الفكر الإنقلابي لحسن الترابي (3-3): لينين إفريقيا الإسلامي

 


 

صديق محيسي
20 June, 2014

 


سئل الترابي إذا كان حقاً يقدم نفسه كزعيم إسلامي جديد يقود العالم إلى العدالة والمساواة، فقال: إن بعض أجهزة الإعلام الغربية صارت تطلق عليه لقب لينين إفريقيا. وقال: إذا كان فلاديمير ايلتش لينين قد فجر ثورة 1917 البلشفية في روسيا، فإنه الآن يفجر ثورة إسلامية تبدأ من السودان لتعم العالمين: العربي والإسلامي، ثم العالم كله قريبا جداً واللافت هنا أن الترابي بدأ معجباً إعجاباً خفيا بالنمط الماركسي لمفهوم الثورة، وإن اختلفت دوافع وأساليب وغايات هذه الثورة, ويقترن فهم الترابي هذا بتصريحات كان قد ذكرها في كتابة (تاريخ الحركة الإسلامية) عندما أعترف أنه أخذ كثيراً من نظم وتكتيكات الأحزاب الشيوعية (الحزب الشيوعي السوداني نموذجاً)، وذلك في بنائه للتنظيم الإسلامي (حركة الإخوان المسلمين). والترابي الذي تنمو في داخله بذرة هذا الهدف عكس زعماء سودانيين تقليديين اكتفوا فقط بقيادة جماهير أحزابهم، فهو منذ الثورة الشعبية في أكتوبر عام 1964 وضع نصب عينيه مراحل كان يتعين عليه التعامل معها بذكاء، ثم إنجازها بعد إنضاجها. فالرجل ذو الثقافة الإسلامية التي يختلف على درجة قوتها الكثيرون، يجيد لغتين الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ويجيد استنباط مصطلحات سياسية مستمدة من القرآن، كما يجيد استخدام لغة عربية كلاسيكية مقعرة، يجد القارئ صعوبة في فهمها. غير أن كل هذا أعطاه شروطاً للزعامة لم تتوافر في زعماء آخرين من أمثاله، سيما التقليديون منهم. فهو ذكي لماح ومخاتل سريع البديهة، ويستبدل الاستعجال بالتأني عندما يكون الهدف يحتاج إلى بطء. وهذا ما ادخله في مآزق أحيانا، وما فتح أمامه باب النجاح أحياناً أخرى.
وفي القراءة السرية للسيرة الباطنية للترابي فإن انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 لم يكن أصلاً الهدف منه إقامة نظام إسلامي في السودان بقدر ما كان ذلك الهدف هو تحقيق طموحاته الشخصية التي لا يفصح عنها وهي: قيادة السودان، ثم العالم الإسلامي بدءاً بالخريطتين العربية والأفريقية. وهذا ما حدا به أن يشبه نفسه بالزعيم الشيوعي فلاديمير لينين. وحتى يصل إلى هذا الطموح فإن الرجل بعد ان اطمأن على رسوخ أقدام نظامه الجديد على أرض السودان طفق يفكر في وضع أولى اللبنات التي تجعله زعيما ومفكراً أممياً. فهو لم يكتف بزعامة على رقعة أرض شاسعة كالسودان، فذلك يضيق على طموحه الجامح، وإنما يريد أن تكون زعامته تتسامق على قامات مفكرين سبقوه أمثال: أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، ومالك بن نبي؛ وعلى هذا فإن حسم الأمر داخلياً بصناعة واجهة من العسكريين والمدنيين (الصغار) يتطلب صناعة نافذة مغايرة، يطل منها إلى العالم الخارجي. فهو لم يعد يشغل باله الداخل بقدر ما يؤرقه محيط عربي وعالمي طالما حلم باختراقه وقيادته. فلماذا لا يكون مانديلا جديدا بعدما صار لينين قديما؟ ولماذا تترك زعامة الحركة الإسلامية للخارج العربي؟ هذا هو محرك الأسئلة الصعبة والإجابات الأكثر صعوبة لرجل يريد أن يمتد ظله إلى كل أنحاء العالم، ولرجل يسعى لإلغاء الآخرين باعتبار أنه فوق كل هؤلاء الآخرين.
إذن فإن تحقيق حلم زعامة بهذه المواصفات والشروط لا يمكن حدوثه بأسلوب تقليدي لا يتماثل مع متغيرات الواقع من حوله، فكان أن أقام الترابي تنظيمه الجديد (المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي) في أبريل 1991 ليكون مقره السودان. ومن اللافت في التسمية التي دفعت بصفة الإسلامي إلى آخر العنوان يكتشف المرء أن الترابي يريد تنظيماً شعبياً عربياً   سياسياً اولا, ثم إسلامياً ثانيا ,وحتى لا يجيء ذلك المؤتمر حصراً على الإسلاميين وحدهم، سعى الترابي لإعطائه بعداً قومياً، فكان خليطاً غريباً من الإسلاميين والقوميين والماركسيين، فجلس في قاعة المؤتمر جورج حبش و نايف حواتمه، بجانب راشد الغنوشي، ويوسف القرضاوي، وعبدالمجيد الزنداني، ومهدي خروبي. ووصل الخرطوم يومذاك ثوار إسلاميون من الشيشان وكشمير والتاميل. ولأول مرة يحاول الترابي مزج الماركسية والأصولية الإسلامية مع العروبية في كوب واحد مليء بالزيت والماء معاً. فما ان تتوقف عملية رج الكوب حتى يطلع الزيت إلى أعلى وينزل الماء إلى أسفل. فالتنافر العضوي في المادتين لا يسمح بعملية الذوبان. غير أن الطامح لقيادة العالم جمع كل هذا العدد من الخلق استعداداً للجهاد ضد الإمبريالية والاستكبار العالمي.
كان ضمن الأجندة الخفية التي لا يعرفها المؤتمرون أن الترابي يسعى لقيام كيان جديد يتجاوز أو يلغي منظمة المؤتمر الإسلامي التي يراها عاجزة عن تحقيق "طموحات المسلمين" فهو قبل أن يعقد هذا التجمع شن هجوماً شديداً عليها، ووصفها بأنها عبارة عن عباءة إسلامية بدون جسم  وان الأوان قد جاء لقيام تجمع إسلامي شعبي حقيقي .

في الملف السياسي لصحيفة الرأي العام السودانية 13مايو  2004  عقد  الكاتبان الصحفيان  بابكرعبد السلام ومنيرعادل مقارنة بين الترابي كرئيس للمجلس الوطني السوداني، (البرلمان)، وبين خلفه أحمد إبراهيم الطاهر وهو من تلامذته أيضاً.
يروى عن الترابي أنه رفض في إحدى جلسات البرلمان الطويلة إعطاء إذن خروج للنواب إلا "لقضاء الحاجة" بشرط العودة بأسرع ما يمكن، بل لا يتردد في إعمال فقه الضرورة لأن يطلب من النواب الجمع ما بين صلاتي الظهر والعصر كما يفعل هو شخصياً في مثل هذه الحالات. ونواب برلمان الترابي عليهم قبل كل شيء الاستئذان منه قبل الجلوس في مقاعدهم حالة حضورهم قبل بداية الجلسة وعند خروجهم. وربما انتظر العضو طويلاً حتى يتنبه له الترابي المعروف بجلسته المستقيمة ووضع اليد اليمنى على الخد الأيمن، وكأنه في لحظة تفكير عميق، وربما كان عصياً على النواب مقابلة الترابي في مكتبة المحاط بحاشية من السكرتارية والحراس الأمنيين، وبعض الوزراء كانوا يداعبون بعضهم بعضا عند حضورهم للبرلمان حينما يسأل احدهم الآخر ما إذا كان قد أدى فرض الولاء والطاعة للشيخ   والكاريزما الترابية ذات الأبعاد السياسية كما يقول تحليل الرأي العام هي بحكم ثقل الرجل الروحي في حكومة الإنقاذ من الصعب جداً مقارنتها بأي من الرؤساء الذين تعاقبوا على البرلمان.
الدكتور الترابي اختير في أبريل 1996 رئيساً للمجلس الوطني بعد فوزه، في دائرة حي الصحافة، وهي ذات الدائرة التي فشل فيها نتيجة تكتل حزبي في انتخابات عام 1986. وأختار الترابي معاونيه من أبناء جيله في الحركة الإسلامية، مثل محمد يوسف محمد وموسى حسين ضرار، و التجاني سراج، وخديجة كرار، وتاج السر مصطفى. ومنح فرصة لصديقه عبدالعزيز شدو المحامي ليكون نائباً له رغم البون الشاسع بين طريقة حياة الرجلين. ويرى نائب إسلامي أن شخصية الترابي (فاعلة ومؤثرة وقادرة على اتخاذ المواقف وتوليد الأفكار. انه معتد بنفسه ومستمع جيد ومشارك للآخرين في نشاطاتهم وعباداتهم.) ومع ذلك يقول: "إن مشكلة الرجل الوحيدة صراعاته التي لا يتورع فيها من إقصاء خصومه أما عن الساحة السياسية وأما معنوياً". وهو لا يتنازل أبداً عن أشياء يراها صحيحة. كان الترابي ينادي على الأعضاء بأرقام مقاعدهم دون ذكر أسمائهم، ولكن الأعضاء في عهد خلفه أصبحوا أشخاصاً، وأسماء ويتساءل البعض ما إذا كان الترابي يقصد هذا الاستخفاف بالآخرين، أم أن الرجل يتبع أسلوباً غربياً ليبرالياً؟ ويسترجع نائب آخر العلاقة التي كانت تربط الترابي بالنواب فيقول "كان الشيخ قريباً من قلوب النواب، كان يقابلهم بمنزله بالمنشية في شكل أفراد ويعالج مشاكلهم، ويوجه الدعوات لهم لتناول الأكل بمنزله، وكان يجلس لساعات يستمع إلى ضيوفه دون كلل"  .


s.meheasi@hotmail.com

 

آراء