الكَيل بِمِكيالين…خِصماً على غزَّة وإضافة لإسرائيل!

 


 

فتحي الضو
15 January, 2009

 

فتحي الضّـو
faldaw@hotmail.com
الاسبوع الماضي كنت في عيادة صديقي وطبيب الأسرة دكتور (ع) لإجراء فحوصات طبية دورية، وطبيبي وصديقي هذا جمع بين ثلاثة (جنسيات) أو هويات إن شئت، فهو أمريكي وكولومبي من أصل فلسطيني، أى أنه وُلد في كولومبيا لأبويين فلسطينين...ثمَّ نشأ وترعرع فيها ودرس حتى الجامعة وبعدها هاجر إلى أمريكا ليتخصص في مجاله، وطِبقاً للقانون فقد نال الجنسية الأمريكية والتي تسمح بالتعدد حتى وإن خاف حاملها ألا يعدل! وبالطبع فهو يتحدث الانجليزية والاسبانية والعربية، والأخيرة هذه هالني أنه حافظ عليها رغم كونه لم يعش في وطنه المنكوب، ولكن من حسن حظي فقد وجدت معه في العيادة والده السيد (ح) الذي تعرَّفت عليه للمرة الأولي، وقال لي إنه هاجر لكولمبيا أواخر الأربعينيات من القرن الماضي...في رحلة شاقة سرد علىّ تفاصيلها كأنه خاضها بالأمس القريب، وهو أيضاً على الرغم من أنه قضى أكثر من ستة عقود زمنية في كولمبيا إلا أنه ما يزال ينطق اللغة بلسان عربي مبين، ليس هذا فحسب بل بلهجة موغلة في اللغة العامية الفلسطينية...الأمر الذي حدا بي أن استوقفه في كلمة خرجت من بين صدغيه بعفوية جميلة، وجاءت في سياق سؤالي له عن الكيفية التي إحتفظ بها هو وابنه بلغتهم الأم، فقال لي إختصاراً أنه حرص وتحت وطأة كل الظروف ألا يغيب وأسرته عن زيارة بلدهم فلسطين، وأضاف «لذلك شيدت داراً في (واطاتي) هناك» وما أن سمعت هذه الكلمة حتى شعرت أن شيئاً ما تزلزل في كياني، وقلت له رغم أنها كلمة فصيحة لغوياً إلا أنني لا أخال أن ثمة ثالث من الناطقين بها يشاركنا سرائها رغم كثرة الذين يشاركوننا ضرائها في العالم، وتذكرت قولاً مأثوراً للمفكر الفرنسي جان جاك روسو «بدأ الشر في العالم حين وضع أول إنسان علامة على قطعة أرض وقال هذه ملكي»...إذاً لقد كانت الكلمة كفيلة بالاجابة على سؤالي!
واصلت الحديث مع دكتور (ع) وظلَّ والده مستمعاً يشاركنا الرأى من حين لآخر، وكان من البديهي أن نتطرق للمأساة التي تدور فصولها الدرامية منذ نحو اسبوعين في قطاع غزَّة، ومن البديهي أن أفصح في حديثي عن عواطف مشبوبة تفجرت أنهارا...كأنني استعرت منه مهنته لتطبيب جراحه، ورغم ذلك كنت أدرك تماماً انني مهما بالغت في إظهار مشاعري فلن أرقى لمستوى ما يشعر به صديقي، ذلك استناداً إلى حكمة جسدها الشاعر في قوله ”لا يعرف الشوق إلا من يُكابده ولا الصبابة إلا من يُعانينها“ وجسدناها نحن أيضاً في ثقافتنا الشعبية بِمثلٍ أقرَّ أن ”الجمرة لا تحرق سوى الوَاطِّيها“. لكن صديقي فاجاني بإنحيازه لصوت العقل وقال لى كأنه يزيد في مهنته بتشخيص إنكسارات هذه الأمة النفسية: إن حواراً جرى بينه وبين صديق له قبل عُدة أيام، وكان الأخير هذا قد تنازعته مشاعر شتى وهو يرى مسلسل القتل الممنهج والدمار مع سبق الاصرار في غزَّة، وفي الوقت نفسه قال له أنه يشعر بالعجز لأن بينه وغزَّة بِيدٌ دونها بِيدُ. وأضاف أنه مبهور بالمظاهرات التي خرجت في العالم العربي وتمنى لو أنه كان هناك...وسمى له بلداً بعينها باعتبار أن أهلها ثواراً لا يُشق لهم غبار، ينظمون المظاهرة في طرفة عين وتؤكد أجهزة إعلام نظامهم على أنها خرجت بصورة عفوية. عقَّب عليه طبيبنا معاً بأنه يعتقد أن تلك المظاهرات حالة طارئة قد تصلح في التنفيس عن مكبوتات القهر التي يشعر بها المتظاهرون ولكنها لن تغير واقع من تظاهروا لأجلهم، وأضاف بأنه لو أحسن الواحد منهم تربية أبنائه وتفانى في هذه المهمة المقدسة فإنه سيكون أنفع وأجدى لوطنه، فلربما خرج من صُلبِه المُخلِّص الذي يمكن أن تكون نهاية آلام شعبه على يده!
ثمَّ تفرق بنا الحديث شرحاً وتبياناً في كيفية التفاني في الرسالة المقدسة، مصحوباً برؤيته في دعمٍ مُجدٍ بعيداً عن الممارسات الغوغائية، وحتى لا يُشكك السامع فيما قال زاد بالتأكيد على أن ذلك لا يعني الانتظار حتى يكمل المرء منهم تلك الرسالة، فثمة طرق أخرى يمكن أن تساعد في التفاعل والانفعال مع القضية الوطنية والانسانية ومؤازرة شعبهم ومحاربة عدوهم التاريخي أكثر من مظاهرات دعائية...هي كالزبد تذهب جفاءً بمجرد انحسار الموج الاعلامي عنها. وهو حديث قد يبدو للذين أدمنوا السير في مظاهرات التنديد والوعيد والاستنكار أن فيها شىء من العجز والتخذيل وتثبيط الهمم، لكن الواقع أن قوله هذا ينطوى على حكمة لربما استلهمها من الأرض التي ألهمت غارسيا ماركيز الأدب والحب والتمرد، وتعضيداً لوجهة نظره تلك نقول: ضع يا قارئي الكريم إسرائيل وغطرستها وعربدتها وممارساتها اللا إنسانية جانباً، فذلك مما ليس فيه جديد منذ وعد بلفور وحتى وعد أصحاب اللحى الطويلة والجلاليب القصيرة، فهؤلاء تحديداً هم من أيقظ الفتنة النائمة بصواريخ قال عنها أحد الكتاب الواقعيين من بني يعرب «إنها مجرد العاب نارية» أي لا أرضاً وصلت ولا بشراً أصابت، بل الأنكى والأمرْ أنهم أقدموا على ذلك الفعل وبعد أن رأوا الردود اندسوا وسط المواطنين الأبرياء كأنهم شاءوا أن يتخذونهم دروعاً بشرية، كما أنهم حينما ايقظوا الفتنة لم يركنوا للمرجعية الدينية التي يقولون أنها منها ينهلون، اليست تلك المرجعية هي التي أكدت أن إعداد القوة ورباط الخيل أمر رباني يجب اتباعه قبل الاقدام على مواجهة العدو؟ وعليه فمن يفعل غير ذلك فإنه حينئذِ يكون ربيب حماقة أعجزت من يداويها! ولكن من ذا الذي يبلغ عنّا قوم موسي وهو يتجادلون في لون وماهية البقرة بينما دماء الأطفال والنساء والشيوخ تفجرت ينابيعاً!
ذلك ليس تبريراً للعدوان بقدر ما هو إزاحة القناع عن الوجوه المستترة، والتي تسببت في إيذاء مواطنيها وأمتها بممارسات وأفعال صبيانية متهورة. إذ ليست هذه هي المرة الأولي في التاريخ التي يتعرض فيها الفلسطينون لإبادة تحت مرأي وسمع العالم كله، وليست هذه المرة الأولى في التاريخ التي تُصُم فيها معظم حكومات العالم أُذنيها وتغمض عينيها عن ما يجرى للفلسطينين، وليست هذه المرة الأولي في التاريخ التي تنحاز فيها الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا لإسرائيل بدعوى حماية مواطنيها من (الألعاب النارية) التي تطلقها حماس على مستوطناتهم...فكلنا يعلم هذه المُسلمات ويعيها تماماً ويعي أكثر لغة المصالح التي طففت موازين العقل وأخلت بحسابات المنطق. ولكن رغم ذلك يريدون منَّا أن لا نكِر البصر مرتين، ولا أن نتمعن في تلك الصورة المقلوبة بعقل مفتوح وذهن واعٍ، ولا أن نتدبر طرقاً أنجع حلاً وأعمق أثراً في التجاوب الواقعي مع هذه المحنة، ولا أن نخترق بديهياتهم بمنطق يُغير المعادلات لصالح الحق والانسانية! وتزداد الطلاسم إبهاماً والخرافات تعتيماً أنهم عوضاً عن ذلك يريدون منك أيها المستغفل دوماً أن تظل كما أبا الهول شاخصاً بصرك في الآفاق تبحث عن شىء يقع تحت قدميك!
في الكفة الأخرى نعلم جميعاً أنها ليست المرة الأولى في التاريخ التي تُنظم فيها العواصم الثائرة المظاهرات التي يتقدمها أصحاب الحناجر الراعدة، كما أنها ليست المرة الأولي في التاريخ التي نعلم فيها أن تلك الشعارات الطنانة لم تقتل ذبابة ولم تزح باطلاً تمترس خلف حق، ومع ذلك يريدون منك أن تستمر في تلك الكرنفالات البلهاء...ليس حُباً في الضحايا ولا بُغضاً في الجلاد، ولكن لأنها تغطى عورات أنظمتهم، فإستمرارية الظاهرة من جهة ستصرفهم عن مساءلاتها عن التزاماتها حول قضاياهم ولو إلى حين، ومن جهة أخرى فإن بطانتها يُسيل لعابهم من أجل ممارسة هواياتهم في جمع أموال السحت من وراء كل تظاهرة. قلت لصديقي الطبيب هل تعلم ما الذي سيؤول إليه مصير مواطنو تلك البلدان الثائرة إن خرجوا في تظاهرة تضامناً مع مأسأة تجرى على مرمى حجر منهم ناهيك عن غزّة التي بينهم وبينها بحور ونذور وهويات مزدوجة؟ قلت له أنت تعلم يا سيدي أن غياب الديمقراطية في البلدان التي تدَّعي تعاطفاً مع القضية الفلسطينية هو سبب أساسي لتمادى إسرائيل في تجاوزاتها وإنتهاكاتها القانون الدولي والأعراف الانسانية، فهي تعلم مسبقاً أن غاية رد الفعل لأي عمل إجرامي تقوم به لن يخرج عن نطاق مظاهرات جوفاء على المستوى الشعبي وبيانات شجب واستنكار على المستوى الرسمي، فلو أن هناك حرية رأي تحت مظلة نظام ديمقراطي لكان بمقدور الجموع المتظاهرة توجيه أصابع المسؤولية لأنظمة السوء قبل أن توجه اللوم والعتاب لإسرائيل، ولو كانت الديمقراطية خياراً أوحداً لكانت تلك الأنظمة قد نفَّذت رغبات شعوبها بأكثر من تظاهرات تخرج كفقاعات الهواء، ولو كانت الديمقراطية واقعاً معاشاً في البلدان الثائرة لكانت إسرائيل نفسها فكرت مليون مرة قبل أن تقدم على أي فعلة نكراء، ولو كانت الديمقراطية منهجاً مُتبعاً لما تزرعت حماس وأخذتها العزة بالاثم في إنابة نفسها عن الشعب الفلسطيني والزج به في معركة لا تملك من مقوماتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية حبة خردل!
على الرغم من أن شر البلية ما يضحك، فقد أدهشتني سيدة رأيتها على شاشة قناتنا التي قلت عنها من قبل...إن نصابك الوطني لن يكتمل إلا بمشاهدتها، المهم أن تلك السيدة أصابت حين أخطأت إذ كانت وسط ثُلة ممن إنفعلن وتفاعلن بالذهب والفضة والدنانير المكدسة، فقالت بعين باكية وصوت متهدج «إننا من هذا الموقع نطالب بفتح المنابر» وهى بالطبع تقصد (المعابر) التي أوصدها ذوي القربي، ولكني رأيت أن خطئها أكثر صدقاً ووقعاً على النفس الظامئة لنفحة ديمقراطية، أو ربما أنها لم تخطىء وكانت تقصد من حيث تدري أن العِلة في غياب الديمقراطية - كما ذكرنا - في البلدان التي تدَّعي البابوية أكثر من البابا...وليست في إسرائيل!
إن كان ثمة قاعدة فقهية تقول إن «المساواة في الظلم عدل» إذاً فمن باب أولى نقول أن المشاعر الانسانية كلٌ لا يتجزأ، ولذا فإن قيض الله لك أن تعاطفاً مع أهل غزَّة فبالقدر نفسه يجب أن تتعاطف مع كل ظلم يجرى أمام عينيك، وإلا كان ما تقوم به تدليساً ونفاقاً وخداعاً للذات قبل أن يكون خداع للآخرين! إن الذين ذرفوا الدموع ورددوا الشعارات ونظموا المظاهرات وجمعوا الدعم لأهل غزَّة عليهم أن يفعلوا الشىء نفسه بل أكثر منه في مآسٍ تجرى فصولها تحت سمعهم وبصرهم، بل مطالبون بأن يفعلوا أكثر مما فعلوا مع أهل غزَّة لأن ما يجري في غزّة هو بين شعب وعدو محتل تلك شيمته، في حين أن ما يجري في بلدانهم هو ظلم ذوي القربى الأشد مرارة من وقع القاذفات الاسرائيلية! وإن بسطوا أيديهم عليهم أن يتصالحوا مع أنفسهم وواقعهم ويمدوا أبصارهم لملايين النازحين في معسكرات الذُل والهوان، أولئك الذين يتلقون ذات الاغاثات من المنظمات الأجنبية ولربما من بينها منظمات إسرائيلية المنشأ والتمويل، عليهم أن يسكبوا نفس الدموع إن حصدت بندقية رعناء أرواح أبرياء كما حدث في معسكر (كالما)...عليهم أن ينظموا ذات مظاهرات الاستنكار ويرددوا الشعارات التي تدين المعتدي...حتى وإن لم تجدِ فتيلاً!
لنكون أكثر واقعية وصراحة فقد كانت لدينا حرب بالأمس في الجنوب راح ضحيتها أكثر من مليوني شخص واغلبهم أبرياء من غير المتقاتلين من الجيشين، وظلت تلك الحرب اللعينة تفرز سمومها على مدى قرابة نصف قرن متصلة حيناً ومتقطعة أحياناً، ونسبة للبعد الجغرافي وأشياء أخرى لم يستشعر مأساتها غالبية أهل السودان، ولكنهم إستشعروها حقاً بعد أن خرجت صيحات الثواكل من كل بيت...أي حينما أججتها العصبة ذوي البأس بأجندة ثيوقراطية...وتأتي عن ذلك فرض أجندة السلام فرضاً. وإن كانت المأساة بالمأساة تُقارن نقول يا كرام...نحن في حاجة إنسانية مُلِحة لإستشعار حرب دارفور أولاً كخطوة أولى لإيقافها ثانياً، ودون ذلك يصبح التنوع في التعدد الذي نتشدق به محض هراء، والوطنية التي نتلو آياتها آناء الليل وأطراف النهار مجرد  شعار أجوف، والتعاطف الذي يملأ الآفاق ألان مع أهل غزَّة إزدواجية في المعايير...خصماً عليهم وربحاً لإسرائيل...فاعتبروا يا أُولي الألباب من الذين رفعوا قميص عثمان!!

عن صحيفة (الأحداث) 11/1/2009
توجد مقالات أخرى على رابط الجالية السودانية الأمريكية بمنطقة واشنطن الكبرى
<http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=ÝÊÍì%20ÇáÖæ&sacdoid=fathi.aldaw>
مع تحيات الكاتب

 

آراء