العقيدة المهدوية وإضفاء الشرعية على الثورة الشعبية في غرب السودان. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
Mahdist faith and legitimation of popular revolt in Western Sudan
ليدوفين كابتيجز Lidwien Kaptejins
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نشر هذا المقال للدكتورة ليدوفين كابتيجز في عام 1985م بالعدد الخامس والخمسين من الدورية البريطانية العريقة "أفريقيا Africa " والتي تصدر عن دار نشر جامعة أدنبرا. المؤلفة هولندية الأصل درست في جامعتي أمستردام ولندن، وتخصصت في تاريخ السودان (خاصة تاريخ مساليت دارفور بين عامي 1870 – 1930م) واتجهت مؤخرا لدراسة تاريخ الصومال. تعمل الآن كبروفسيور في جامعة وليزلي الأميريكية حيث تتولى تدريس مادة تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا.
الشكر موصول لدكتور محمد حسن تاج الدين لتصحيحه لبعض أسماء المدن والقبائل الدارفورية.
******** ************
يعتمد هذا المقال على دراسات أوسع وأشمل لتاريخ غرب السودان خاصة في المنطقة الواقعة بين سلطنتي دارفور ووادي بين عامي 1882 – 1930م، ويبحث في أمر إيديولوجية مهدي السودان وثورته من واقع وثائق أرشيف المهدية والمعلومات المستقاة من أفواه الناس والوثائق البريطانية والفرنسية. تعتب الكاتبة على كثير من الكتاب المستشرقين إغفالهم للفروقات الهائلة بين الظواهر السياسية والظواهر الاجتماعية – الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية بتركيزهم على التعابير الإسلامية الشائعة والتي عن طريقها تقوم تلك المجتمعات بتفسير ونقد وإضفاء الشرعية على الوضع (الحاكم) القائم. تدور هذه الورقة باختصار حول بعض الحالات التي ثار فيها المسلمون مستخدمين أيديولوجية اسلامية (مهدوية في الغالب) لإضفاء الشرعية على تخويل السلطة للقادة الجدد – على الرغم من أن تلك الثورات والهبات نشأت في سياقات سياسية مختلفة، واندلعت أساسا بسبب الضيق والعنت الاقتصادي والاجتماعي الذي كان يرزح الناس تحت غوائله لأسباب مختلفة.
قدمت المؤلفة في بداية بحثها تلخيصا لجغرافية وتاريخ المنطقة جاء فيه ما يلي:
كانت السَلْطنتان المسيطرتان في المنطقة قبل غزو الأتراك لها في عام 1874م هما وداي (في أقصى تشاد الحالية) ودارفور (في أقصى غرب السودان)، وتفصل بين السلطنتين عدة دويلات صغيرة منها التاما والقمر والسنيجار، ثم قامت سلطنة للمساليت بعد ثمانينات القرن التاسع عشر. كانت اقتصاديات تلك السلطنات والدويلات تعتمد بشكل رئيس على الزراعة المطرية ورعي الحيوانات، وينقسم السكان (والذين كانوا من أصول عرقية مختلفة) في المنطقة لطبقتين لا ثالث لهما: طبقة الحكام وطبقة المحكومين (ويطلق عليهم لفظ "المساكين") ويتحدث جميعهم بلغات يطلق عليها الآن عائلة اللغات النيلية – الصحراوية Nilo – Saharn.
كان الإسلام هو دين كل دويلات غرب السودان حيث ارتبط الدين فيه في البدء بالتقاليد المحلية للفور ووداي بسبب أن هؤلاء هم من أدخلوا الإسلام لكامل المنطقة في أعوام القرن السابع عشر. رغم ذلك ظل عوام السكان يؤدون فرائض الإسلام (باعتبارهم رعية لحاكم مسلم Cuius regio, eius religio أي أن "الناس على دين ملوكهم") ولكنهم يمارسون عاداتهم وتقاليدهم المعتادة والتي كان بعضها يخالف صحيح الدين مثل شرب مريسة الدخن كغذاء يومي، وتوريث الحكم في الذكور من عائلة الحاكم. كان الحكام في تلك السَلْطنات والدويلات يسوغون لشرعية حكمهم بالالتزام بـ (مظاهر) الدين وبأصول عربية (مزعومة)، ويستخدمون اللغة العربية في كل المكاتبات الدبلوماسية الرسمية.
وخلافا لوادي النيل والذي خضع للحكم التركي المصري في 1821م لم يخضع إقليم غرب السودان لذلك الحكم إلا في 1874م، بيد أن الصراع والنضال ضد ذلك الحكم وفساده بدأ في وادي النيل حيث قام الفكي / الصوفي محمد أحمد (المهدي) بإعلان الجهاد (والحرب المقدسة) ضد الأتراك. لم يشر المهدي في ثورته الدينية تلك للحكم الوطني (سلطنة الفونج) الذي كان قائما قبل الغزو التركي بل كان يشير دوما للجهاد ضد الكفرة الطغاة والواجب على كل مسلم قادر. أضفى محمد أحمد الشرعية على قيادته لتلك الثورة الدينية بتأهيله ووضعه الديني ك "مهدي"، فوجدت تلك الدعوة ضد الحكم التركي المصري قبولا وحماسا منقطع النظير في غرب السودان، حيث كان يعاني عوام الناس من الضرائب الباهظة والمعاملة المهينة . أقنع المهدي هؤلاء الناس بأن ما يحيق بهم من ظلم وجور وعسف إن هو إلا بسبب ذلك الحكم الأجنبي الكافر، وأيضا بما اقترفته أيديهم من انحراف عن تعاليم الدين القويم. رحب الحكام المحليون في دويلات وسَلْطنات
غرب السودان بدعوة المهدي لإزاحة الحكم التركي المصري بسبب سلبه لهم لغالب سلطاتهم، ولما كابدوه في سنوات حكمهم من ضيق وعنت وعسف وجور. بيد أن هؤلاء الحكام المحليون اكتشفوا في ثمانينات القرن التاسع عشر (وخاصة بعد تولي الخليفة عبد الله للحكم خلفا للمهدي في 1885م) أنهم إنما استبدلوا مستبدا بآخر يشابهه، وحكومة مركزية جائرة بأخرى تماثلها لا ترغب إلا في سلبهم لسلطاتهم المحلية المشروعة. كتب سلطان "وداي" في أغسطس من عام 1885م للأمير المهدوي في دارفور خطابا يفيد الآتي: "نؤمن ونصدق تماما في ما ورد في خطابكم لنا من حجج قوية وأدلة دامغة. صحيح أن هذا الزمن هو زمن المهدية وليس زمن حكم دنيوي، وبحسب ما أمرتونا به فقد أعطينا البيعة لسيدنا محمد يوسف سلطان وداي... نطيع أوامره فالمهدي سلطان زمانه وليس بالضرورة أن يكون السلطان ولدا لسلطان".
كانت مقدم المهدية للمشهد في دارفور يعني نهاية نظام الحكم بالتوريث كأساس لشرعية الحكم. وفي الخطاب الذي بعثت به السلطات المهدوية لسلطان وداي خير مثال على ذلك: "ما الفرق بين رجل يؤمن بأن الأرض هي لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وبين آخر يقول بأن الأرض هي أرض أبي وأسلافي".
لما ظهر لأول مرة للمساليت سلطان (لم يكن له بالطبع عائلة حاكمة ورث منها الحكم) عدت السلطنات المجاورة كوداي ودارفور ذلك حكم ذلك السلطان الجديد وسلطته فاقدة للشرعية ومرفوضة بالكلية. تبنى سلطان المساليت المفهوم المهدوي لإضفاء الشرعية على حكمه فوصف نفسه بأنه سلطان (مسلم/ مهدوي) ووصف جيرانه بأنهم "سلاطين أتباع الطقوس الوثنية الذين لا يؤمنون بالعقيدة المهدوية".
كان الحكم المهدوي يهدد سلاطين غرب السودان بطرق مادية أكثر وضوحا مثل جمع الضرائب والمُكُوسٌ الباهظة والتجنيد الإجباري والتهجير القسري للسلاطين وأتباعهم لأمدرمان لتلقي "مقررات / كورسات تجديدية/ تنشيطية refresher courses" في أصول الفكر المهدوي، وليبقوا في المدينة ك"ضيوف على الخليفة" لفترات غير محددة من الزمن. وإضافة لكل ذلك كانت هنالك ممارسات الجيش المهدوي الموجود في غرب السودان والتي لم تجد القبول من عامة السكان هنالك فأطلقوا – من باب التهكم- على أنصار الجيش المهدوي "كبو كلو" لأنهم كانوا يهاجمون منازل المواطنين بغتة بحجة البحث عن المسكرات ويأمرون أصحاب كل دار بدلق محتويات كل القدور التي لديهم، ويصادرون من مقتنيات السكان ما يعجبهم. وفي ذلك قال (قالت) شاعرهم (شاعرتهم):
كبو دا هم جو
في "إيرجي" دامرو (أي عسكروا)
"درب شلال" بقي لينا مدة
مسكين جهجهو
كان السكان المحليين (المساكين) يشعرون بأن الأنصار القادمين لمنطقتهم يتعالون عليهم ولا يكنون لحكامهم غير الاحتقار ويسومون من يجدون عندها مادة مسكرة (مريسة أو غيرها) أشد صنوف العقاب مما جعل الفرق في نظرهم بين الحكم التركي- المصري والحكم المهدوي معدوما.
في سبتمبر من عام 1888م بلغ السخط بين سكان غرب السودان مداه فأدي لهبة قادها فكي لم يكن معروفا لدي الكثيرين اسمه "محمد زين" وعرف أيضا بـ "أبو جميزة". أعلن أبو جميزة صراحه تمرده على الدولة المهدوية وممثليها في دارفور ووصفهم بأنهم حكام قمعيون و"كفار" أيضا ودعا لحرب مقدسة لطردهم. لم يزعم أبو جميزة أنه "المهدي المنتظر" أو "النبي عيسى" والذي يفترض أن يأتي بعد المهدي في نهاية الزمان، بيد أنه زعم أن الله قد دعاه لقيادة الأنصار ضد ذلك "الدعي الكذاب في أمدرمان". جمع أبو جميزة خلفه خلقا كثيرا من المساليت والتاما وايرنجا استطاعوا هزيمة فرق جيش الأنصار في مناطق عديدة، وأفلح الرجل في نيل دعم سلاطين المنطقة فبعث إليه سلاطين دار تاما ودار زغاوة ودار مساليت ودار قمر ودار فور (وكان الأخير هاربا من المهدويين) بأعداد كبيرة من الجنود ليحاربوا معه ضد جيش المهدية. وبتأييدهم لهبة أبو جميزة حصل سلاطين المنطقة تلقائيا على تأييد شعوبهم في هبتهم السياسية وتفادوا مأزق الحسد بينهم الذي كان يمكن أن يحدث نتيجة للمنافسة مع ذلك الفكي الواسع الشعبية. في نوفمبر من عام 1888م أفلح جنود غرب السودان بقيادة أبو جميزة في هزيمة الجيش المهدوي والذي كان مكونا من 15253 رجلا مما هدد سلطة المهدية في دارفور تهديدا جديا. بيد أن حركة أبو جميزة هزمت في نهاية المطاف في يوم 22 /2/ 1889م ، فأتباعه (من "الصالحين") لم يكن باستطاعتهم الموازنة بين الأجنحة المتصارعة في وسطهم وتنازعتهم الولاءات المتعددة لسلاطينهم القبيلين ولأبي جميزة قائدهم الشعبي والذي توفي متأثرا بمرض الجدري قبل أن يشهد المعركة الفاصلة (غير المتكافئة) قرب الفاشر بين جنده ضعيفي التدريب والتجهيز وجنود المهدية المتمرسين والذي بلغ عددهم 36419 منهم 7656 كانوا مزودين بأسلحة نارية و3591 على ظهور الجياد.
وكما فعلت المهدية من قبل (بإغفالها لما سبقها من نظام وطني)، لم تكتسب حركة "أبو جميزة" شرعيتها عند من شاركوا فيها باعتبار "النظام القديم ancien regime" والذي كان سيعيدونه إن انتصروا، بل بتركيزهم على العسف الاجتماعي والقمع الديني لحكم خليفة المهدي، وكذلك على وضعيه قائد هبتهم الدينية كفكي صالح واجب الاتباع. لذا فقد كان لدعوة المهدي "أثر مرتد
“Boomerang effect في غرب السودان لأن "أبو جميزة" قائد الانتفاضة ضد المهدية أفلح في استخدام ذات اللغة والمعاني التي كان يستخدمها المهدي وبذات سلاحه الأيديولوجي.
ليس من المعروف إن كانت هنالك أي حركة شعبية حقيقية أو ثورة دينية المنشأ ذات أثر قد اندلعت في غرب السودان غير حركة "أبو جميزة". بيد أنه في أخريات أعوام القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين قامت عدة حركات من ذلك النوع، ورغما عن أن المعلومات عن تلك الحركات ظلت شحيحة إلا أنه يمكن القول بأن تلك الحركات – وعلى وجه الإجمال- تؤيد الرأي القائل بأن "الدعوة النبوية" أو "العقيدة المهدوية" صارتا طريقا شائعا لتبرير الثورة وإضفاء الشرعية عليها ضد السلطات القائمة. من الذين ظهروا في تلك السنوات كدعاة دينين أحد أفراد المساليت والذي أدعى في فبراير من 1892م النبوة/ المهدية، وسرعان ما حكم عليه سلطان المساليت أبكر إسماعيل بالإعدام. وفي عام 1895م تشير وثائق المهدية إلى ظهور من سمته "الشيطان" أو "النبي عيسى" أو "دعي سمى نفسه النبي" في دار تاما دعا للثورة ضد المهدية ممثلة في سلطان التاما (الذي كان يعد دمية في يد النظام المهدوي في أمدرمان). لا يعرف مصير ذلك المتمهدي/ المتنبئ بيد أنه من الثابت أن ذلك السلطان الدمية هرب من البلاد. وفي عام 1905م (ذلك العام الذي هزم فيه سلطان الفور سلطان المساليت) ظهر في دار مساليت رجل آخر زعم أنه "النبي عيسى" وسرعان ما قبض عليه وأعدم في الفاشر حاضرة دارفور. وتارة أخرى ظهر في دار مساليت – بحسب ما ورد في وثائق فرنسية- فكي آخر اسمه "أبو" وعرف بلقب "دقدق" زعم أنه "النبي عيسى". قاد "دقدق" عوام السكان في شرق دار مساليت واللاجئين في كبكابية وفقراء العاصمة للثورة على الصفوة الحاكمة من عشيرة السلطان، بيد أنه هزم وقتل.
في عام 1913م الذي شهد جفافا وقحطا مروعين تكاثر المتنبئون والفقهاء / الفكيا (جمع كلمة فكيfaqihs). ففي ذلك العام قام رجل مسلاتي في "قوران" (تلك المنطقة من دار مساليت التي كانت تحت الحكم الفرنسي) بمهاجمة الحامية الفرنسية في منطقة تمتمة لاعتقادهم أن التليسكوب الضخم الذي وضعه الفرنسيون في جبل قوران قد منع عنهم نزول الغيث من السماء. وفي نوفمبر من ذات العام هاجم ثلاثة من المتنبئين /الفقهاء / الفكيا وأحد السحرة المشعوذين الحامية الفرنسية في "أبشي" عاصمة سلطنة وداي ولكنهم قتلوا جميعا. بعد ذلك سجل في بعض الوثائق الفرنسية ظهور اثنين من المتنبئين في دار مساليت في ذات الشهر، وسميت المعركة التي خاضاها ضد التسلط السياسي لعشيرة الجيرينغ بـ "معركة الفكيا". أو "هبة المساكين" في جنوب السلطنة في مناطق ميستري وكنوز وكويجنج وحجر جابوك وشاراو. كان سبب تلك الهبة هو أن حكومة وداي استسلمت للفرنسيين ووافقت على دفع جزية لهم وللحصول على مبلغ تلك الجزية تم فرض ضرائب إضافية على سكان المنطقة الجنوبية من دار مساليت مما أثار غضبهم ، خاصة وأن ذلك العام كان عام جدب وقحط وجفاف في سائر مناطق دارفور عدا تلك المنطقة الجنوبية والتي نعمت بقدر معقول من المحاصيل. شعر أهالي تلك المنطقة أن ثروتهم تضيع من بين أيديهم وتمنح كجزية لـ "الكفار". قام شقيق سلطان المساليت بقمع هبة سكان الجنوب ووصف قادتهم بأنهم "أنبياء كذبة". نجا بعض قادة تلك الهبة من القتل والتعذيب المهول الذي مورس على من قبض عليهم، وقاموا بعد سنوات من ذلك التاريخ بالمشاركة في ثورة أخرى لـ "النبي عيسى".
تغير السياق السياسي الذي حدثت فيه تلك الثورات (الدينية؟) بعد سقوط المهدية في 1998م، وهو ذات العام الذي كان يخطط فيه الخليفة عبد الله لشن حملات جديدة ضد سلاطين غرب السودان. واجه هؤلاء السلاطين تحديا جديدا بإعادة علي دينار الحياة لسلطنة دارفور (1898 – 1916م) قبل أن يستعدوا لمواجهة الخطر القادم من الشرق وبعد سيطرة الفرنسيين على "وداي" غربا وسعيها لضم بقية الدويلات الصغيرة في دارفور. وفي عام 1916م ضمت السلطات البريطانية الحاكمة للسودان سلطنة دارفور للبلاد وبدأت في التفكير في الاستيلاء على ما ضمه الفرنسيون إلى مستعمراتهم في غرب أفريقيا، وامتد الصراع بين فرنسا وبريطانيا حول الحدود السودانية – الشادية حتى عام 1921م حين تم الاتفاق بين الدولتين على ضم دار مساليت ودار قمر وجزء من دار زغاوة للسيادة البريطانية.
تعرض الحكم البريطاني في غرب السودان لنصيب غير قليل من ثورات وهبات الفكيا والمتنبئين (أو "المهديون الجدد" كما كان يسميهم البريطانيون)، وكانت الصفات العامة لتلك الثورات والهبات مشابهة في الأسباب والنوازع (والنتائج أيضا) لما سبقها في غضون سنوات الخليفة عبد الله. تتوفر لأسباب معلومة وثائق ومعلومات تاريخية عن ما حدث من ثورات وهبات في سنوات الحكم البريطاني – المصري بأكثر مما هو متوفر عن الثورات والهبات التي حدثت في سنوات عهد الخليفة.
جعل البريطانيون سلطنات دارفور معملا لتجربة "الحكم غير المباشر Indirect rule" في السودان، فتركوا للسلاطين المحليين مهمة إدارة البلاد، خاصة في سلطنة دار مساليت، والتي منحت ثروة وسلطة أكثر وأكبر مما كان لديها قبل دخول البريطانيين للسودان، وساهم إجزال البريطانيين العطاء لسلطان المساليت براتب سنوي ضخم في كسبه لمعسكرهم.
أحدث الحكم الاستعماري ثورة اقتصادية عميقة الأثر شملت إدخال دفع الضرائب نقدا وجلبت للمنطقة طبقة وسطى من الجنود والتجار للمنطقة قاموا بإنعاش اقتصادها وخلق سوق رائجة للبضائع مثل السكر والشاي والأقمشة في أوساط عوام الناس. أدخلت تلك التحولات الاقتصادية سكان غرب السودان في سوق العمل القومي، ولأن فرص العمل في الوظائف الحكومية وفي الزراعة والتجارة في غرب السودان كانت جد محدودة فقد أضطر كثير من العاملين للهجرة إلى مناطق وادي النيل للعمل في الزراعة، خاصة زراعة القطن. وبهذا وضع الأساس لتهميش غرب السودان سياسيا واقتصاديا، وهي العلة التي لا تزال تراوح مكانها في ذلك الإقليم حتى اليوم.
ظل سلطان المساليت موزع الفكر والبال بين ثورات وهبات المتمهديين والمتنبئين من جهة وبين شكه في البريطانيين حلفائه الجدد من جهة أخرى. كتب السلطان في عام 1920م للسيد / عبد الرحمن المهدي طالبا النصيحة فيما يمكن له عمله إزاء تلك التحديات. وفي العام التالي لذلك قامت ثورة دينية بقيادة "عبد الله السحيني" زعم فيها أنه "النبي عيسى" وتمرد على سلطة الحكم البريطاني - المصري فتولى أمره أفراد عائلة سلطان المساليت وقضوا عليه وتم شنقه في نيالا بجنوب دارفور. وبإيعاز من السلطات الاستعمارية الحاكمة أصدر سلطان المساليت في عام 1922م منشورا لكافة أتباعه جاء فيه ما يفيد بأن هنالك عددا كبيرا من الأدعياء والأنبياء الكذبة و"الفكيا" الفاسدين... وأن سلاطين المساليت عبر السنين ظلوا يتعقبون أولئك الكفرة بالعقاب المناسب... واضاف: "بهذا نذكر كل أمراء وأفراد عشيرتنا بمسؤوليتهم عن أي فوضى أو شغب قد يثره هؤلاء المنحرفون في مناطقهم. إن أي تحريض من هؤلاء الناس يجب أن يقابل بالحزم اللازم، وأن أي محاولة من هؤلاء "الفكيا" لجمع الناس من حولهم أو وصف أدوية لهم بغرض العلاج يجب أن تبلغ فورا للسلطات الحكومية...".
وفي عام 1927م انشغل سكان جنوب شرق دار مساليت بمتنبئ آخر اسمه " الفكي مهاجر" ظهر في المناطق القريبة من زالنجي وزعم لمن جمعهم حوله من الأتباع أن عنده من التمائم ما يحميهم من الأعيرة النارية، وأن بمقدوره جعل عصيهم تتحول إلى حراب حادة عند رميها ضد "العدو"، وأنهم سيظفرون بمغانم كثيرة عند غزوهم لزالنجي، وأنهم سيعفون من دفع ضرائب ذلك العام. لعل ما منى به "الفكي مهاجر" عوام الناس يعكس مدى عمق مظالمهم وشكواهم من ممارسات حكامهم. كانت هبة "الفكي مهاجر" والتي تم إخمادها بسهولة هي آخر الثورات (الدينية) المسجلة في تاريخ من ثاروا في غرب السودان في عهد الخليفة والحكم الاستعماري.
بعد أن فقد عوام سكان غرب السودان أي أمل في "منقذ" لهم صوبوا أنظارهم لمنقذ / "نبي عيسى" آخر في النيل الأبيض هو السيد/ عبد الرحمن المهدي فتدافعوا للهجرة إليه في 1923م والسنوات التالية. كانت لتلك الهجرة شرقا أبعادا سياسية واقتصادية كبيرة، فكثير من حجوا لمناطق نفوذ السيد/ عبد الرحمن المهدي انتهى بهم الأمر للعمل في مزارعه بأجور بخسة وبقوا تحت "حمايته". كذلك بعث السيد/ عبد الرحمن المهدي بأتباعه لغرب السودان لتجنيد أكبر عدد من سكان غرب السودان لمهديته الجديدة، وكان من بين هؤلاء بعضا من اتباع "دقدق" الذي سبقت الاشارة إليه. انزعج سلطان المساليت (والبريطانيين كذلك) من هجرة أتباعه من موطنهم للعمل في مزارع السيد/ عبد الرحمن المهدي مستغلا عواطفهم وميولهم الدينية، بينما كان سبب انزعاج البريطانيين من تلك الهجرة في حقيقة الأمر هو خشية أن يجمع السيد/ عبد الرحمن المهدي حوله عددا يكفي من المساليت (وغيرهم) للثورة عليهم وإعلان نفسه ملكا للسودان. كان سلطان المساليت هو الأصدق في تخوفه من تلك الهجرة (بحسب رأي ب/ حسن أحمد إبراهيم) إذ أن السيد/ عبد الرحمن المهدي كان يعول سياسيا على طبقة الانتلجنسيا والطبقة الوسطى أكثر من تعويله على المهاجرين من غرب السودان رغم أن تبرعاتهم المادية وجهد عملهم جعله واحدا من أثرى أثرياء السودان. لم يزعم السيد/ عبد الرحمن المهدي أبدا أنه "النبي عيسى" ولم يعط لأنصاره في أي وقت من الأوقات أي إشارة للقيام بحرب مقدسة ضد الحكم البريطاني.
خلصت الكاتبة في نهاية مقالها إلى أن هنالك قواسم مشتركة بين كل من زعموا أنهم أنبياء أو مهديين أو "النبي عيسى" وهي أن كل واحد منهم كان يعمل ك "فكي" في منطقته قبل أن يعلن للناس أنه "النبي عيسى" أو "المهدي". لقي جميعهم – من جمع حوله عددا كبيرا أو صغيرا من الأتباع أو من لم يفعل- مصيرا دمويا في نهاية المطاف. كانوا جميعا من فقراء الناس (طبقة المساكين) ولم يتبعهم غير الفقراء أيضا. كانت الطريقة التي يبدأ بها كل واحد من هؤلاء "الفكيا" دعوته متشابهة جدا، فعادة ما يبدأ الواحد منهم دعوته في المناطق الجبلية العالية أو المنعزلة وينصح الناس بترك شرب الخمر (المريسة) وبمقاومة وحرب الكفار، ويعدهم بالحماية من الأذى في الدنيا (مثل الأعيرة النارية)، وبالنعيم المقيم في الدار الآخرة. كان كثير من هؤلاء الأدعياء يؤمنون بمحمد أحمد المهدي ويقتفون أثره ويحاولون تقليد أفعاله. كانت هبات كل "الفكيا" في غرب السودان تختلف في أمر واحد عن ثورة "أبو جميزة"، فالأخيرة ظفرت بتأييد كل سلاطين المنطقة، بينما عارض أولئك السلاطين كل دعوات ومزاعم الفكيا الدينية اللاحقة.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
///////