الفكر والسياسة في خطاب النخبة السودانية

 


 

 

 

من القضايا الملفته في خطاب النخبة السودانية، لا تجد هناك حدود للتمييز بين ما هو فكري و سياسي، حيث يغيب الفكر دائما في حضرة السياسة، رغم أن الفكر هو المحرك، بسبب قلة النخبة التي تشتغل بالفكر، و أيضا بسبب أن الأحداث تتلاحق بصورة سريع، و تحتاج إلي إجابات سريعة، أما قضايا الفكر تحكم الشخص بضوابط كثيرة؛ أولها أنها تؤسس علي منهج، و على افتراضات تحتاج إلي تنقيح و تحليل، لكي تصل للنتائج المطلوبة، لذلك تتحاشى النخبة السياسية أن تغوص في أعماق لا تملك لها استعدادا معرفيا يجعلها تواصل هذه الجانب المهم في العمل السياسي، باعتبار أن الفكرة كأداة معرفية يمتلك القدرة علي تغيير الموضوعات المطروحة في الساحة السياسية إذا وصل النقاش و الحوار بين الفرقاء إلي طرق مغلقة، و يتطلب التغيير لمواصلة الحوار، فالمفكر هو الذي يستطيع أن يقوم بعملية تغيير الموضوع من خلال طرح أسئلة جديدة.

قبل المؤتمر الاقتصادي؛ كان واضح أن هناك تيارين؛ الأول يمثل المدرسة الليبرالية و كان يمثلها وزير المالية السابق الدكتور إبراهيم البدوي، ثم من بعده الدكتورة هبة محمد علي، و تيار يمثل المدرسة الاشتراكية، و هو تيارغالب في اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية و التغيير، و حكومة حمدوك تؤيد التيار الليبرالي الذي يرغب في التعامل مع المؤسسات المالية العالمية. كان المتوقع أن يحدث حوارا فكريا بين المدرستين من خلال بحوث تتخللها مداخلات ترفع مستوى النقاش و تحصره في الجانب المعرفي العلمي. من خلال مداخلة الدكتور صدقي كبلو القيادي في المكتب السياسي للحزب الشيوعي و عضو اللجنة الاقتصادية ل " لقحت" قال لا يعتقد الناس نهدف إلي فرض المدرسة الاشتراكية، بل ننطلق من ذات المدرسة الرأسمالية الحديثة. إنها مقولة بسيطة ضحك عليها الناس؛ و لكنها تحمل مضامين فكرية عميقة جدا، و تنقل الحوار لما بعد انفضاض المؤتمر الاقتصادي، علي مسرح الفكر و السياسة.
مقولة الدكتور صدقي كبلو تحتوى علي بعدين فكريين، هل كبلو كان يقصد بحديثه أنهم كحزب شيوعي يدعمون النظام الرأسمالي لتهيئة شروط الصراع الطبقي. أم أن الحزب بالفعل وصل لقناعة أن النظام الرأسمالي هو الأفضل في تحقيق النهضة و رفاهية الشعب، إذا كان يقصد الأولي لماذا لم يقدم دراسات تبين أن يلتقي مع الدرسة الرأسمالية لكي يحقق هذا الدعم شروط الصراع الطبقي، و المتمثل في ملكية وسائل الانتاج و علاقات الإنتاج التي تتطلب من البوليتاريا أن تخوض صراعها مع القوى البرجوازية. خاصة أن الصراع ينتج من خلال الوعي الذي يتم لقوى البوليتاريا بأن مالكي وسائل الإنتاج يستغلون قوة عملهم في تحقيق أرباح طائلة لهم، بينما هي لا تملك غير الفتات. و في ذلك يعتقد كل من ماركس و انجلز أن الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي لعمل التغيير الاجتماعي، و في ذات الوقت يعتقد ماركس أن قوانين الإنتاج الرأسمالي تؤدي إلي الأفقار مما يؤدي لقيام الثورة في المجتمع. هذه المقولة أثبت الواقع تحتوي علي إشكاليات لم تتحقق في الواقع في الدول الرأسمالية. لذلك ساهمة في تقديم أجتهادات من داخل المدرسة الماركسية، و هي القضية التغيب عن الماركسيين السودانيين. حيث أن قيادات الحزب توقف أطلاعها عند كتاب رأس المال.
نجد أن الماركسية في تطورها الفلسفي أنتجت العديد من الأراء الناقدة لها من داخل الفكر نفسه، و أيضا هناك بعض الخلافات في قضية الصراع الطبقي، نجد أن الزعيم الصيني ماو سيتونج يقول أن صراعات الطبقات الاجتماعية يؤدي معنى للتاريخ و يشرح الديناميات التي تغير المجتمعات، إذاً هناك ديناميات متعددة، وهي كانت مدخلا للمحدثين في الحزب الشيوعي الصيني الذين أقروا بتبني اقتصاد السوق الحر في التنمية الاقتصادية، و كيفية تلاءمه مع الفكر الماركسي، و استطاعوا أن ينجحوا في التنمية الاقتصادية، بل غزو العالم بمنتجاتهم. و هناك رأي أخر يعتقد أن الصراع دأخل النظام الرأسمالي ليس بين البرجوازية و البوليتاريا، لكن هناك صراعا داخل المنظومة البرجوازية نفسها، و تتدخل البوليتاريا لحماية مصالح هذه المجموعات حتى لا تفقد هي مصالحها. بمعنى أن النظام الرأسمالي قادر علي إيجاد حلول لمشاكله. و في جانب أخر، هناك أيضا أراء أخرى ناقدة للماركسية من داخل الفكر الماركسي نفسه الذي تبنته نخبة " معهد فرانكفورت" أمثال أودرنوا و هربرت ماركوزا، و أخيرا هيبرماس في مشروعه " الفعل التواصلي الاجتماعي " الذي يربط فيه بين الديمقراطية و الأخلاق، و يعتبر الحوار أو النقاش السياسي مبدأ ديمقراطي، حيث أطلق عليها الديمقراطية التشاورية التي تمكن الجميع من تحديد الشكل الذي يتم عليه التواصل و الرآي العام، و هي فلسفة تحاول أن تعطي الديمقراطية بعدها الاجتماعي و ليس الفردي كما هو في الليبرالية. لكن الماركسيين في السودان لا يقدمون أجنهادات فكرية لتطوير الماركسية من خلال التطور الذي يحدث في العلوم و المجتمعات. و كتفوا بالكتب التاريخية لكل من ماركس و أنجليز، أي الفكر الأرثوذكسي الاستاليني، رغم الاجتهادات التي تمت لمراجعة الفكر الماركسي.
و إذا أخذنا مقولة كبلو بالبعد الثاني، تبني الرأسمالية كفلسفة لنظام الحكم تتطلب من الذين يؤمنون بهذا التحول اجتهادا فكريا، لأنه يؤثر علي مقولات و مراحل في تطور البناء الشيوعي، و هي مرحلة بالضرورة سوف تتخطى عتبة الماركسية الكلاسيكية، إلي مرحلة جديدة لابد ن تغيير في القاعدة المعرفية، لأن مسألة تبني الرأسمالية بشروطها المعروفة، أو حنى محاول البحث عن شروط جديدة كما سماها كبلو " الرأسمالية الحديثة، أنها سوف تسقط عملية الصراع الطبقي، بسبب أن الرأسمالية لديها قدرة علي معالجة و إيجاد الحلول لمشاكل التي تواجهها، و أيضا لا ترفض أن يكون للدولة تدخل في الاقتصاد، كما يحدث في العديد من الدول الديمقراطية، حيث تقوم الدولة بالعديد من الخدمات منها مجانية التعليمو الصحة و المواصلات العامة، و تخفيض الدفع في الكهرباء و الدواء لمنخفضي الدخل و كبار السن، و العناية بكبار السن و الأطفال، و فاقدي العمل و غيرها التي لا تجعل المواطن يحتاج للسؤال. و أيضا كما فعلت الأحزاب الشيوعية في العديد من دول أوروبا عندما اسقطت ديكتاتورية البوليتاريا من برنامجها السياسي، و قبلت بالتنافس عبر صناديق الاقتراع للوصول للسلطة، و قبلها كانت قد قدمت اجتهادات فكرية من داخل المنظومات الحزبية. و إذا كان كبلو يقف مع البعد الثاني، يصبح مطالب هو و الذين يؤيدونه الرآي إجراء مراجعات فكرية. لكن التيار الاستاليني داخل الحزب لا يقبل مثل هذا الاجتهاد، و دلالة علي ذلك أن رؤية كبلو هي ذات الرؤية التي كان قد حملها من قبل كل من الخاتم عدلان و الحاج وراق و الدكتور خالد الكد و زملائهم الذين خرجوا معهم. ثم الدكتور الشفيع خضر و حاتم قطان و المجموعة التي خرجت معهم. لكنها سوف تظل قضية صراع فكري داخل الحزب، و لابد لمقولة كبلو انعكاساتها في إطار الحوار أن كان داخل الحزب أو للتيار الليبرالي في السودان. و سوف نرجع للقضية مرة أخرى؛ لأنها تحمل بعدا فكريا يجب أن يفتح منافذا عديدة للحوار الفكري بين المدارس الفكرية المختلفة في السودان، و بالفعل نحاتج إلي نقلة في مستوى الحوار بين التيارات الفكرية المختلفة، بهدف خلق منهجا جديدا في العمل السياسي يؤد إلي وعي يؤسس علي العلم و المعرفة. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء