العودة إلى السودان: يناير 2006م .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
العودة إلى السودان: يناير 2006م Sudan Revisited: January 2006
ملاحظات شخصية A personal View
فيليب بو كوك Philip Bowcock
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا مقال صغير بقلم أحد الموظفين البريطانيين الذين عملوا في خدمة حكومة السودان (الإنجليزي –المصري) عن زيارته مع بعض زملائه السابقين للسودان بعد مرور نصف قرن على مغادرتهم له. نشر المقال في المجلة البريطانية "الدراسات السودانية" التي صدرت في عام 2007م. المترجم
******** ************
احتفل السودان باستقلاله عن بريطانيا في الأول من يناير عام 1956م، لكن أحدا من العائلة المالكة البريطانية لم يشهد احتفالات السودانيين بذلك اليوم بسبب الوضع القانوني المعقد للحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري) للبلاد آنذاك. بيد أن حضور فرد من أفراد العائلة المالكة لاحتفالات استقلال كل مستعمرات ومحميات بريطانيا غدا لاحقا تقليدا ملكيا ثابتا. كان غالب المسئولين البريطانيين قد غادروا السودان قبل حلول تلك المناسبة، وبدا ذلك اليوم وكأنه يوم احتفال السودان بطلاقه (من بريطانيا) وليس يوما للاحتفال ببلوغه سن النضج! كان التمرد المسلح قد بدأ قبل عام في المديرية الاستوائية تلته خمسون عاما من التناحر والمصائب والمحن.
حمدت للأقدار أنها أتاحت لي (مع ثلة من الموظفين البريطانيين الذين خدموا في السودان الإنجليزي المصري) زيارة تلك البلاد في عيد استقلالها الخمسين. أتت دعوة الزيارة من "الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة" وهي جمعية لها من الأهداف والطموحات الثقافية ما يتعدى – وبكثير- مجرد أرشفة الوثائق كما قد يتوهم البعض عند قراءتهم لاسم تلك الجمعية والتي يترأسها السيد/ إبراهيم عبد المنعم منصور الوزير السابق للمالية والتخطيط الاقتصادي، وهو يشغل حاليا منصب رئيس لجنة المخصصات المالية والحسابية والتي كونت بموجب البند 198 من الدستور الانتقالي الذي أجيز عقب التوقيع على اتفاقية السلام الشامل. عمل ابنه محمد كمضيف كريم ومرشد خبير لوفدنا في غضون أيام تلك الزيارة.
شملت الدعوة الكريمة أيضا أبناء وبنات أولئك الموظفين البريطانيين إذ أن غالب هؤلاء كانوا قد بلغوا أو تخطوا الثمانين من العمر. وفي نهاية المطاف تمكن واحد فقط من هؤلاء الموظفين المعاشيين (الحقيقيين) من السفر للسودان ألا وهو السير / دونالد هاولي (1921 م – 2008م) والذي عين كرئيس لما أطلق عليه السودانيون "الوفد البريطاني الزائر" (السير دونالد هاولي عمل بعد تخرجه من الجامعة كضابط في الجيش في سنوات الحرب العالمية الثانية ثم التحق بخدمة حكومة السودان كإداري ثم قاضيا بالمحكمة العليا إلى مطلع عام 1956م. المترجم). ضم الوفد أيضا أربعة موظفين سابقين عملوا في سلك الإدارة والسياسة تم تعيينهم بعد إيقاف العمل بتعيين موظفين ينالون معاشا بعد انتهاء خدماتهم. من بينهم كان هنالك البروفسيور بيتر وودورد وبيتر ايفرينقتن (اللذان عملا كمدرسين في المدارس الثانوية بعد استقلال السودان) وعقليتهما بالإضافة للسيدة جين هوقان.
جاء في خطاب الدعوة الذي تلقاه البروفسيور بيتر وودورد رئيس رابطة الموظفين المعاشيين البريطانيين أن "الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة ولفيف من السودانيين المنتشرين في مختلف بقاع البلاد يكنون أعلى آيات التقدير والامتنان للموظفين البريطانيين الذين عملوا في السلكين الإداري والسياسي في السودان وساهموا في تشكيل تاريخه المعاصر وفي تطوره وازدهاره. لقد حظيت هذه الدعوة لكم بمباركة وتعضيد نائب الرئيس السيد/ على عثمان طه، والذي وافق مشكورا على رعاية الزيارة."
وضح لنا حتى قبل مغادرتنا للندن أن المعلم الأبرز لهذه الزيارة هو الكرم السوداني الفياض وذلك عندما ودعنا في المطار سفير السودان ببريطانيا بنفسه، وعندما منحنا تذاكر السفر على درجة الأعمال في الطائرة المتوجهة للخرطوم. كان أمرا بديعا أن يؤوب المرء للبلاد التي عاش فيها ردحا من الزمن قبل خمسين عاما. استقبلتنا الخرطوم في منتصف الليل بطقس معتدل لطيف، وسعدنا بلقاء مضيفينا من أعضاء "الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة" بابتساماتهم العريضة وجلابيبهم الواسعة وعمائمهم الناصعة البياض. أدخلنا لصالة كبار الزوار حيث قدمت لنا المشروبات المرطبة ريثما تكتمل إجراءات الدخول الروتينية. ركبنا سيارات الضيافة يتقدمها عدد من رجال الشرطة في موكب من الدراجات البخارية حتى وصولنا لمقر إقامتنا ( والتي ستمتد لأسبوع كامل) في فندق الهيلتون على ضفاف النيل الأزرق.
كان منظرا مؤثرا جدا ذلك الذي رأيته وأنا أزيح ستارة النافذة وأمامي النيل الأبيض يعانق النيل الأزرق وجزيرة توتي ترقد في سكون بمزارعها الصغيرة الأنيقة البالغة الجمال. لا أزال أذكر حفل العشاء الذي أقامه لي كتبة مديرية الخرطوم في حدائق المقرن عندما تقرر نقلي من العاصمة إلى أعالي النيل. كنت في تلك السنوات البعيدة أرافق الفتاة التي تزوجتها لاحقا في جولة باكرة قبل بدء العمل في غابة السنط إلى الغرب من الهيلتون الحالي. لاحظت أن قاعات الفندق قد زينت بديكورات عيد الميلاد (الكريسماس) وكان ذلك بمثابة البشارة لي للأجواء المتسامحة التي شهدناها فيما أقبل من أيام.
حللنا بالخرطوم دون أن نكون على دراية بما يمكن لنا أن نتوقعه، بيد أننا وجدنا أن هنالك برنامجا حافلا قد وضع لنا. كانت أولى زياراتنا هي للكاتدرائية الأنغليكانية وهي بناء ضخم من الطوب الرملي الأحمر اللون، ومن تصميم مهندس معماري إيطالي. كان حال تلك الكاتدرائية الممتاز مصدر راحة لي فليس هنالك بها أثر لما كنت أخشاه من التدنيس أو حتى مجرد الإهمال.
كان واضحا أن المبنى ظل – ولسنوات- محاطا بالرعاية والعناية، وأنه يستخدم الآن كمتحف إذ أن فيه من التماثيل والنصب التذكارية الشيء الكثير. شهدنا فيه معرضا عن اجتماع الاتحاد الأفريقي الذي كان مقررا له أن ينعقد في الأسبوع التالي لزيارتنا. رغم ذلك فقد أسفت جدا لإزالة برج الساعة الأنيق من مبنى الكاتدرائية. خبرت لاحقا بأن ذلك البرج كان مخبأ لجنود قناصة استخدموه لمهاجمة القصر الجمهوري في سنوات الرئيس السابق جعفر نميري ورأت الحكومة ضرورة إزالته. بعد زيارتنا للكاتدرائية دلفنا على القصر الجمهوري (مقر الحاكم العام البريطاني سابقا) ووقعنا في سجل تشريفات الرئيس فيه. بعدها قمنا بزيارة المتحف القومي وتمتعنا برؤية ما استنقذ من آثار مناطق النوبة التي غمرتها مياه السد العالي. ولاحقا قمنا بزيارة المبني البديل للكاتدرائية الأسقفية، والتي علمنا أن الصلوات تقام فيها سبعة مرات متتالية بلغات مختلفة بسبب ازدحام اللاجئين الجنوبيين الراغبين في أداء الصلوات بها.
قمنا كذلك بزيارة ثلاث جامعات هي الأحفاد والأهلية والخرطوم. في جامعة الأحفاد أخبرني أحد الأساتذة السودانيين كم هو مدين لدكتور اودال (الملقب بدوجي) عميد كلية غوردون في سنوات ماضية. أفلحت لاحقا في أن أجمع بين ذلك الأستاذ السوداني وابن اودال جون وحفيدته جوانا ... وهم - للغرابة- يمثلون ثلاثة أجيال بريطانية متعاقبة عملت – وبجد وتجرد – في خدمة السودان وأهله. تعمل جوانا اودال الآن كمساعدة لمطران للكاتدرائية الأسقفية. رافقتنا جوانا في جولاتنا المتعددة في الخرطوم وكانت محل ترحيب وتقدير أينما ذهبنا. جامعة الأحفاد مخصصة للنساء وهي استمرار لنهج شيخ بابكر بدري في تعليم البنات. وجدنا في تلك الجامعة طالبات من كل أنحاء السودان المختلفة، بل ومن مناطق بعيدة كتنزانيا يتعايشن في ود وألفة ومرح. إن مشروع جامعة الأهلية هو مشروع جريء وطموح، فهي "جامعة الشعب" ولا علاقة لها بالحكومة. أما جامعة الخرطوم فهي بالطبع الجامعة الرائدة والقائدة إذ أنها تطورت عبر سنوات طويلة لجامعة من كلية غوردون التذكارية. زرناها وحظينا فيها بسماع محاضرة قيمة من د/ محاسن عبد القادر الصافي عن "السودان والكومنويلث" مستخلصة من بحث قامت به في بريطانيا والسودان. ساد بين المستمعين للمحاضرة شعور عام بأن السودان كان سيكون في حال أفضل لو أنضم إلى مجموعة الكومنويلث ... إن كان بإمكان دولة موزمبيق أن تنضم للكومنويلث فلم لا يمكن للسودان فعل ذلك؟ بيد أن تقرير أمر كهذا هذا لا بد من ينتظر بالطبع ما تسفر عنه اتفاقية السلام الشامل بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
أخذنا لزيارة معالم ومواقع خارج الخرطوم فذهبنا جنوبا إلى مصنع مثير للإعجاب هو مصنع سكر كنانة قرب كوستي، وشمالا إلى البجراوية حيث الأهرامات. فيها شاهدنا آثارا وكتابات ونقوشا مروية يرجع تاريخها ما بين عامي 200 ق.م. و 300 ق. م. من المحير فعلا أن تلك الكتابات والرموز لم تحل شفرتها بعد رغم أنه قد شاع بين كثير من الناس أن أحد الأكاديميين كان قريبا من تحقيق ذلك قبل أن يلقى حتفه (لعل الرجل يقصد الدكتور بريال هيكوك أستاذ علم الآثار البريطاني الذي كان يعمل في كلية الآداب بجامعة الخرطوم في الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي والذي لقي مصرعه ليلا في حادث سير في شارع النيل وهو على دراجته الهوائية، وأشيع حينها أن الحادث كان مدبرا من جهة ما بسبب "خطورة" الأبحاث التاريخية التي كان يقوم بها الرجل. المترجم).
استمتعت على وجه خاص بنزهتين، إحداهما على ظهر باخرة في النيل الأزرق والأخرى حفل غداء بديع تحت أشجار حديقة كمال والتاج محمد عثمان صالح. لقد أدى التوسع العمراني للخرطوم والرغبة في نيل مستوى حياة راقي إلى زيادة الطلب على الحدائق والأشجار والزهور.
كنا ندعى في الأمسيات لحفلات استقبال أقامتها "الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة" و"جمعية الصداقة السودانية – البريطانية"، وحفلات استقبال أخرى أقامها لنا أيضا السفير البريطاني والسيد/ أنيس حجار. كانت تلك فرص مواتية لوفدنا للقاء عدد كبير من الناس من مختلف الجنسيات والاتجاهات والمذاهب. شهدنا أيضا ذات ليلة عرضا ثقافيا في أمدرمان، وشهد بعضنا – خارج نطاق البرنامج الرسمي- في عصر يوم جمعة حلقة ذكر الطريقة القادرية في أمدرمان. استقبل رجال الصوفية أعضاء الوفد البريطاني بسماحة وترحيب كبيرين مما يؤكد أن الكرم والانفتاح الإسلامي ما زال موجودا في السودان.
قمنا كذلك بزيارة غير مضمنة في برنامج الزيارة الرسمي إلى معسكر لاجئين في غرب أمدرمان، وشهدنا المصاعب والحياة القاسية التي يعاني منها اللاجئون (الجنوبيون) الذين لم يفقد بعضهم في الأمل في الأوبة لديارهم، بينما وطن البعض الآخر أنفسهم على العمل في وظائف هامشية كخفراء وحمالين وغسالين وغيرها من الأعمال اليدوية التي يقوم بها هؤلاء الناس عادة الآن. أسعفتني ذاكرتي ببعض كلمات من لغة النوير (والتي تعادل أو تفوق بقليل لغتي العربية في الضعف) فنطقتها في حضرة بعض اللاجئين الجنوبيين فأشاعت في أوساطهم بعض الحبور.
قمنا أيضا بزيارة بيتين لهاري في الخرطوم، أحدها للصبية اليتامى، والآخر للبنات. وجدناهما بيتين عاديين بسيطين. تقوم على كل بيت امرأة (تسمي الأم) ولجنة من الأخصائيين الاجتماعية. يذهب الأطفال إلى المدرسة ثم إما إلى الكنيسة أو المسجد، ويزور أولئك الأطفال بصورة منتظمة أفراد من عوائلهم الممتدة الموجودين في المنطقة. لقد وجدناهم أطفالا مرحين في غاية التذهيب والأدب والطاعة، فقد لاحظنا أنهم أغلقوا التلفاز الذي كانوا يشاهدون فيه برنامج رسوم متحركة بمجرد أن طلبت منهم "الأم" ذلك! يرجع سبب تسمية المنزلين باسم "هاري" إلى أن عائلة هندريسون البريطانية كانت قد فقدت ابنها "هاري" في حادث سير فخلدت ذكرى فقيدها بإقامة ذلك البيت للأيتام. كان من ضمن أعضاء وفدنا أحد أفراد عائلة هندريسون.
لاحظت أن أشجار المهوقني الضخمة ما زالت واقفة على ضفاف النيل الأزرق (أهي أشجار لبخ أم مهوقني؟ المترجم) وأن وزارة الطاقة والتعدين قد تمددت إلى ما وراء تلك الأشجار وفوق مياه النهر. في ذلك المكان سعدنا بليلة أخيرة لا تنسى. عرضت لنا ليلتها بعضا من الأبحاث العلمية والأدبية المنشورة في عهد الحكم الثنائي، وشهدنا أيضا عرضا عن التغيرات الكثيرة التي حدثت في حياة السكان في المناطق التي تم اكتشاف النفط بها. بدا جليا لنا أن ذلك الاكتشاف أتى بالكثير من الصينين والماليزيين للبلاد. وضح لنا أيضا التمدد المهول لمدينة الخرطوم، وبناء الكثيرين لقصور وفلل في مناطق بعيدة منعزلة عن المدينة. لا ريب أن أصحاب تلك القصور والفلل يؤملون في أن تمتد إليهم المدينة وتضمهم إليها في غد قريب! لاحظنا أيضا تجمعات لقطعان من الضأن في أماكن كثيرة متفرقة في المدينة في انتظار صبور للمشاركة في عيد يوم النحر.
ما هي الخلاصة التي خرجت بها من تلك الزيارة؟
خلصت إلى أن البلاد يسودها الآن (المقصود هو عام 2006م. المترجم) جو من الانفتاح والسلام وعدم التضييق. لم نلحظ أن هنالك ازدحاما مفرطا يبطئ من حركة السيارات (traffic jams) ولا أثر لوجود قوات أمن تنتشر في الطرقات. لا تزال "حكومة الوحدة الوطنية" قائمة تؤدي عملها وكذلك الحال بالنسبة لحكومة جنوب السودان في جوبا. سافر فردان من وفدنا لتلك المدينة ليشهدا إحتفالات الحكومة هنالك بتوقيع اتفاقية السلام الشامل. لا تزال مشكلة دارفور هي المعضلة الكبرى التي تواجه البلاد ويبدو أن سبب بقاء تلك المشكلة المزمنة دون حل هو تفرق الحركات المتمردة والفشل في جمع تلك فصائل تلك الحركات في جبهة واحدة. مما لم يفت على أي فرد من وفدنا ملاحظته هو تغير وضع المرأة في المجتمع، فما من حفل أو لقاء شهدناه إلا ورأينا المرأة تشارك فيه وتصول وتجول بحرية وثقة وظرف. لاحظنا أيضا أن النساء قد هجرن لبس ثوب "الزراق" والأسود من الثياب وتحولن عن ذلك إلى أزياء ذات ألوان بهيجة. رافقتنا في كل زياراتنا المتعددة الصحفية السودانية الأستاذة فوزية يوسف جلال الدين، وهي أيضا من أعضاء "الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة".
لا أجد من تشبيه لائق لعودتي للسودان بعد خمسين عاما من الغياب إلا بالقول بأن تلك العودة تماثل قصة عشق قديم تم طمره في غياهب النسيان، ثم تم بعثه من جديد.
alibadreldin@hotmail.com
////////