القطاع الخاص السوداني: لمحة تاريخية (3) . بقلم: روبرت أل. تجنور. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



القطاع الخاص السوداني: لمحة تاريخية (3)

The Sudanese Private Sector: an Historical Overview

بقلم: روبرت أل. تجنور  Robert L. Tignor

ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: نشر البروفسور الأمريكي روبرت أل. تجنور الأستاذ (الفخري) للتاريخ الحديث والمعاصر في جامعة برينستون في نيو جيرسي هذا العرض لتاريخ القطاع الخاص في السودان في مقال مطول (34 صفحة) نشر عام 1987م في "مجلة دراسات  أفريقيا الحديثة". نال الكاتب درجة الدكتوراه من جامعة ييل عام 1960م، وله اهتمامات بحثية بأفريقيا وتاريخها (خاصة في نيجيريا وكينيا ومصر) وكان آخر كتاب صدر له عن "تاريخ مصر". لخص الكاتب في الجزء الأول من المقال تاريخ القطاع الخاص في عهد المهدية، وسجل في الجزء الثاني خطوات تقدم القطاع الخاص حتى قيام الحرب العالمية الأولى.  في هذا الجزء  يسرد بعضا من خطوات تقدم القطاع الخاص بين عامي 1920 – 1950م . نترجم هنا بإيجاز شديد بعض أهم النقاط التي وردت بالمقال. المترجم
العهد الاستعماري الكلاسيكي (1920 – 1950م)
فتح الإنفاق الضخم الذي قامت به الحكومة قبل قيام الحرب العالمية الأولى في مجالي النقل والمواصلات الباب واسعا للتجارة والنمو الاقتصادي في البلاد.  ظهر بعد ذلك اتجاه جديد لسياسات البلاد المالية، رغم أن الدولة كانت ما زالت ممسكة بمفاصل الاقتصاد ومفاتيحه الهامة. نال قطاع النقل بين عامي 1919 و1939م نصيبا كبيرا من الإنفاق الرأسمالي، بيد إن التركيز في التنمية والإنفاق الحكومي انصرف إلى مجال الزراعة، ولكن دون أن يكون للقطاع الخاص في ذلك نصيب. امتلكت الدولة كل المشاريع في الريف، وكان أضخمها هو مشروع الجزيرة.
في سنوات الحكم الاستعماري الأولى كان هنالك استثناء – شبه وحيد - لقرار الحكومة عدم منح أراضي لمستثمرين أجانب. كان ذلك الاستثناء هو لرجل أعمال أمريكي اسمه "لاي هنت"، والذي منحته الحكومة 10 ألف فدان لإنشاء مزارع تجريبية في منطقتي الزيداب وطيبة. عندما سجل ذلك الثري الأمريكي شركته في إنجلترا لأول مرة، لم يكن رأسمالها يفوق 8000 جنيه إسترليني، وكان لديها أصولا تساوي ذات المبلغ. توسعت الشركة فيما بعد، وشارك فيها عدد من المستثمرين الأجانب الآخرين، وأعيد تسمية الشركة ب "مشروع السودان الزراعي التجريبي". حاولت تلك الشركة إدخال محاصيل جديدة في مزارعها، بيد أن أكثر مشروعاتها التجريبية نجاحا كان في مجال القطن.
قبل بدء الحرب (العالمية الأولي) تقدم لورد كتشنر ]1850 – 1916م، وهو من قاد الجيش البريطاني المصري الذي غزا السودان في 1899م. المترجم[ والذي كان يحتل منصب القنصل العام (البريطاني) في مصر، باقتراح لتطوير منطقة الجزيرة، وهي أرض مثلثة الشكل تقع بين النيلين الأبيض والأزرق، وتبلغ مساحتها خمسة مليون فدان. أقترح كتشنر إنشاء خزان للمياه في منطقة سنار، وأن تروى أراضي الجزيرة بالمياه المنحدرة من ذلك الخزان. كانت الدراسات الأولية التي أجريت على تلك الأراضي قد أثبتت أن تلك الأراضي تصلح  جدا لزراعة القطن متوسط وطويل التيلة.
عادت فكرة كتشنر للظهور مرة أخرى في عام 1918م، فبدأ العمل في المشروع في بدايات العشرينات رغم احتجاجات المصريين على استغلال السودان لمياه النيل. وكما هو الحال في مصر والهند، تولت الدولة مسئولية الخزان وأعمال القنوات الرئيسية. كانت تكلفة المشروع ضخمة مما اضطرت الحكومة معه لطلب قرض بقيمة 6 مليون جنيه إسترليني من سوق المال في لندن، إذ لم يكن من المتوقع أن تقوم شركة  أو مجموعة شركات خاصة بالمغامرة بمثل ذلك المبلغ من مالها للاستثمار في السودان في تلك المرحلة الباكرة من نموه الاقتصادي. ليس هنالك أي شك في أن الحساسية المفرطة عند الوطنيين في مصر لقيام أي مشاريع مائية على النيل قد أعاقت دخول القطاع الخاص في عمليات تشييد السد وقنوات الري.
قررت الحكومة أيضا أن تكون لها (فعليا) نصيب الأسد في زراعة القطن في الجزيرة. كان هذا مخالفا للسوابق البريطانية الاستعمارية والتي قضت في مصر وسائر الدول الأفريقية المستعمرة بأن يقوم المزارعون، وبصورة مستقلة، بزراعة المحاصيل النقدية. خشيت الإدارة البريطانية في السودان من قلة عدد سكان منطقة الجزيرة وقلة خبرتهم في التعامل مع الأسواق العالمية، لذا عقدت اتفاقا مع شركة "مشروع السودان الزراعي" (وكان رأسمالها في ذلك الوقت  نصف مليون جنيه إسترليني) بعد أن انضم إليها عدد من المستثمرين من "جمعية زراعة القطن" في بريطانيا من أجل توفير المدخلات الرئيسة (عدا الأيدي العاملة)، ولتشتري وتحلج وتبيع محصول القطن. لم يكن مسموحا للزراع بأن يمتلكوا مزارعهم، ولكنهم اعتبروا "مستأجرين" للأرض من الدولة، يأخذون نصيبهم من ريع بيع القطن مشاركة مع الحكومة والمشروع.
كانت تجربة مشروع الجزيرة تجربة أساسية وهامة للسودان، وغدا القطن بحلول عام 1920م هو المحصول النقدي الأول للبلاد، إذ فاق الدخل الذي جلبه من التصدير الدخل من الصمغ العربي. كان الدخل الذي جلبه تصدير القطن في الثلاثينات يعادل نحو 50 – 60% من دخل البلاد.
رغم أن الحكومة لم تستبعد القطاع الخاص من أعمال مشروع الجزيرة بالكلية (إذ كان هناك "مشروع السودان الزراعي") فإنه كان من الواضح أن الدولة تهيمن بصورة شبه كاملة على اقتصاد البلاد. كتب أحد رجال القطاع الخاص في مجلة الغرفة التجارية السودانية في يوليو من عام 1921م  معارضا بصورة قاطعة إنشاء مشروع الجزيرة بدعوى أنه مكلف جدا، وأضخم مما يجب، ولن يفعل شيئا سوى تحطيم مبادرات القطاع الخاص الاقتصادية، إذ أنه بتوظيفه لأعداد كبيرة من العاملين سوف يرفع من تكلفة العمالة في كل الأماكن الأخرى. عبر ذلك الكاتب عن خشيته من "تكسد العمالة في مرفق واحد"، وختم مقاله بالتحذير من أن تغدو الحكومة هي "المزارع الوحيد في السودان"، إذ أن ذلك، بحسب رأيه، "ليس هو الطريق الأمثل لتنمية البلاد".  تولى الرد على ذلك المقال وزير الزراعة في العدد التالي للمجلة (في ديسمبر 1921م)، ولفت نظر الكاتب الناقد إلى أن الحكومة كانت قد أنشأت قبل مشروع الجزيرة، مشروعين  (حكوميين) صغيرين آخرين لزراعة القطن في كل من كسلا وطوكر، وأنها قامت بعمل نظام (محكم) لتأجير الحواشات وتوزيع الأرباح، وتم استنساخ ذات التنظيم لاحقا في مشروع الجزيرة.
كانت سياسات الحكومة مبنية على أن السودان ليس بلدا مغريا بما فيه الكفاية لجذب رأس المال الأجنبي، وأن عليها "حماية" السكان من "الاستغلال الرأسمالي". لذا قامت  الحكومة بعدد من الإجراءات الاقتصادية  شملت إنشاء هيئات شبه حكومية في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، مثل "شركة السودان للإنشاءات والمعدات" بغرض إنشاء مشروعات ضخمة في مجالات الزراعة والري والنقل. مول إنشاء تلك الشركات من أموال تحصلت عليها الحكومة من إصدار سندات كانت تدر أرباحا بنسبة 4.5%، رغم أن الحكومة ظلت هي المساهم shareholder الوحيد. أنشأت الحكومة أيضا "شركة النور والطاقة" في عام 1925م، وهي شركة مول إنشائها القطاع الخاص، ولكن ظلت الحكومة مسيطرة على تنظيمها وإدارتها. ولدت تلك الشركة كنتيجة لمفاوضات وتفاهمات بين عدد من الشركات الأخرى، وكانت مسئولة ليس فقط عن إنتاج الكهرباء والبخار والثلج، بل أيضا عن شبكة المياه، والترام (الترماج) والنقل النهري في كل من الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان. منحت تلك الشركة في 1925م امتيازات تمتد لثلاثين عاما، شريطة أن تظل كل الأصول مملوكة لحكومة السودان. كان رأس مال الشركة 356000 جنيه إسترليني، ورأس مال سندات يبلغ 350000 جنيه إسترليني، مع الاحتفاظ لها بنسبة ثابتة من الأرباح.
كان الانجاز الأكبر للقطاع الخاص خلال سنوات الحرب (العالمية الثانية) هو إنشاء إطار قانوني للتجارة ظل يطالب به رجال الأعمال السودانيين لعقد من الزمان. كان أول تشريع هام صدر في عام 1916م هو "قانون الإفلاس" والذي بني على القانون الإنجليزي. أثار صدور ذلك القانون مخاوف كثير من رجال الأعمال وذلك للغط والارتباك الذي كان يسود الأوساط المالية والتجارية حيال ما يمكن حدوثه عند فشل مشاريعهم التجارية، وعن عدم وضوح حقوق المدانين والمدينين. صدر في العام التالي "قانون الكمبيالات"، وهو صورة طبق الأصل لنظيره البريطاني الذي صدر في 1882م. تزامن ذلك أيضا مع منع الحكومة العقود المستقبلية (الـ فيوتشرز) والعقود المقدمة (الـ فوروارد) ]وهي تشبه عقود السلم في النظام الإسلامي، حسب ما أفادنا به خبير. المترجم[، والإعلان عن أن المحاكم سوف لن تقبل ذلك النوع من العقود. كانت الحكومة تتهم التجار دوما بأنهم يتلاعبون بالأسواق ضد مصلحة المنتجين السودانيين.
كان إصدار هذين القانونين هو مقدمة لإصدار قانون الشركات في عام 1925م (والذي يشبه قانون الشركات البريطانية الصادر في 1908م)، ثم صدر قانون الشراكات في العام الذي تلاه. في البدء تم تطبيق ما صدر من قوانين تجارية في الخرطوم والخرطوم بحري وأمدرمان فقط لتقدير الحكومة إنه ليس في السودان مكان آخر متطور وراق غير العاصمة المثلثة يمكنه استيعاب مثل تلك القوانين. ولكن مع تطور المدن وتمدد النشاط التجاري في سائر أنحاء البلاد تم تطبيق هذه القوانين في كل الأرجاء.
تعد تلك القوانين التجارية التي صدرت في السودان بدائية بالمقارنة، مثلا، مع ما كان ممارسا في مصر في تلك السنوات. وليس هذا بالمستغرب، فمصر كان بها طبقة عاملة كبيرة، وبها نشاط تجاري أوسع وأنشط من ذلك الذي كان ممارسا في السودان.
صدر قانون الشراكات بسبب قضايا إفلاس شهيرة منها قضية التاجر (المحلي) سلفاتور حاكم ، وما حاق بكل من تعامل معه تجاريا من أضرار. دفعت تلك القضية السلطات لتنظيم عملية الشراكات التجارية. أخذ ذلك القانون من القانون الذي كان معمولا به في عام 1920م في ساحل الذهب (غانا بعد نيلها الاستقلال في 1957م. المترجم) ، وفي كينيا في 1921م وموريشيص في 1912م. حاولت القوانين التجارية في السودان الجمع بين التقاليد المرعية في بريطانيا وأوربا القارية، إضافة إلى الممارسات الإسلامية السودانية، ولم تحاول أن تلزم كل الشركاء بالالتزام بإطار قانوني وحيد، بل سمحت لهم بممارسة نشاطهم التجاري بما يتفق مع تقاليدهم المرعية.
في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية اقتصر نشاط القطاع الخاص السوداني على مجالي الزراعة والتجارة، وكانت الصناعة لا تزيد على مجالات محدودة مثل طحن الغلال وحلج القطن (بواسطة  "مشروع السودان الزراعي " في الجزيرة). قدمت في ثلاثينات القرن العشرين عدة اقتراحات لإنشاء مصانع نسيج، بيد أنها لم تجد استجابة من الحكومة رغم أن مصنعي الغزل والنسيج البريطانيين في تلك السنوات كانوا قد فقدوا الصدارة في العالم، والتي ذهبت منقادة للشركات اليابانية. أشارت دراسة محكمة  عن تكاليف ومنافع ذلك المقترح بأن قيام شركة لصناعة غزل ونسيج في السودان كان سوف يفقد الحكومة رسوما جمركية تفوق ما كان ممكنا الحصول عليه من ضرائب إن نجح مشروع تلك الشركة وحقق أرباحا.
رغم أن الحكومة رحبت في البداية بمقترح قدمه الكابتن (النقيب)/ سي لويد لإنشاء مصنع لغزل ونسيج القطن والجوت في سنار، إلا أنها عادت ورفضت إقامة المشروع بحجة أن ليس للمشروع من داعم مالي موثوق ومضمون. لم يكن المسئولون البريطانيون على استعداد للمغامرة بقبول مشاريع من الهواة من رجال الأعمال ومن صغارهم. كذلك خشي البريطانيون (بحذرهم وتحفظهم المعروف، وبطريقتهم "الأبوية" في إدارة شئون البلاد) من أن يؤدي وجود النقيب لويد لمتاعب هم في غنى عنها، فقد توقعوا أن يثير ذلك الرجل مشاكل مع "الأهالي"، وأن يغدو مصدر إزعاج وتخريب وتمرد. 
نقلا عن "الأحداث"  


badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء