القيادة الكاريزمية في الإسلام: مهدي السودان .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

القيادة الكاريزمية في الإسلام: مهدي السودان

Charismatic Leadership in Islam: The Mahdi of the Sudan

بروفيسور ريتشارد ديكجيمان و بروفيسور مارجريت ويزميركسي

Richard H. Dekmejian and Margeert J. Wyszomirski

عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذا عرض وتلخيص موجز لمقال طويل عن كاريزمية القيادة عند مهدي السودان نشر في عام 1972م بالعدد الرابع عشر من الدورية العالمية "دراسات مقارنة في المجتمع والتاريخ "  Comparative Studies in Society and History

يعمل بروفيسور ريتشارد ديكيميجيان أستاذا للعلوم السياسية بجامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وتدور أبحاثه المتنوعة حول دراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، والأمن القومي والإبادة الجماعية المقارنة وغير ذلك. وتعمل بروفيسور مارجريت ويزميركسي أستاذة في جامعة أوهايو الأمريكية ولها عدد من المؤلفات المتنوعة في مجالات السياسات الثقافية والفنون.

المترجم

*******      **********

يعزى الاهتمام المتزايد والمتجدد لما أتى به المفكر وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1863 - 1920م) عن السلطة الكاريزمية إلى قدرة تلك الأفكار على تقويم وتفسير الحركات الثورية التي حدثت في النصف الأول من القرن العشرين. وطبقت في السنوات الأخيرة أفكار فيبر عن السلطة الكاريزمية (الملهمة)  علي الدول غير الغربية (النامية)  في مراحل تاريخية وسياقات  ثقافية ودينية وسياسية مختلفة كذلك، مما يؤكد على القدرة التحليلية الفائقة لتلك لأفكار، وعلى التشابه بين تلك الأنظمة المتباينة وقياداتها (الكاريزمية) رغم كل الاختلافات المذكورة.

رسالة المهدي The Mahdi's Message

أعلن محمد أحمد عن مهديته صراحة في يونيو من عام 1881م عندما أرسل لكثير من الأعيان وزعماء القبائل والمريدين داعيا إياهم للانضمام إلى دعوته التي أنزلها عليه المولى. زعم الرجل أن الرسول محمد  أخبره في رؤية منامية بأنه المهدي وخليفة رسول الله (جاء في رسالة "من المهدي لأحبابه في الله" وردت ضمن ملاحق  كتاب دكتور عبد الله علي إبراهيم "الصراع بين المهدي والعلماء" ما نصه: "... كما أراد الله في أزله وقضائه تفضل على عبده الحقير الذليل بالخلافة الكبرى من الله ورسوله وأخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني المهدي المنتظر وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مرارا بحضرة الخلفاء الأربعة والأقطاب  والخضر عليه السلام  وأيدني الله تعالى بالملائكة المقربين  وبالأولياء الأحياء والميتين من لدن آدم إلى زماننا هذا...". المترجم).

سجل بروفسيور ب. م. هولت في كتابة "الدولة المهدية في السودان، 1881 – 1898م"  أن إعلان محمد أحمد للمهدية قد سبقته فترة زمنية تميزت بعمل سري قام  فيه محمد أحمد بإعلان مهديته لعدد قليل من حواريه المقربين، ثم  مضى لاختبار مناخ الرأي العام واستعداده لقبول دعوته  في منطقة غرب السودان المعزولة نسبيا. ولم تكن الحكومة  - فيما يبدو - على دراية تامة  بالموقف على الرغم من تزايد أعداد الذين بايعوا سرا  المهدي (قائدهم الثوري الجديد). ولم تبدأ السلطات الحكومية اي جدية في  القبض على الرجل إلا بعد مرور ستة أسابيع  على إعلانه صراحة عن مهديته (في يونيو 1881م).

كانت الدعوة العلنية للمهدي واضحة وبسيطة وجاذبة، وكانت أيضا ملائمة ومناسبة وذات صلة وثيقة بحقائق الأوضاع السودانية في تلك السنوات.  وفي البدء دعت مهدية محمد أحمد إلى الرجوع للإسلام المتزمت (puritanical Islam)، بيد أنها لم تبلغ حد إعلان الجهاد (المسلح) ضد الحكومة.

النخبة المهدية The Mahdist Elite

أبان تحليل للقيادة المهدوية اختير فيه 140 رجلا من أهم الشخصيات من القادة العسكريين ورجال الدين وأمراء القبائل والمقربين من المهدي والخليفة عبد الله وتجار الرقيق وغيرهم، الذين ورد ذكرهم في كتاب بروفيسور ريتشارد هيل "قاموس الشخصيات السودانية" مدى التزام هؤلاء القادة بالمهدية. ففي غضون  18 عاما من الحكم المهدوي لم ينشق عنها أو يهجرها إلا 14 رجلا (من جملة 140 ، أي ما نسبته 10% فقط)، ولم يفر هؤلاء إلا في سنوات حكم الخليفة عبد الله الأخيرة، حين بدا شبح سقوط الدولة المهدية في الظهور، ولم يكن انهيارها في نظرهم إلا مسألة وقت (جدول رقم 1). ولعل هذا الالتزام الصارم عند أولئك القادة كان يمثل مؤشرا مهما من مؤشرات  قوة السلطة المهدية وتماسكها، ووحدة الجبهة الداخلية أمام الأعداء رغم الصراعات الداخلية المستمرة التي حاقت بتلك السلطة، ورغما عن الرحيل المبكر لقائدها محمد أحمد "المهدي"، وقوة نيران الجيش البريطاني / المصري الغازي. وتشير النسبة العالية للذين قتلوا من هؤلاء القادة في المعارك (والذين يبلغ عددهم 52 من جملة 140، أي بنسبة 37.1%) وكذلك نسبة الذين صمدوا معها حتى النهاية في معركتي كرري وأم دبيكرات (والذين يبلغ عددهم 70 من جملة 140، أي بنسبة  50%) إلى شدة التزامهم بالعقيدة المهدوية وبالتضحية من أجلها.

كذلك يلاحظ أن ما من أحد من رجال  "الدائرة الضيقة" المحيطة بقائد السلطة المهدوية (وعددهم  18)  فر من أي معركة خاضتها، وظلوا كلهم مخلصين للمهدية، حتى بعد هزيمتها في 1899م، وبقوا على موقفهم معارضين صلدين للحاكم الغازي.

يبين جدول رقم (2) البيانات الأساسية  عن الـ 140 رجلا من قادة المهدية أن أكثر هؤلاء (30.7%) كانوا من سواد  الناس، مما يؤكد أن دعوة محمد أحمد "المهدي"  قد وجدت لها استجابة كبيرة وشعبية عظيمة عند غمار الشعب. وكانت الفئة الثانية التي أتى منها قادة المهدية هي زعماء القبائل (29.3%)، مما يشير إلى عظيم ضيق هؤلاء الزعماء  بالحكم التركي السابق، وتمردهم عليه. ومثل الزعماء الدينيون والزهاد  ascetics الفئة الثالثة من قادة المهدية (بنسبة 17.1%) وهذا يشير إلى الاستياء العميق عند هؤلاء من نسخة "الإسلام التقليدي/ الرسمي " الذي فرضته  الحكومة. وشكل أقرباء المهدي والخليفة الفئة الرابعة  من النخبة المهدوية الحاكمة (بنسبة 15%)، بينما شكل التجار وتجار الرقيق  نسبة قليلة من نخبة المهدويين. ويجب ملاحظة أن نسبة تجار الرقيق بين هؤلاء القادة كانت متدنية نسبيا مقارنة بالنسب التي أوردها المؤرخون الأوربيون والعرب على حد سواء، ومن الجائز جدا أن يكون بعض زعماء القبائل المذكورين تجارا للرقيق أيضا.

جدول 1. مكونات النخبة المهدية

العدد    النسبة المئوية    العدد    النسبة المئوية

العدد الذي قتل قبل 1898م    31    22.1

العدد الذي قتل في أمدرمان

وأم دبيكرات

21

15    52    37.1

عدد من قاتلوا للنهاية ونجوا (1898/9)    49    35

عدد من قتل أو سجن بواسطة الخليفة    16    11.4

عدد من مات موتا طبيعيا    9    6.4

العدد الذي فر من حكم المهدية     14    10.0

المجموع     140    100

جدول 2.  البيانات الأساسية عن  النخبة المهدوية الحاكمة

النسبة المئوية    العدد    التصنيف

17.1    24    رجال دين

29.3    41    زعماء قبائل

30.7    43    العوام (من عامة الشعب)

5.0    7    أقرباء المهدي

10.0    14    أقرباء الخليفة

3.6    5    تجار الرقيق

4.3    6    التجار

100.0    140    المجموع

الخلاصة

لقد أبرز تحليل الثورة المهدية وقائدها وفقا لنظرية فيبر عن "القيادة الكاريزمية" عن جوانب عديدة لم تك لتظهر إن تمت دراسة تلك الثورة تحت ضوء مختلف. ولقد  أبان ذلك "التحليل الفيبري" الكثير عن طبيعة العلاقة بين تجارب القائد المهدي التكوينية الباكرة وما تلى ذلك من سلوك ثوري، وكذلك عن التداخل والتفاعل بين دعوة القائد "المهدي" ومناخ/ بيئة الأزمة (crisis environment)، وعن خصائص التهميش عند أتباع ذلك  القائد  "المهدي"  في مرحلة المهدية الباكرة وعند نخبتها أيضا.  بيد أنه يجب القول أيضا أن دراسة كاريزمية القيادة المهدوية محفوفة دوما بصعوبة الحصول على المعلومات الموثوقة الكاملة والكافية عن تلك القيادة وتركيب نخبتها المميزة.

كذلك يصعب في بعض الأحايين تحديد الدوافع الحقيقية لمن أيدوا الثورة المهدية، وبحسب ما ذهب إليه المؤلفان فإنه من غير المستبعد أن يكون كثيرا من تجار الرقيق وبعض أفراد القبائل التي ناصرت القائد "المهدي" منذ وقت مبكر كانوا قد انضموا لتلك الثورة طلبا للغنائم وليس سعيا للشهادة. ولكن تبقى حقيقة أن الغالبية الغالبة من أنصار المهدي (11 ألفا على الأقل)  ظلوا على نصرتهم لها، بل وآثروا الموت في معركتهم (غير المتكافئة) ضد أسلحة الغزاة المتطورة.

توفي "المهدي" بعد شهور قليلة من نجاح ثورته دون أن يكمل مهامها القاصدة لإعادة بناء المجتمع التي بدأت لتوها. وكان من نتائج ذلك الرحيل الباكر لقائد تلك الثورة الكاريزمي الملهم أن لم ير مشروعه الروحي - الاجتماعي المتكامل النور. وبعبارة أخرى لقد  فشل المشروع المهدوي المصيري الهادف لإحداث تكامل اجتماعي وتجانس روحي بين القبائل السودانية بعد تولي الخليفة عبد الله لمقاليد الحكم بالبلاد. وعلى ضوء تحليل ماكس فيبر عن القيادة الكاريزمية فإن الثورة المهدية بعد رحيل "المهدي" لم تتعد المرحلة الثالثة في "نموذج  model " نظرية فيبر، وأحبط الغزو البريطاني / المصري من بعد ذلك أي تطور في تلك الثورة.

أختتم الكاتبان مقالهما بالتأكيد على أن دراسة الشخصيات القيادية في التاريخ الإسلامي باستخدام نظرية ماكس فيبر عن القيادة الكاريزمية  تتطلب تقليل الاعتماد على المصادر الغربية (المسيحية) والاستعاضة عنها بالمصادر المحلية. وليس بالإمكان تقويم المطلوبات والشروط المسبقة لفهم "السلطة الكاريزمية" إلا بعد الفحص الدقيق لتاريخ تلك الفترة من قبل المؤرخين المحليين.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء