العلاقات السودانية الأثيوبية (4)

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

umsalsadig@gmail.com

 

من أجل معادلة كسبية
كنا قد تناولنا على مدى ثلاث حلقات سابقة ثلاثة عوامل تؤثر ايجابا أو سلبا على علاقتنا مع جارتنا أثيوبيا بحسب طريقتنا في إدارة الأمر:
في مسألة النزاع في الحدود بعد استعراض موجز للاتفاقيات التاريخية بين البلدين توصلنا الى أن آخر التطورات في ذلك الملف : اعتراف أثيوبي بأن الفشقة هي أراضي سودانية وقلنا أن ما يحدث سنويا من زراعة المنطقة بواسطة أثيوبيين هي من الأمور التي يمكن للبلدين الاتفاق حولها بسهولة بما يفيد الطرفين .
في قضية مياه النيل استعرضنا باختصار اتفاقيات تقسيم المياه فيه وأوضحنا أنها اتفاقيات عفى عليها الدهر وتجاوزها الزمن ولا مناص من الاعتراف بذلك في ظل قوانين عالمية انتظمت دول العالم لتنظم العلاقات بين الدول المتشاطئة وفي ظل الطلب المتزايد لدول الحوض على المياه التي تنبع من أراضيها وأوردنا آراء الخبراء في الحلول الممكنة التي تقوم على اتفاقيات تجمع دول حوض النيل مما يمكنها من الاستفادة من المياه دون الإضرار بالدول الأخرى.كما أن من شأن الاتفاق بين دول الحوض زيادة ايراد المياه المتحصلة حيث تبلغ كمية الأمطار التي تهطل سنويا في منابع النيل 20 ألف مليار متر مكعب من المياه يحجز منها 74 مليار متر مكعب عند اسوان ما يمثل 4%فقط من كمية المياه .فالتعاون بين دول الحوض يمكّن من الحصول على ايراد مياه كبير .
وفي الاسبوع الماضي كان مقالنا عن سد النهضة وأوردنا أيضا آراء الفنيين المبنية على دراسات رصينة أن لسد النهضة فوائد لا تغفل للسودان واستعرضنا الحلول التي قدمها الامام الصادق الذي تنبه مبكرا لامكانية قيام نزاع حول المياه في حوض النيل فقدم حلولا عبر كتابه الصادر في عام 2000 بعنوان(مياه النيل:الوعد والوعيد) وعبر مقالات وندوات ومحاضرات عديدة للاتفاق حول مسألة تقسيم المياه بما فيها المياه التي تحجز في منشآت على منابع النيل. وبذا نكون قد غطينا الجانب الفني والسياسي كما استصحبنا رأي خبراء وسياسيين مصريين يعترف بأهمية السد لأثيوبيا و للسودان ويقلل من المخاطر بسببه على مصر وقلنا أنه مهما تعثرت المفاوضات أوتعسرت فلا مناص هنا أيضا من الاعتراف سواء من السودان أومن مصر بأهمية السد لأثيوبيا وأحقيتها في بنائه مع أهمية أن يتم ذلك بالاتفاق بين الدول الثلاثة وقلنا أن نقاط الخلاف انحصرت في الزمن والمدة التي تملأ فيها بحيرة السد وتفاصيل أخرى يمكن الاتفاق حولها ان صحت الإرادة وصدقت، وأنه مهما ارتفع الصوت المهدد بالحرب أوعلت أصوات الاختلاف في القضية التي رفعت مؤخرا بواسطة مصر لمجلس الأمن، فلابد من حسم الأمر بالاتفاق بين الدول الثلاث وبالطبع لا نعرف ما ستنتهي اليه الأمور فالقضية ساخنة ويجري تداول لم يبت فيها بعد، ولكننا أوضحنا ما يجب أن يكون عليه موقفنا مهما كانت التطورات بما يناسب دولة السودان الجديد الحريصة على مصالحها والتي تنأى بنفسها عن المحاور وعن الإرتهان للأجندة الخارجية.
العدالة التي تكفلها القوانين المنظمة للعلاقات بين الدول بحيث يأخذ كل ذي حق حقه فيما يلي النزاعات الحدودية أومياه النيل أوتبعات إنشاء السدود في حوض النيل، لا شك تسهم بفاعلية في خلق علاقات طبيعية بين الدول المتشاطئة لكننا نطمع في علاقات أكثر بعدا وعمقا بالتعاون المشترك في كافة المجالات بما يحقق معادلات كسبية ومستدامة لكافة الأطراف.
من المناسب قبل الدخول في تفاصيل مطلوبات ذلك إلقاء نظرة فاحصة على السياسة الخارجية السودانية منذ الاستقلال والتي أثرت سلبا بشكل مباشر على مكانة السودان في محيطه الاقليمي والدولي. وبهذا المفهوم يمكننا النظر الى ذلك الأمر من عدة زوايا نظر أولاها: سمة عامة وسمت السياسة الخارجية لكافة عهود الدولة السودانية منذ 1956 وهي التوجه نحو الشمال الشرقي وشمالا باتجاه العرب والعروبة واهمالنا التام لدول الجنوب والشرق والغرب الأفريقي ولقضايا أفريقيا .يجدر بنا في هذا المقام أيضا بصورة عامة وفي إطار العلاقة مع أثيوبيا أن نعترف بأن سياستنا الخارجية مطبوعة منذ الاستقلال باهمالنا لأفريقيا عموما وليس لأثيوبيا وحدها برغم أننا من مؤسسي الاتحاد الأفريقي وبرغم أن الافريقية ثاني مكوناتنا العرقية إضافة للعروبة، فقد أهملنا ذلك وتوجهنا بكلياتنا نحو العرب ونحو مصر شمالا منذ الاستقلال وقبله. وقد غلب هذا التوجه العروبي تجاهلا تاما لما يدور في السودان من نقاش بين تيارات ثلاثة: العروبية، الافروعربية، والأفريقانية وتجاهلا تاما لنقاشات تياري الغابة والصحراء وقد سار هذا الجدل حول الهوية عمرا ولم يزل حيا وأثار نقاشا ثقافيا واسعا من تجلياته بروز تيار قوي يقول بالسودانوية منذ الستينات: فينا العروبة والزنوجة لكننا ننفرد بميزات تخصنا. وربما لو ترك الأمر للمجتمع ليقود سياستنا الخارجية لاختار أن مصلحة السودان العليا تتحقق بعلاقات متوازنة لا تهمل مكونا لحساب مكون ولا تهمل دولة لحساب أخرى.
ما جعل توجهنا العروبي هو الأبرز أثرا والى حد كبير في ازكاء صراعات الهوية بصورة مشوهة هو سيطرة الدكتاتوريات على حكم 52 سنة من 64 عاما منذ الاستقلال ما جعل الانقياد نحو العروبية يتم بقهر السلطة ..ولو كانت سياساتنا الخارجية بعافية لعملنا على تمتين علاقاتنا مع أفريقيا دون أن نهمل العرب ولعملنا على تمتين علاقاتنا مع أثيوبيا دون تفريط في علاقتنا مع مصر.إذن السمة المعيبة الأولى لعلاقتنا الخارجية هي: اهمال افريقيا والتوجه العروبي.
السمة الثانية خاصة بالعهود الدكتاتورية عامة في السودان وهي إدخال الدولة السودانية في حرج المحاور المختلفة تأرجحا بين اليمين واليسار وبالتالي تحويل السودان الى طرف في صراعات لا تخصه و استعداء الآخرين دون مسوغات.
السمة الثالثة خاصة بعهد الانقاذ المباد المتطاول الذي تجسمت فيه كافة المساويء: التوجه العروبي الفوقي على حساب علاقاتنا الأفريقية- الدخول في المحاور- اضافة لسمة لازمته حصريا وهي التدخل في شئون الغير الداخلية مثلا:( المساعدة على تغيير الحكم في أثيوبيا في التسعينات ،محاولة اغتيال الرئيس المصري في أثيوبيا..الخ)، بما جر على السودان أضرارا سوداوية وعقوبات دولية كبلت اقتصاده وشوهت صورته وحرمته من التنمية ومن الاستفادة من تسهيلات تنموية تتمتع بها الدول الطبيعية.
النقاش السابق يحمل في طياته ما علينا تجنبه من سمات طبعت علاقاتنا الخارجية وكبلتها ويرسم طريقا واضحا نحو علاقات طبيعية ومعادلات كسبية وفي الإطار يبدو مطمئنا ما أعلنته الحكومة الانتقالية على لسان السيدة وزيرة الخارجية من قيام سياساتنا الخارجية على مصلحة السودان أولا والحياد الايجابي والبعد عن المحاور ..
في ما يلي علاقتنا بأثيوبيا المشمولة أيضا بتلك السياسة الخارجية المعلنة يجدر بنا التحبير على ما بدأنا به سلسلة هذه المقالات من التأكيد على أهمية العلاقات السودانية الأثيوبية وأهمية قيامها على أسس ثابتة تحكم كل علاقاتنا الخارجية ومع دول الجوار:المصلحة العليا،الحياد الايجابي،عدم التدخل في الشئون الداخلية،التعاون الأقصى لتحقيق الفوائد للمصالح المتبادلة والمشتركة.
يهمنا هنا استصحاب التصور الأثيوبي للعلاقات السودانية الأثيوبية اضافة لمواقف الحكومة الأثيوبية المعلنة ومساعدتها لنا على الانتقال السلس ومشاركتها في فرح السودان يمكننا لمزيد من الإحاطة الاستعانة باصدارة المركز الأثيوبي التعاوني المستقل للبحوث والحوار( العدد 5 رقم 4 الصادرة في يونيو 2020)، والمركز يعمل في مجال البحث والتحليل وخلاصة ما يقوله بهذا الصدد أن موقع السودان الاستراتيجي جغرافيا وسياسيا في قلب منطقة القرن الأفريقي يجعله في لب معركة محتدمة بين مختلف القوى المتصارعة اقليميا وعالميا على المصالح ومع تقدير ظروف الانتقال والأوضاع الصعبة وشبه المستحيلة لكن خيارات السودان و المواقف التي سيتخذها ستقرر استقراره الداخلي وعلاقاته الخارجية المزدهرة أوالتسبب في تعقيدات لدول جواره اذا ما دفعته الضغوط الخارجية للخضوع للأجندة الخارجية على حساب مصالحه .
الى هذا الحد يمكننا القول أنه من أجل معادلة كسبية مع أثيوبيا نعدد ما ذكرناه متفرقا من قبل:
-حلحلة المشاكل الحدودية بالتي هي أحسن.
- وبخصوص مياه النيل ( السودان مؤهل بوعيه، ومزاج أهله، وموقفه، وإقدامه الثوري أن يخطط ويرعى المعادلة الكسبية في حوض النيل عامة وليس أثيوبيا وحدها إذ تقع ثلثا الأراضي الصالحة للزراعة في كل حوض النيل في السودانين، هذا مع فقر كبير في الأراضي الصالحة للزراعة في مصر وفي أثيوبيا لا سيما وهما تعانيان من انفجار سكاني جعل السكان يتضاعفون ثلاث مرات في نصف قرن. ههنا يمكن أن يعرض السودان مزارعة معهما لكفالة الأمن الغذائي)- الصادق المهدي من محاضرة السد النهري والانسداد السياسي.
- وبخصوص قضية سد النهضة نكتفي بما ذكرته الحكومة السودانية على لسان السيدة وزيرة الخارجية أن السودان طرفا أصيلا في النقاش حول السد وهو ليس محايد لأنه صاحب مصلحة في السد لكن تلك المصلحة لن تتحقق الا عن طريق الاتفاق.
كما يمكننا هنا الاستعانة ببعض توصيات دراسة الباحث السوداني هاشم علي حامد (الباحث بالمعهد المصري للدراسات) لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية، جامعة أم درمان الاسلامية ، حول: دور المتغيرات الدولية في مستقبل العلاقات السودانية الاثيوبية 2005 ـ 2017
لنأخذ ما نراه مناسبا في هذا المقام ويساعد في الحصول على تمتين علاقاتنا مع أثيوبيا من أجل معادلة كسبية :
- استحضار ثوابت العلاقة بين البلدين ونشر ثقافة خصوصيتها لترسيخها في وجدان الشعبين.
- تبني وعي يغرس معاني الإخاء والتسامح وحرية العقيدة غض النظر عن اختلافات الدين لقفل الباب على التدخلات الدولية من باب التناقضات.
- استقلالية علاقة البلدين الخارجية مع تسخيرها لخدمة كل طرف للآخر.
- خروج السودان من ميل العروبة غير المتوازن الى التوازن مع واقعه الافريقي.
- انشاء فرق مشتركة للفنون الشعبية والمسرح تتوطد بها العلاقة في المجالات الثقافية والاجتماعية مما يحدث المزيد من التداخل والعلائق الودية بين الشعبين.
- مشروعات زراعية وصناعية مشتركة، استغلال أمثل لميناء بورتسودان لفائدة أثيوبيا، التحكم في تدفقات الأثيوبيين عبر الحدود واستيعابهم خارج المناطق الحدودية، تسهيلات الاقامة للسودانيين في اثيوبيا ، الحرص على العلاقات الشعبوية .
وفي الختام لابد من تأكيد الحل السلمي لكافة نزاعاتنا مع أثيوبيا فنحن مثلما قال الامام الصادق
( إذا لم تكن بيننا وبين أثيوبيا حالة سلام وتعاون فنحن من ناحية استراتجية نقابل أثيوبيا ببطننا بينما تقابلنا بظهرها، ولذلك نحن في حقيقة الأمر في حالة موقف محتاج لتفاهم وتعاون مع أثيوبيا).
ونردد معه أيضا (مثلما تحلى أهل السودان بوعي مكنهم أكثر من مرة أن ينالوا براءة الاختراع الثوري في التاريخ القديم والوسيط والحديث وأدركتهم العناية في كل تلك المراحل يرجى أن نعبر بأنفسنا وجيراننا نحو الأفق الجديد) الامام الصادق المهدي

وسلمتم

 

آراء