العدالة الانتقالية تلاحق الرؤساء … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك

 


 

 

Ussama.Osman@yahoo.com

  

لم تفق ليبريا، وربما بعض الدوائر الأخرى في العالم، بعد من الزلزال الذي أحدثه نشر تقرير لجنة "الحقيقة والمصالحة" في ليبريا في مطلع هذا الشهر والذي اشتمل على توصيات في حق 52 شخصية عامة بسبب دورهم في الحرب الأهلية التي عصفت بليبريا في الفترة (1989-2003). ولقد أوصى التقرير بتقديم ثمانية من بينهم للمحاكمة وجميعهم من أمراء الحرب السابقين وعلى رأسهم شارلس تيلار الرئيس السابق والمسؤول الأبرز عن الحرب الأهلية، ومن بينهم أيضا شخصيات بارزة في الحياة السياسية حاليا. كما طلب التقرير حظر بعض الشخصيات من العمل العام لمدة ثلاثين عاما بسبب دورها في تمويل الحرب أو دعمها دعما غير مباشر بمساندة أحد أطرافها ومن بين هذه الشخصيات التي أوصى التقرير بحظرها من العمل العام السيدة هيلين جونسون سيرلاف رئيسة الجمهورية المنتخبة من قبل الشعب في انتخابات ديمقراطية شفافة في عام 2006. ومنهم أيضا أمير الحرب السابق وعضو مجلس الشيوخ حاليا السيد برينس جونسون، وأمير الحرب السابق وأستاذ الإعلام في جامعة ليبيريا حاليا الحاجي كرومة.

  

أنشئت لجنة "الحقيقة والمصالحة" بناء على ما اتفق عليه في اتفاقية السلام الشامل التي أنهت الحرب الأهلية في ليبريا في عام 2003. حيث أصدر البرلمان الانتقالي في مايو 2005 أمر إنشائها لتحقق في الانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني والعنف الجنسي والجرائم الاقتصادية التي وقعت أثناء سنين الحرب الأهلية وماقبلها (1979 - 2003 ) مع صلاحية التحقيق فيما قبل هذه الفترة إذا دعا الأمر والغرض هو المساهمة في توثيق جرائم الحرب وفظائعها ومعرفة جميع الذين أسهموا فيها والتوصية بإجراءات للمحاسبة وكل ذلك لنشر التعافي والتصالح وتوطيد الأمن والسلام. هل نجحت اللجنة في إنجاز المهمة؟

  بدأت اللجنة عملها بحسب أمر إنشائها في 9 يناير 2006 على أن تفرغ من عملها في 9 يوليو 2009،  وبالفعل نشرت تقريرها وأنهت أعمالها في 9 يوليو2009، دون أن تزيد يوما واحدا عن الأجل المضروب (من المصادفات البحتة أن تاريخ إنشائها قد جاء بعد عام بالضبط من توقيع اتفاق السلام الشامل في السودان ونهايتها هي نهاية أجل الحكومة التي نشأت عن الاتفاق في نظر قوى المعارضة 9 يوليو 2009، وأول الدروس المستفادة هو أن الالتزام بالقيد الزمني المضروب يجنب البلدان الكثير من المزالق والجدل). قدمت اللجنة تقريرها وتوصياتها للبرلمان المنتخب والذي تسيطر المعارضة على الأغلبية فيه للمصادقة عليها أو رفضها أو اتخاذ أي قرار آخر بشأنها يصبح قانونا نافذا بعد ذلك.   

مثل القرار صدمة للرأي العام في ليبريا لورود اسم الرئيسة بين من أوصى التقرير بحظرهم من العمل العام وهي رئيسة تحظى بشعبية كبيرة وباحترام واسع في الداخل وأكثر منه في الخارج. فهي الرئيسة التي خاضت الانتخابات الرئاسية مرتين خسرت في المرة الأولى أمام شارلس تيلار ، ثم عادت لتترشح من جديد بعد في عام 2005 بين عدد من المرشحين كان منافسها الأول هو لاعب كرة القدم المعروف جورج ويه وقد فازت عليه بفارق أكثر من عشرين في المائة. واستهلت ولايتها بوضع بلادها على مسار التعافي والإبلال من آثار الحرب والدمار ولقد حققت الكثير من المنجزات التي تذكر دائما من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كنماذج للتخطيط السليم لإعادة التأهيل في أفريقيا. كما أنها قد قادت حملة انتخابية من أجل الفقراء والنساء فسرعان ما طبقت ما وعدت حيث عينت أربع نساء في مواقع أساسية من بينها وزارة المالية والعدل والخارجية والمدير العام للشرطة القومية. ولقد وعدت بإنجازات معينة خلال ستة أشهر نفذت معظمها. وكان من أوائل قراراتها طرد 12 مديرا في الإدارات ذات الصلة بالتحصيل في وزارة المالية والجمارك ومصلحة الضرائب فكانت النتيجة أن زاد معدل الإيرادات عن الربط المقرر عند قدومها بنسبة 40% في خلال الأشهر الستة الأولى لولايتها. كما أنها قد بدأت مشروعات ذات عائد سريع يتوجه للفقراء. 

  

مأخذ اللجنة على السيدة الرئيسة هي أنها كانت قد ساندت شارلس تيلار عندما كان قائدا لتمرد أراد أن يطيح بنظام الرقيب صمويل دو الذي استولى على السلطة في انقلاب دموي عام 1979 واتسم عهده بفظاعة غير مسبوقة. أفادت في شهادتها أمام "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي مثلت أمامها في فبراير الماضي بأنها بالفعل كانت قد ساندت القائد المتمرد شارلس تيلار لاعتقادها بأنه كان يسعى لإزالة دكتاتورية صمويل دو وكانت قد جمعت أموالا (عشرة آلاف دولار) من الليبيريين في الخارج وأرسلت مؤنا ومساعدات إنسانية كانت تعتقد بأنها ستصل إلى المحتاجين ولن تستغل في إزكاء الحرب. ولكنها لم تكن يوما عضوا في أحد الفصائل المتحاربة. وأقرت بأن ذلك كان سوء تقدير من جانبها شأنها في ذلك شأن الكثيرين الذي كانوا يرون في شارلس تيلار المخلّص قبل أن يرونه ينقلب إلى طاغية أفظع من صمويل دو نفسه.

والمعروف أنها ككثيرين غيرها كانت قد توقفت عن دعمه وسعت لمقاومته والوقوف ضده وقد خاضعت الانتخابات ضده وخسرتها في عام 1998. وتعاونت مع المجتمع الدولي حتى تم القبض عليه في نيجيريا وسلم للمحكمة الخاصة في لاهاي.

  

يبدو أن اللجنة قد جمعت من الشهادات ما يجعل دورها في التمويل أكبر من الدور الإنساني الذي ذكرت كما أن التقرير أشار إلى أنها لم تبد الندم وتعتذر الاعتذار الكافي مقارنا بدورها. فالتوبة النصوح والاعتذار الصادق من العوامل التي تأخذ بها اللجنة في إصدار التوصيات فقد أوصت بأن يترك الجنرال ملتون بلاي الذي كان يعرف بالجنرال ذي المؤخرة العارية لأنه كان يتجول في أرض المعارك وهو ينتعل البوت فقط ويسير عاريا. أوصت اللجنة بتركه دون ملاحقة من أي نوع على الرغم من أنه اعترف بأنه قد ارتكب فظائع أدت إلى هلاك قرابة عشرين ألف نفس ولكنه تعاون مع اللجنة بشكل كامل وأبدى ندمه وتوبته منذ نهاية الحرب وصار قسيسا متعبدا في إحدى الكنائس ومعه لفيف من جنوده السابقين ممن أعلنوا توبتهم وصاروا يقدمون خدمات مجانية في مناطق ضحاياهم تكفيرا عن ذنوبهم.

  

وبعد مضي أسبوع واحد من نشر التقرير اختلف الناس حوله اختلافا كبيرا من مؤيد ومعارض مما جعل البلاد في حالة انقسام لم تشهده منذ نهاية الحرب الأهلية على الرغم من وجود حكومة قوية ومعارضة فاعلة.

  

يرى البعض في ليبريا أنه لا بد من تنفيذ توصيات التقرير حتى يكتمل بناء السلام على أسس سليمة. ويرى بعض الليبيريين في التقرير سانحة يمكن أن تجعل من ليبريا مثالا عندما يبعد عن تسيير أمور الدولة كل من كان له صلة بسنوات الحرب وأن يتولى الأمر جيل جديد من الليبيريين المؤهلين الذين تعج بهم المهاجر خاصة الولايات المتحدة وهو تفكير يدل على رغبة في القطيعة مع الماضي المأساوي وتمني فتح صفحة حقا جديدة ناصعة.

  

ويتسآل البعض الآخر عن النتائج المتوقعة إذا أقر البرلمان توصيات التقرير ورفض أمراء الحرب القدامى الامتثال للأمر بإلقاء القبض عليهم للمحاكمة وقرروا أن يحاربوا من يتصدى لذلك، كما نسب للسناتور برينس جونسون الذي ورد اسمه في التقرير، وقد أفاد أيضا بأن البرلمان الانتقالي كان قد أصدر في عام 2003 عفوا عاما عن كل من شارك في الحرب ولا يرى سببا لأن توصي اللجنة بتقديم البعض للمحاكمة (لاشك أن البرلمان المنتخب كان يعرف تلك الحقيقة عند إقرار قانون إنشاء اللجنة) أو ليس في ذلك خطر العودة إلى الحرب والابتعاد عن السلام الذي أنشئت اللجنة لتساهم في توطيده؟

  

ولقد بدا التشكيك في عمل اللجنة حتى من بعض أعضائها حيث رفض اثنان منهم التوقيع على التقرير النهائي وأطلقا تصريحات بأنه لا قيمة له، لا لسبب إلا لأنهما لم يوقعا عليه. وربما أجمع الناس على نزاهة أعضاء اللجنة ولكن هنالك الكثير من التساؤلات عن المنهجية التي اتخذتها في تحليل ومضاهاة الأدلة.

  

فبينما ترى السيدة كورين دوفكا من مكتب أفريقيا في منظمة هيومان رايتس ووتش بأن التوصية بإصدار حكم بحظر سياسي من العمل العام لمدة ثلاثين عاما أمر على درجة من الأهمية مما يوحي بأن اللجنة قد تحرّت جيدا قبل صدور التوصيات، يرى د. سليمان بلدو، الخبير في قضايا العدالة الانتقالية ومدير قسم أفريقيا في المركز الدولي للعدالة الانتقالية بنيويورك بأن موافقة السيدة هيلين سيرلاف على استمرار عمل اللجنة وتشجيعها لها والعمل على توفير التمويل لعملها على الرغم من معرفتها بأنها ستنظر، ضمن أشياء أخرى، لدورها في بدايات الحرب الأهلية يدل على التزامها بمعرفة الحقيقة وترسيخ آليات العدالة الانتقالية كوسيلة من وسائل الحكم الرشيد. كما يرى أن من المهم النظر في المنهجية التي اتبعت وتقييم الشهادات التي نظرت فيها اللجنة. وفي نهاية الأمر يرى أن أكثر الجوانب إيجابية في صدور تقرير اللجنة هو أنها قد كسرت الحاجز وصار التقرير يتداول في الشارع العام ولم يعد الحديث عن الرئيس أو دوره ومسؤوليته من المحرمات التي لا يمكن الحديث حولها، وانهار بالتالي مبدأ "عصمة الرؤساء" المتخيّل في أفريقيا. وربما انسحبت ملاحظات دكتور بلدو هذه على الكثير من البلدان في غرب أفريقيا وليس ليبيريا وما بدأ في ليبيريا يمكن أن يعد كل القارة.

  

كما أن فتح هذا الملف يجئ في الوقت المناسب لأن الاتحاد الأفريقي ينظر في أمر محاسبة الرؤساء في القارة الأفريقية ومسؤوليتهم تجاه ما يقع من انتهاكات تجاه شعوبهم وما هي أفضل الوسائل لتحقيق العدالة ولقد وجد الاتحاد نفسه أمام هذا التحدي على ضوء الطلب بالقبض على الرئيس السوداني باتهمات متعلقة بالصراع في إقليم دارفور مع مقولات عن استهداف أفريقيا والانتقائية في الأحكام من قبل المحاكم الدولية. إن لجنة "الحقيقة والمصالحة في ليبيريا لجنة ليس فيها تهمة  استهداف من الخارج لأنها ليبيرية بشكل تام حتى تمويلها جاء بقرار من البرلمان المنتخب. ولا شك أن لجنة حكماء قد نظرت باهتمام لهذه التجربة وهي تجمع الأدلة وتستمع لمختلف الآراء في مسألة دارفور قبل أن تصدر توصيتها النهائية للاتحاد الأفريقي الذي كلفها بالمهمة.

  

وأيا كان مسار الأحداث في ليبريا يكون صدور قرار اللجنة قد فتح الباب للأسئلة الكبرى عن ثنائية العدالة والسلام، ولأيهما السبق إن تعذر توازي المسارين. كما أن التقرير يعد خطوة في ترسيخ مبدأ المحاسبة وأن عهد الرئيس أو الزعيم مطلق اليد يفعل بشعبه ما يشاء قد ولى، ذلك أن القهر والظلم وإن كان في وقت مضى فإن ظلاله ستظل تلاحق فاعله مهما طال الزمن وفي ذلك عنصر ردع مهم في منطقة مثل القارة الأفريقية والمنطقة العربية حيث تسود فيها العقلية التي لخصها رسم كاريكاتوري نشرته إحدى الصحف المصرية عند صدور طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتوقيف رئيس السودان. أبرز الرسم صورة للرئس المصري وهو يتسآل مستغربا: "طب دا واحد بيأدّب جماعته الناس بتتحشّر ليه؟"

 

هل تنظر لجنة للحقيقة والمصالحة في السودان يوما ما في المظالم التي وقعت والانتهاكات التي حدثت في تاريخ السودان منذ الاستقلال وحتى تاريخ تكوينها بما في  ذلك ملابسات الانقلابات العسكرية ما نجح منها وما لم ينجح وما تبعه من محاكمات مرورا بفظائع الحروب الأهلية في الجنوب وفي دارفور وممارسات أجهزة المخابرات وبيوت الأشباح وضحاياها وقمع انتفاضات المواطنين منذ عهد مظاهرات أهل حلفا ضد اتفاقية السد العالي وحتى انتفاضات أهل كجبار والحماداب وضحايا مظاهرات بورتسودان، من أجل الحقيقة وإنصاف الضحايا والتعافي الحقيقي حتى وإن لم يكن لها تبعات قضائية على فعلة الانتهاكات والجرائم التي وقعت.

  

ومما ينبغي الانتباه إليه هو أن تجارب العدالة الانتقالية تتعدد بتعدد أماكن تطبيقها وتجربة جنوب أفريقيا تظل تجربة جنوب أفريقية في نهاية الأمر وإن كانت مصدر إلهام للكثيرين في القارة، تماما كما هو حال محاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا والتي تلقت دعما معنويا قويا مؤخرا بقرار محكمة سويدية تسليم أحد المطلوبين للعدالة من الفارين الذين كانوا يحتمون ببلدان أوروبا وقوانينها. كما أن نظر المحاكم الأسبانية في قضايا لم تقع في أسبانيا على الرغم من الصعوبات التي تعترضه يمثل بادرة أمل في كسر الانتقائية التي تمثل نقطة الضعف الأساسية في محاولات إقامة نظام عدالة دولي. رفعت جماعات مجتمع مدني دعاوى ضد قادة إسرائيل والرئيس بوش والرئيس الروسي وزعماء الصين. وستظل المحاكم الأسبانية تقبل هذا النوع من الدعوات ما لم يتغير القانون تحت الضغوط الخارجية والأوربية.

  

يبقى أن نذكر أن ليبريا ينظر إليها المجتمع الدولي ومجتمع المانحين بعين الرضا معتبرا إياها مشروع "قصة نجاح" في القارة في التعافي والخروج من دمار الحرب ومحاولة النهوض من جديد كما أن الرئيسة سيرلاف تمثل النموذج المشرق لنوع الحكام المطلوب في أفريقيا فهي أول رئيسة أفريقية وهي درة صدر المحافل الدولية ولها علاقات جيدة مع مجموعة الاتصال الخاص بليبيريا والمجلس الأعلى للمرأة وهو منبر دولي يضم الرئيسات ورئيسات الوزراء الحاليات والسابقات ويعمل على دفع قضايا المرأة. كما أن لها علاقات وطيدة في الأسرة الدولية بنتها منذ أيام عملها في الأمم المتحدة والبنك الدولي وعندما كانت مديرة لفرع سيتي بانك في نيروبي.

   نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 14 يوليو 2009  

 

آراء