الـجـيوش وحـمـى السياســة !!
محـمد أحمد الجاك
8 May, 2022
8 May, 2022
بهدوووء_
تقوم العقلية العسكرية العربية على فكرة أن الجيش هو الضامن لأمن وسلامة البلاد ولسير العملية السياسية، وأن الحكومات المدنية غير قادرة على إدارة الدولة. الأمر الذي يعطي الجنرالات الحق في التدخل السياسي، وهي فكرة مغلوطة بلا شك. مما لا شك فيه أن المؤسسة العسكرية الوطنية في السودان قد لعبت دوراً مهماً في تمهيد الطريق لبناء الدولة الحديثة ما بعد الاستعمار، ولكنها سرعان ما قدمت نفسها حصرياً على أنها الدرع الواقي لبقاء ذلك الكيان القومي الوليد، فارتأت أن تدير البلاد تارة بشكل مباشر، وتارة من وراء الكواليس، وأظهرت انخراطها في الحياة السياسية على أنه عبء ثقيل عليها، والتزام أخلاقي، وتكليف لا تشريف، والحقيقة غير ذلك تماماً. تنص الوثائق الدستورية على أن الجيش الوطني مكلف بالدفاع عن وحدة البلاد، وسلامة ترابه وسيادته، ولا تذكر أي من هذه الوثائق الدستورية أي دور للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسة العامة، وإدارة شئون البلاد. لكن الواقع في المجتمعات العربية ومجتمعنا السوداني خاصة جاء مغايراً لذلك تماماً. فبالرجوع إلى التاريخ السياسي ، فإن المتتبع لتاريخ السودان الحديث يجد أن السودان لم يهنأ بعد استقلاله عام 1956 بحكومة مدنية أكثر من عامين. بدأ حكم الجنرالات في السودان عندما قفز الجيش على السلطة بقيادة الفريق إبراهيم عبود عام 1958، أعقب حكم عبود حكماً مدنياً بانتخابات جرت عام 1965، إلا أن الجيش انقض على السلطة مرة أخرى عام 1969 بقيادة جعفر النميري، الذي ظل في الحكم 16 عاماً تخللتها محاولات انقلابية فاشلة، إلى أن انتفض الشعب انتفاضة جماهيرية واسعة أتت بالمشير عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985، والذي سلم السلطة لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي، والذي انقلب عليه العميد (آنذاك) عمر البشير عام 1989. وكأن شعوب هذه البقعة من الأرض قد كتب عليها أن تتيه في فلك تلك الحلقة المفرغة، فعليها إما أن تختار، جبراً، الإدارة العسكرية الاستبدادية أو إدارة مدنية يراد لها أن تفشل في إدارة البلاد، لتبقى ذريعة التدخل العسكري قائمة. وهذا ما تذكره لنا سجلات التاريخ في البلاد ، ففي السودان، بدأ الجيش مشواره في الحياة السياسية عقب استقلال البلاد في عام 1956،. بعد أقل من عامين على الاستقلال، حكم الفريق إبراهيم عبود السودان لست سنوات، كان حكماً عسكرياً مطلقاً،ما أدى إلى تنامي المعارضة السياسية له يوماً بعد يوم، حتى وقعت أحداث جامعة الخرطوم في أكتوبر 1964، والتي أنهت الحكم العسكري بقيادة عبود ، عاد الحكم المدني بانتخابات جرت عام 1965 بإشراف حكومة انتقالية، جاءت بحكومة مدنية مبنية على تحالفات مدنية متناقضة أدت إلى اضطرابات سياسية واقتصادية، اتخذتها المؤسسة العسكرية ذريعة للانقضاض على السلطة ووقف نزيف البلاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فكان انقلاب العقيد (آنذاك) جعفر نميري عام 1969،وظل النميري في الحكم طيلة 16عاماً تخللتها محاولات انقلابية فاشلة، لتنتهي فترة حكمه بانتفاضة جماهيرية واسعة استجاب لها وزير الدفاع (آنذاك) المشير عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985، ولفترة انتقالية لمدة عام واحد فقط. سلم السلطة بعد انقضاء العام لحكومة منتخبة ترأسها زعيم حزب الأمة الراحل الصادق المهدي ، لم تبقً تلك الحكومة المنتخبة سوى ثلاثة أعوام تقريباً، تخللتها صراعات كثيرة بين القوى السياسية، نجم عنها عدم استقرار سياسي، واستقطاب حاد بين المكونات السياسية. وكالعادة استغلت المؤسسة العسكرية تلك الاضطرابات والنزاعات بين النخب السياسية لتنقض على الحكم، فكان انقلاب العميد (آنذاك) عمر البشير، بدعم من الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي. أن حكم المؤسسة العسكرية في فترة ما بعد الاستعمار في بلدان شمال إفريقيا، هو انتقال لا مفر منه، وتحول نموذجي لا غنى عنه في أسلوب الحكم وإدارة البلاد. ولكن وبمرور الزمن أضحت مطالبة الجيش بالسلطة، وأحقيته وأهليته للحكم تنبثق أساساً من اقتناع المؤسسة العسكرية بأن أي حكومة مدنية غير جديرة بالثقة، وغير مؤهلة لسبر أغوار السياسة ودهاليزها. ففي الذهنية العسكرية، يفترض الجنرالات ضمنياً أن أي كيان مدني سيكون عرضة للفساد، وسيعرض البلاد إلى اضطرابات اقتصادية بسوء إدارة، ومراهقة سياسية، وافتقار للخبرة والحنكة والانضباط الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية.ولكن الحقيقية التي لا يمكن إنكارها هي أن أياً من الأحزاب السياسية المدنية لم تُمنح فرصة حقيقية لإثبات قدراتها في فترات الأنظمة البوليسية القمعية، التي عملت على تصحر وتجريف الحياة السياسية بالمطلق. اتخذ الجنرالات هذا القصور ذريعة، فنصبوا أنفسهم حماة للحمى، ورعاة لمقدرات الوطن والمواطن. ولكن الواقع يفند تلك الادعاءات، فسجلات الجنرالات والعسكر خاوية من أي إنجاز اقتصادي، أو اجتماعي في أي من الدول التي حكموها. لقد كانت استراتيجيتهم اللعب على وتر سيكولوجية الشعوب، واحتياجها للأمن والأمان، الذي توفره لهم المؤسسة العسكرية حصرياً. فكانت الانقلابات العسكرية المدعومة شعبياً، ولو شكلياً، هي أبسط وأقصر الطرق لاحتفاظ الجنرالات بالحكم. مما لا شك فيه أن العامل الزمني خدم الجنرالات بشكل واضح فمنذ بداية الاستقلال، وانتهاء الحرب الباردة، تبنت دول الاستعمار التاريخي فكرة حتمية ابقاء الجيش حاكماً نافذاً وفاعلاً للسيطرة على دول العالم العربي، في فترة ما بعد الاستعمار. فبالنسبة للقوى الاستعمارية، كان الجيش هو القوة الأكثر تنظيماً وفاعلية للتعامل معها، وتوظيفها لخدمة أجندات الدول الاستعمارية، فببعض الامتيازات، والدعم السياسي واللوجستي للجنرالات، تضمن تلك الدول ولاءات الجنرالات وإخلاصهم لأجندات تلك الدول الداعمة والمثبتة لأركان حكمهم. هل تعلم الشعب السوداني الدرس.
كم هي مسكينة شعوبنا العربية التي ترزح تحت نير الظلم والطغيان منذ عقود وعقود. كم ذاكرتها قصيرة كذاكرة الذباب وربما أقصر. لا تتعظ من التاريخ الحديث فما بالك أن تتعظ من التاريخ القديم. وقد قال وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشي دايان ذات يوم: (العرب أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تفعل). وهذه المقولة تنطبق على الشعوب العربية بحذافيرها. ويكفي أن تنظر على مدى سنوات الثورات الماضية إلى ردود أفعال الشعوب وتصرفاتها لتدرك كيف أنها فعلاً تطبق مقولة موشي دايان على أكمل وجه، مع الاعتراف طبعاً أن بعض الشعوب أدركت اللعبة متأخرة، عندما فقدت الأمل بالقوى الكبرى، وأصبحت تردد شعار: (ما لنا غيرك يا الله).
لطالما ناشدت الشعوب العربية المجتمع الدولي كي يساعدها في ثوراتها على الطغاة، وكي ينقذها من كارثتها، وخاصة على مدى العقد الماضي منذ بداية الربيع العربي. كم من المرات سمعنا المتظاهرين في شوارع الدول العربية يستنجدون بالأمريكي خصوصاً والغربي عموماً، دون أن يدروا أن هذا الذي يستنجدون به يديرنا ويستعمرنا بالوكلاء والمليشييات ، خرج المستعمر القديم ولكن الوكلاء المحليين يقومون بالدور بدلا عنه. من غزا العراق وهدد بإعادته إلى العصر الحجري كما فعل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد لا يمكن مطلقاً أن ينقذ أي شعب عربي من جلاديه. ولا ننسى أن المنقذ الأمريكي المزعوم كان من قبل قد قتل أكثر من مائة وثمانية ملايين هندي أحمر، وهم سكان أمريكا الأصليون كي يقيم امبراطوريته على جماجم الهنود الحمر. قبل أن تستنجدوا بالأمريكي عليكم أن تقرأوا تاريخه وتاريخ حروبه على دول كثيرة. قليلة هي الدول التي لم تعتد عليها أمريكا عسكرياً أو اقتصادياً
ثمة حقيقة دامغة، وهي أن التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة، وأن التغيير عادة ما يأتي بموجات متعددة. يبدو أن الشعب السوداني استوعب الدرس من موجة الربيع العربي الأولى، وهو ملح على عدم اختطاف ثورته، وعدم الرضا فقط باقتلاع رأس النظام. ولكن تحصين السودان من حكم العسكر ما يزال تحدياً مهماً في طريق تكريس نظام حكم أكثر تشاركية، وأكثر استجابة لاحتياجات الشعوب، ينتهي بترسيخ السلطة بيد الشعب، ببناء مؤسسات مدنية واجتماعية ومجالس محلية، وتغيير ثقافي مرافق. تم اختطاف المشروع التحرري الشعبي من طرف العسكر، بتمويل من قوى الثورات المضادة، وهو ما يزال يخيم على السودان. ولكن ما يميز السودان أنه استفاد من تجربته الخاصة وتجارب غيره، ويعلم أنه لا بد من تحصين نفسه من ألاعيب الثورات المضادة، وأن يتخذ التدابير التي تقيه شر المشاريع المضادة. في النهايةنقول أن الشعب وحده هو الوصي علي ثورته التي دفع من أجلها الغالي والنفيس ونأمل بإمكانية التغيير والانتقال دون إراقة دماء وتهجير، وتدمير البلاد.
mido34067@gmail.com
/////////////////
تقوم العقلية العسكرية العربية على فكرة أن الجيش هو الضامن لأمن وسلامة البلاد ولسير العملية السياسية، وأن الحكومات المدنية غير قادرة على إدارة الدولة. الأمر الذي يعطي الجنرالات الحق في التدخل السياسي، وهي فكرة مغلوطة بلا شك. مما لا شك فيه أن المؤسسة العسكرية الوطنية في السودان قد لعبت دوراً مهماً في تمهيد الطريق لبناء الدولة الحديثة ما بعد الاستعمار، ولكنها سرعان ما قدمت نفسها حصرياً على أنها الدرع الواقي لبقاء ذلك الكيان القومي الوليد، فارتأت أن تدير البلاد تارة بشكل مباشر، وتارة من وراء الكواليس، وأظهرت انخراطها في الحياة السياسية على أنه عبء ثقيل عليها، والتزام أخلاقي، وتكليف لا تشريف، والحقيقة غير ذلك تماماً. تنص الوثائق الدستورية على أن الجيش الوطني مكلف بالدفاع عن وحدة البلاد، وسلامة ترابه وسيادته، ولا تذكر أي من هذه الوثائق الدستورية أي دور للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسة العامة، وإدارة شئون البلاد. لكن الواقع في المجتمعات العربية ومجتمعنا السوداني خاصة جاء مغايراً لذلك تماماً. فبالرجوع إلى التاريخ السياسي ، فإن المتتبع لتاريخ السودان الحديث يجد أن السودان لم يهنأ بعد استقلاله عام 1956 بحكومة مدنية أكثر من عامين. بدأ حكم الجنرالات في السودان عندما قفز الجيش على السلطة بقيادة الفريق إبراهيم عبود عام 1958، أعقب حكم عبود حكماً مدنياً بانتخابات جرت عام 1965، إلا أن الجيش انقض على السلطة مرة أخرى عام 1969 بقيادة جعفر النميري، الذي ظل في الحكم 16 عاماً تخللتها محاولات انقلابية فاشلة، إلى أن انتفض الشعب انتفاضة جماهيرية واسعة أتت بالمشير عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985، والذي سلم السلطة لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي، والذي انقلب عليه العميد (آنذاك) عمر البشير عام 1989. وكأن شعوب هذه البقعة من الأرض قد كتب عليها أن تتيه في فلك تلك الحلقة المفرغة، فعليها إما أن تختار، جبراً، الإدارة العسكرية الاستبدادية أو إدارة مدنية يراد لها أن تفشل في إدارة البلاد، لتبقى ذريعة التدخل العسكري قائمة. وهذا ما تذكره لنا سجلات التاريخ في البلاد ، ففي السودان، بدأ الجيش مشواره في الحياة السياسية عقب استقلال البلاد في عام 1956،. بعد أقل من عامين على الاستقلال، حكم الفريق إبراهيم عبود السودان لست سنوات، كان حكماً عسكرياً مطلقاً،ما أدى إلى تنامي المعارضة السياسية له يوماً بعد يوم، حتى وقعت أحداث جامعة الخرطوم في أكتوبر 1964، والتي أنهت الحكم العسكري بقيادة عبود ، عاد الحكم المدني بانتخابات جرت عام 1965 بإشراف حكومة انتقالية، جاءت بحكومة مدنية مبنية على تحالفات مدنية متناقضة أدت إلى اضطرابات سياسية واقتصادية، اتخذتها المؤسسة العسكرية ذريعة للانقضاض على السلطة ووقف نزيف البلاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فكان انقلاب العقيد (آنذاك) جعفر نميري عام 1969،وظل النميري في الحكم طيلة 16عاماً تخللتها محاولات انقلابية فاشلة، لتنتهي فترة حكمه بانتفاضة جماهيرية واسعة استجاب لها وزير الدفاع (آنذاك) المشير عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985، ولفترة انتقالية لمدة عام واحد فقط. سلم السلطة بعد انقضاء العام لحكومة منتخبة ترأسها زعيم حزب الأمة الراحل الصادق المهدي ، لم تبقً تلك الحكومة المنتخبة سوى ثلاثة أعوام تقريباً، تخللتها صراعات كثيرة بين القوى السياسية، نجم عنها عدم استقرار سياسي، واستقطاب حاد بين المكونات السياسية. وكالعادة استغلت المؤسسة العسكرية تلك الاضطرابات والنزاعات بين النخب السياسية لتنقض على الحكم، فكان انقلاب العميد (آنذاك) عمر البشير، بدعم من الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي. أن حكم المؤسسة العسكرية في فترة ما بعد الاستعمار في بلدان شمال إفريقيا، هو انتقال لا مفر منه، وتحول نموذجي لا غنى عنه في أسلوب الحكم وإدارة البلاد. ولكن وبمرور الزمن أضحت مطالبة الجيش بالسلطة، وأحقيته وأهليته للحكم تنبثق أساساً من اقتناع المؤسسة العسكرية بأن أي حكومة مدنية غير جديرة بالثقة، وغير مؤهلة لسبر أغوار السياسة ودهاليزها. ففي الذهنية العسكرية، يفترض الجنرالات ضمنياً أن أي كيان مدني سيكون عرضة للفساد، وسيعرض البلاد إلى اضطرابات اقتصادية بسوء إدارة، ومراهقة سياسية، وافتقار للخبرة والحنكة والانضباط الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية.ولكن الحقيقية التي لا يمكن إنكارها هي أن أياً من الأحزاب السياسية المدنية لم تُمنح فرصة حقيقية لإثبات قدراتها في فترات الأنظمة البوليسية القمعية، التي عملت على تصحر وتجريف الحياة السياسية بالمطلق. اتخذ الجنرالات هذا القصور ذريعة، فنصبوا أنفسهم حماة للحمى، ورعاة لمقدرات الوطن والمواطن. ولكن الواقع يفند تلك الادعاءات، فسجلات الجنرالات والعسكر خاوية من أي إنجاز اقتصادي، أو اجتماعي في أي من الدول التي حكموها. لقد كانت استراتيجيتهم اللعب على وتر سيكولوجية الشعوب، واحتياجها للأمن والأمان، الذي توفره لهم المؤسسة العسكرية حصرياً. فكانت الانقلابات العسكرية المدعومة شعبياً، ولو شكلياً، هي أبسط وأقصر الطرق لاحتفاظ الجنرالات بالحكم. مما لا شك فيه أن العامل الزمني خدم الجنرالات بشكل واضح فمنذ بداية الاستقلال، وانتهاء الحرب الباردة، تبنت دول الاستعمار التاريخي فكرة حتمية ابقاء الجيش حاكماً نافذاً وفاعلاً للسيطرة على دول العالم العربي، في فترة ما بعد الاستعمار. فبالنسبة للقوى الاستعمارية، كان الجيش هو القوة الأكثر تنظيماً وفاعلية للتعامل معها، وتوظيفها لخدمة أجندات الدول الاستعمارية، فببعض الامتيازات، والدعم السياسي واللوجستي للجنرالات، تضمن تلك الدول ولاءات الجنرالات وإخلاصهم لأجندات تلك الدول الداعمة والمثبتة لأركان حكمهم. هل تعلم الشعب السوداني الدرس.
كم هي مسكينة شعوبنا العربية التي ترزح تحت نير الظلم والطغيان منذ عقود وعقود. كم ذاكرتها قصيرة كذاكرة الذباب وربما أقصر. لا تتعظ من التاريخ الحديث فما بالك أن تتعظ من التاريخ القديم. وقد قال وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشي دايان ذات يوم: (العرب أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تفعل). وهذه المقولة تنطبق على الشعوب العربية بحذافيرها. ويكفي أن تنظر على مدى سنوات الثورات الماضية إلى ردود أفعال الشعوب وتصرفاتها لتدرك كيف أنها فعلاً تطبق مقولة موشي دايان على أكمل وجه، مع الاعتراف طبعاً أن بعض الشعوب أدركت اللعبة متأخرة، عندما فقدت الأمل بالقوى الكبرى، وأصبحت تردد شعار: (ما لنا غيرك يا الله).
لطالما ناشدت الشعوب العربية المجتمع الدولي كي يساعدها في ثوراتها على الطغاة، وكي ينقذها من كارثتها، وخاصة على مدى العقد الماضي منذ بداية الربيع العربي. كم من المرات سمعنا المتظاهرين في شوارع الدول العربية يستنجدون بالأمريكي خصوصاً والغربي عموماً، دون أن يدروا أن هذا الذي يستنجدون به يديرنا ويستعمرنا بالوكلاء والمليشييات ، خرج المستعمر القديم ولكن الوكلاء المحليين يقومون بالدور بدلا عنه. من غزا العراق وهدد بإعادته إلى العصر الحجري كما فعل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد لا يمكن مطلقاً أن ينقذ أي شعب عربي من جلاديه. ولا ننسى أن المنقذ الأمريكي المزعوم كان من قبل قد قتل أكثر من مائة وثمانية ملايين هندي أحمر، وهم سكان أمريكا الأصليون كي يقيم امبراطوريته على جماجم الهنود الحمر. قبل أن تستنجدوا بالأمريكي عليكم أن تقرأوا تاريخه وتاريخ حروبه على دول كثيرة. قليلة هي الدول التي لم تعتد عليها أمريكا عسكرياً أو اقتصادياً
ثمة حقيقة دامغة، وهي أن التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة، وأن التغيير عادة ما يأتي بموجات متعددة. يبدو أن الشعب السوداني استوعب الدرس من موجة الربيع العربي الأولى، وهو ملح على عدم اختطاف ثورته، وعدم الرضا فقط باقتلاع رأس النظام. ولكن تحصين السودان من حكم العسكر ما يزال تحدياً مهماً في طريق تكريس نظام حكم أكثر تشاركية، وأكثر استجابة لاحتياجات الشعوب، ينتهي بترسيخ السلطة بيد الشعب، ببناء مؤسسات مدنية واجتماعية ومجالس محلية، وتغيير ثقافي مرافق. تم اختطاف المشروع التحرري الشعبي من طرف العسكر، بتمويل من قوى الثورات المضادة، وهو ما يزال يخيم على السودان. ولكن ما يميز السودان أنه استفاد من تجربته الخاصة وتجارب غيره، ويعلم أنه لا بد من تحصين نفسه من ألاعيب الثورات المضادة، وأن يتخذ التدابير التي تقيه شر المشاريع المضادة. في النهايةنقول أن الشعب وحده هو الوصي علي ثورته التي دفع من أجلها الغالي والنفيس ونأمل بإمكانية التغيير والانتقال دون إراقة دماء وتهجير، وتدمير البلاد.
mido34067@gmail.com
/////////////////