الغابة: التاريخ والرجال .. تأليف: عبد الرحيم الشيخ محمد محمد خير  .. عرض وتحليل/ أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 

أهدى إليَّ الأستاذ عبد الرحيم الشيخ محمد محمد خير نسخةً من كتابه القيم "الغابة التاريخ والرجال"؛ والغابة إحدى قرى الولاية الشمالية الكُبرى، الواقعة على ضفة منحنى النيل الغربية (اليسرى)، وسكانها نموذج من نماذج التمازج القومي في السُّودان والانصهار الاجتماعي بين البديرية والشايقية والجعليين والمحس والكنوز والعبدلاب والفونج والكبابيش والهواوير وغيرهم. ويتكون الكتاب من مجلدين، عدد صفحات المجلد الأول منهما 535 صفحة، والمجلد الثاني 666 صفحة، من القطع المتوسط. طُبع الكتاب على ورقٍ جميلٍ ومصقولٍ لامعٍ، وصدر في الرياض بالمملكة العربية السعودية عام 2017م، وتحت رقم الإيداع 1931/1439 والرقم الدولي (ردمك) 2-5822-02-603-978. قدَّم له البروفيسور قاسم عثمان نور، أستاذ علوم المكتبات بالجامعات السودانية  واصفاً إياه بالسفر القيم والمرجع التوثيقي الرائع، كما حثَّ المؤلف على مواصلة الكتابة عن المدن والقُرى المجاورة للغابة والشخصيات الناظمة لنسيج خيوطها الاجتماعية.

أما المؤلف فهو أحد أبناء الغابة الأوفياء، حصل على بكالوريوس التجارة في جامعة القاهرة بالخرطوم عام 1978م، وماجستير المحاسبة والإدارة المالية في إحدى المؤسسات الأكاديمية الأمريكية عام 2002، ويعمل حالياً مستشاراً مالياً بالمملكة العربية السعودية. فهو ليس مؤرخاً محترفاً، ولكنه كتب سفره الرائع بأُلفةٍ صادقةٍ وحبٍ دافقٍ لقريته الأم. ويتجلى ذلك في إجابته الحصيفة عن سؤال ابنته فاطمة ذات الأثني عشر ربيعاً: لماذا الغابة التاريخ والرجال؟ رد عليها قائلا: "إنَّ الغابة يا بُنيتي هي ألق وحب في النفس لا يدانيه حب، وحب الأوطان من الإيمان. الغابة موطن الأجداد والآباء والإخوان والأهل العشيرة، الغابة اسم منقوش على جدار الزمن، هي مسقط الرأس، هي المنشأ، وهي مراتع الصبا والشباب. الغابة هي الذكريات الندية، الغابة هي ألق التاريخ، هي المسيد والمحاية والدواية ، وهي المصحف، هي الأرض بطينها، برملها، بنخيلها، بثمار جنائنها، بثورتها المجيدة (ثورة المزارعين عام 1952)... وفوق ذلك، برجالها الذين عطروا التاريخ، وملؤوا الدنيا وعلَّموا الناس، وصنعوا الحياة وورثوا العلم والمصحف، والسيف، وأشجار النخيل الباسقات والبساتين الغنَّاء. الغابة بنسائها الماجدات الكريمات، ممن غزلن المجد كالقطن الأبيض، وتسربل به الشباب والصبايا، وممن حملن مشاعل النور وقناديلها، ومن غنين للفرح والعديل والزين... ولأنني مُتيَّمٌ بحبها، وعاشق ولهان بأهلها، ومدين لرجالها الأماجد ونسائها الماجدات، آليتُ على نفسي أن أترجم هذا الحب بتسطير الصفحات عن كل شيء عنها، عن جغرافيتها وتاريخيها، وحياة أهلها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما أمكنني ذلك، ووفقني الله إليه، على الرغم مما يعترض ذلك من عقبات في سبيل التوثيق المهم، وذلك لقلة المصادر التاريخية المكتوبة عنها". يكمن في هذا النصُّ المقتبس من التمهيد، الدافع العاطفي وراء تأليف الكتاب، والخطة التي رسمها المؤلف لإنجاز مهمته، التي استقام ميسمها في عنوان الكتاب "الغابة: التاريخ والرجال"، وفصوله، وملاحقه، وصوره التذكارية والواقعية، الموزعة بين مجلديه السمان شكلاً ومعنى.

يحتوي المجلد الأول على تقديم للبروفيسور قاسم عثمان نور تحت عنوان: "هذا الكتاب"؛ وإهداء من المؤلف إلى والديه وزوجته، وأهل الغابة أجمعين؛ وشكر خاص للذين ساعدوه وأعانوه في إنجاز هذا السفر؛ ثم مقدمة وتمهيد، يعقبهما مدخل ثلاثي الأبعاد، أو بالأحرى حديث تاريخي عن دنقلا العجوز التي كانت حاضرةً لمملكة المقرة المسيحية، ونقطة انطلاق لبواكير الدعوة الإسلامية في المنطقة؛ وعن أبوقسي وسوقها الذي كان موئلاً عامراً بالتجار والزبائن وعروض التجارة المتنوعة في العهدين السناري (1504-1821) والتركي-المصري (1821-1885)؛ وعن قرية الغابة وحاضرها الماثل إلى العام 2017م. وفي الفصل الأول تناول المؤلف جغرافية المكان (الغابة)، وتركيبتها السكانية؛ وفي الثاني نظر في العادات والتقاليد الموروثة؛ وأفرد الفصل الثالث لحديث مطول عن المساجد (المسايد) والخلاوى القرانية، التي كانت تشكل حواضناً نشطةً التعليم التقليدي وأدبيات العبادات وشعائرها. وأطول فصول المجلد، الفصل الرابع الذي رصد المؤلف فيه سير العائلات الكبرى والأسر المكونة لنسيج الغابة الاجتماعي. وفي الفصل الخامس وثَّق توثيقاً جيداً لتاريخ مشروع الغابة الزراعي، الذي أُنشأ عام 1917م، ضمن مشاريع الإعاشة الزراعية التي أسسها المستعمر في المديرية الشمالية، وهي: الكتياب، والزيداب، والعالياب، والباوقة، ونوري، والقرير، والكُلُد، والغابة، والبرقيق. وتحدث في الفصل الخامس عن بعض المؤسسات الخدمية القديمة التي أضحت أثراً بعد عين، مثل سوق الغابة القديم، والشفخانة، ومكتب البريد والبرق (مكتب البوستة)، ومحكمة الغابة الريفية، والمدرسة العربية المصرية، ومحلج القطن، والطاحونة، والمعدية (البنطون). وربط ذلك بالفصل السابع، الذي عرض فيه تاريخ المقابر وقباب الأولياء والصالحين في الغابة، مثل مقبرة الغرز، ومقبرة عبد الله المناصرة، ومقبرة شيخ مروس، ومقبرة العزيب، ومقبرة أب يوسف؛ وقبة الشيخ محمد مكاوي، وقبة الشيخ مصطفنتود، وقبة الشيخ المحب نمر جد السعداب. أما الفصل الثامن والأخير فعبارة عن ألبوم للصورة النادرة، وخاتمة عامة للمجلد الأول، وثبت للمصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف.

المجلد الثاني من الكتاب، عبارة عن معجمٍ لتراجم أعلام الغابة على المستويين المحلي والقومي وفي المهاجر المختلفة، مع جملة من الترجمات الواصفة لسير نساءٍ بارزاتٍ في المجتمع. وصنَّف المؤلف هذا المعجم تصنيفاً موضوعياً في ثلاثة عشر فصلاً، شملت الفئات الآتية: "سير أعلام النبلاء"، و"ملامح من تاريخ العمد والشيوخ"، و"موسم الهجرة إلى الشمال (الأزهر)، و"موسم الهجرة إلى مصر (الهجانة)، و"أدباء وشعراء من بلادي"، و"الرواد من المعلمين والمعلمات"، و"الرواد من الأطباء والمساعدين الطبيين والفنيين والممرضين والقابلات"، و"الرواد من المهندسين والمهندسات"، و"الرواد من القضاة والمحامين والعاملين القضائيين"، و"الرواد في الخدمة المدنية" و"الرواد من الاقتصاديين والمحاسبين"، و"الرواد من القوات النظامية: الجيش- الشرطة- الأمن". وتناول المؤلف في الفصل الرابع عشر موضوعات متفرقة، مثل فيضانات نهر النيل، والهدام الذي يقتطع الأراضي الصالحة للزراعة، وحرائق النخيل، وأصحاب الحرف والصنائع اليدوية، وقاموس العامية في الغابة، ثم الخاتمة، وثبت المراجع، والصور النادرة.


ما أهمية هذا الكتاب؟

أولاً، يمكننا أن نصنِّف كتاب "الغابة: التاريخ الرجال" ضمن أدبيات التاريخ المحلي، الذي لم يحظ باهتمام واسع من المؤرخين السُّودانيين، الذين ركَّزوا على دراسة التاريخ السياسي والاقتصادي في مراكز صنع القرار الحضرية، وصرفوا أنظارهم عن التاريخ المحلي والديناميكيات الناظمة لحراكه الداخلي؛ لكن لا ينفي ذلك أن بعض علماء الأنثروبولوجيا أولوا اهتماماً بتاريخ روبط الدم وعلاقات القبيلة في بعض المناطق البدوية، مثل دار الكبابيش والمسيرية في كردرفان، والرزيقات في دارفور، والهدندوة في شرق السُّودان. ولذلك نلحظ أنَّ دراسة تاريخ المدن والقرى الكبرى في الولاية الشمالية ظاهرة حديثة، ومن نماذجها كتابات: فاطمة أحمد علي، منطقة مروي المظهر والجوهر (دار عزة للنشر والتوزيع، 2003)؛ وعبد الحميد محمد أحمد، الخندق: التاريخ، القدوة والأنساب، (دار عزة للنشر والتوزيع، 2003)؛ وعوض أحمد حسين محمد شبَّه، دنقلا والدناقلة: دراسة للجذور التاريخية والاجتماعية والثقافية لمنطقة دنقلا (الخرطوم: شركة مطابع  السُّودان للعملة، 2008)؛ وأحمد إبراهيم أبوشوك، العمدة أحمد عمر كمبال (1915-1995): ملامح من تاريخ كورتي وشذرات من سيرة الرجل (الخرطوم: دار مدار للنشر والتوزيع، 2016)؛ وسمير محمد عبيد نقد، أرقي: نموذج القرية في شمال  السُّودان (د.ن. د.م، 2017). وبذلك يُعدُّ كتاب "الغابة التاريخ والرجال" إضافة نوعية إلى هذه الأدبيات؛ لأنه يوفر للباحثين في تاريخ المنطقة مرجعاً مهماً لا غنى عنه.

ثانياً، اعتمد المؤلف على كمٍ وافرٍ من المصادر الشفوية عبر المقابلات التي أجراها مع بعض الشخصيات الملمة بتاريخ الغابة وجوارها، والمشاهدات الشخصية، والمعايشة في بعض الأحيان بحكم أنه أحد أبناء المنطقة (الغابة)، فضلاً عن المخطوطات التي حصل عليها. وفوق هذا وذاك حرصه الشديد وأمانته العلمية في تدوين معظم المعلومات الشفوية التي جمعها من صدور الحفاظ ورواة التراث الشعبي، أي بمعنى آخر إنَّ الكتاب يحتوي على معلومات أولية، أو "تاريخ أصلي"، كما يسميه فريدريك هيجل. تفيد المؤرخين والباحثين المهتمين بتاريخ المنطقة؛ ليقارنوا بين تاريخ الغابة المدون وتواريخ المناطق المجاورة؛ بغية تقديم سرديات تاريخية متكاملة ومفيدة.

ثالثاً، يذخر الكتاب بمعلومات قيمة عن تاريخ الغابة ورجالها، ونذكر منها سيرة حاج بلول بن أحمد الحجازي (أو حاج بلول الكبير)، مؤسس مسيد عربنارتي شرق العتيق، الذي يرجع تاريخه إلى مستهل القرن الرابع عشر الميلادي. ويُعدُّ مصحف حاج بلول، الذي فرغ الشيخ من "تبييضه يوم الأربعاء السادس من شهر صفر سنة إحدى وسبعين وثمانمائة" أحد الشواهد الداحضة لزعم الشيخ محمد النور بن ضيف الله: بإن دولة الفونج لا توجد فيها "مدرسة علم ولا قرآن" حتى قدوم الشيخ محمود العركي من مصر في منتصف القرن السادس عشر الميلادي؛ لأن وجود المصحف في تلك الفترة الباكرة (القرن الرابع عشر الميلادي) يؤكد على انتشار المعرفة القرآنية وإدراك الناس بأمور دينهم الحياتية في منطقة دنقلا ( أو النوبة السفلى )، التي يعتبرها عبد العزيز أمين عبد المجيد سابقة لمناطق السُّودان الأخرى في كسبها المعرفي؛ وعليه لايجوز وصفها بالجهل بتعاليم الدين وأحكامه قبل ظهور الشيخ محمود العركي.

رابعاً، إنَّ المؤلف ختم المجلد الأول بنصٍ منسوبٍ إلى القاضي عبد الرحيم البيساني يعتذر فيه إلى العماد الأصفهاني عندما استدركه في أحد أقواله: "إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أخبرك به، وذلك إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ، لوُ ُغَّيرَ هذا لكان أحسن، ولو زُيَّد هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر". يدل هذا الاقتباس على وعي المؤلف الأستاذ عبد الرحيم الشيخ محمد خير المتبصر بأن ما كتبه بالرغم من أهميته التاريخية والعلمية؛ لكن بعض جوانبه المرتبطة بالروايات الشفوية تحتاج إلى المراجعة والتدقيق والتمحيص؛ لأن المؤلف دوَّن مشهورها وأحادها، متوخياً الدقة والأمانة العلمية، شأن في ذلك أشبه بشأن الأمام محمد جرير الطبري، مؤلف كتاب تاريخ الأنبياء والرسل والملوك.

وفي الختام تبقي لي كلمة أخيرة، مفادها التهنئة المستحقة إلى الأستاذ عبد الرحيم الشيخ محمد محمد خير، الذي أنتج هذا السفر القيم في موضوعه، والرائع في عرضه، والموثق في معظم جوانبه، وبذلك استطاع أن يخلَّد اسم الغابة ورجالها ونسائها على صفحاتٍ ناصعةٍ من تاريخ السُّودان المكتوب.



ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء