم، "إستحالي"، وكأنه اختلاف "نوع"، وليس مقدار، (بما جبلت فيه النفس البشرية، وئيدة التطور، عميقة المعنى)، وهي تبحث عن حل، تحس به في سويداء روحها، حل جذري، (وكلاهما تطلبه، الغرب والشرق)، ولكن حروب الديوك الصغيرة (اقصد العقول الصغيرة، المغرضة، أو الراهبة، لاترى سوى غبار ذاتها، فتصف الفيل بوحيد القرن)، لا تجني، مع المعنى العام للحل الأمثل، والأعرق، (أي قفز بني آدم)، لمقام الإنسان، والذي ظل يرنو له، منذ ان استلت الطبيعة جرمه، في شكل عشب، ثم حيوان، ثم بني آدم، وهو كل يوم "أو قرن، أو قرون"، يقدم رجلا على أخرى، قدم المادة، ثم "ضربة لازب"، تعقبها قدم الروح، فتلك هي سنة مشيه المقدور، والمقدود في صميم روحه، ومظهرها "جسده" منذ أن راوده الحنين الغريب (لجنة ما)، وكأن السعي للماضي، سعي للمستقل، فما أعجب الأمر، حين يمتزج الحنين للأقدم فينا، بالأخيلة للآت فينا.
أظن إشكالية مصطفى سعيد مع نفسه (الموزعة)، كان أكبر من صراع الحضارات، وإلا فهو لم يستطيع العيش في لندن، والقاهرة، والخرطوم، بل حتى دومة ود حامد، كلهن لم يمثلن له رحما دافئا، يعيش تحت كنفه، ويتحسس نفسه، حين يكون نمط الحياة حوله لا يضايق نفسه، وغرائزه، وروحه، (وروحه؟ هناك شعوب تطمس هذا الحق الأعرق) فيظل الإنسان غريبا عن نفسه، وبيئته، أنى كانت، وطالما هناك مقابر في ضواحي لندن، مثل ضواحي امدر واحمد شرفي، فالتحدى الأم "الموت"، قائما تجاه جلجامش، وكلنا جلجامش، بل الحياة برمتها ماهي سوى تحدي لهذا الأمر العجيب، وما إطاله العمر، بالحضارة والعلاج والرقى، سوى جانب من مبارزته، ليس إلا.
يتبع، الجزء الثالث..
هوامش:
(1) فقرة من موسم الهجرة.
(2) فقرة من كتاب (الذكاء العاطفي)، دانيال جولمان.
(3) موسم الهجرة
ganikaramalla@outlook.com
////////