اللغة والصراع: التاريخ السياسي للتعريب في السودان والجزائر

 


 

 

 

Language and Conflict: The Political History of Arabization in Sudan and Algeria

هيذر شاركي Heather Sharkey
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال طويل للكاتبة الأمريكية هيذر شاركي صدر في عام 2012م في العدد الثاني عشر من مجلة "دراسات العرق / الإثنية والقومية Studies in Ethnicity and Nationality" التي تصدر عن دار النشر العالمية Wiley وايلي. وسنركز في هذه الأجزاء المترجمة من المقال على تلك التي وردت عن السودان.
وأوردت الكاتبة في ثبت مراجع المقال عددا كبيرا من أبحاث الخبراء السودانيين منهم يوسف الخليفة أبو بكر والأمين أبو منقة وتاج السر الريح ويوسف فضل وسيد حامد حريز وعامر إدريس وحسن مكي وعشاري أحمد محمود وياسر سليمان وعبد الرحيم حامد مقدم وغيرهم.
والكاتبة هي أستاذة متخصصة في تاريخ ولغات وديانات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة بنسلفانيا، ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها على سبيل المثال كتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"العيش مع الاستعمار" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان" و"الأفريقية الجميلة: الزرافة التي ذهبت لفرنسا" و"الهوية العربية والإيديولوجية في السودان: سياسة اللغة والهوية والعرق".
المترجم
****** ****** ********
تقديم
نال السودان استقلاله في عام 1956م من بريطانيا عقب انتقال (سلمي) للسلطة، بعد عام واحد من تمرد في جنوبه كان بمثابة إنذار لحرب أهلية قادمة. وفي المقابل نالت الجزائر استقلالها من فرنسا عقب حرب فدائيين دموية استمرت لثمان سنوات، خرجت على إثرها "جبهة التحرير الجزائرية" ظافرة. وما أن نال البلدان استقلالهما، حتى بدأ القادة الوطنيون في وضع سياسات للتعريب، عن طريق تقديم اللغة العربية الفصيحة على اللغة الإنجليزية (في السودان) واللغة الفرنسية (في الجزائر)، وعلى اللغات المحلية فيهما. وكان الهدف من سياسات التعريب هو تبني أحد ضروب التضامن العربي الشامل عبر كل الأقطار التي تجمعها – بصورة أو بأخرى - أيديولوجية إسلامية موحدة.
وعكست تلك السياسات نظرة الحكام المسلمين للعالم بأسره، وأملهم في الانعتاق من ماضي بلادهم الاستعماري، وأن يبدأوا بداية جديدة، ويقيموا لهم تحالفات مع بقية الدول العربية الأخرى. غير أن التعريب في كل من السودان والجزائر قد أفضى إلى حدوث توتر نتج عنه قيام حركات تمرد وصراعات أهلية أقلقت الأمن والسلام بالجزائر في التسعينيات، وفي السودان في غالب سنوات ما بعد الاستعمار (1955 – 1971م و1983 – 2005م).
ولعله من النادر أن تجد أبحاثا تتناول السودان والجزائر معا في دراسات مقارنة. غير أن إجراء مثل تلك الأبحاث المقارنة أمر مطلوب وله ما يسوغه، إذ أنه يلقي بالضوء على مسائل مهمة مشتركة منها مسألة اللغة على سبيل التخصيص. فقد قام قادة السودان والجزائر، فور نيلهم للاستقلال، بتطبيق ايديولوجية سياسات للتعريب تحمل كثيرا من أوجه الشبه. وتعد دراسة حالتي السودان والجزائر في أمر سياسات التعريب – رغم الاختلافات بينهما – مثالا جيدا للدراسة الواجب القيام بها عن السياسات اللغوية في الأقطار المستعمرة عقب نيلها للاستقلال. وتقدم مثل تلك الدراسات للقراء فهما وبصيرة أشد نفاذا في قصور وتحديدات (limitations) أمر ترشيد /عقلنة / تسويغ اللغة (language rationalization) عند القادة والحكام الذين كانوا أكثر احتياجا للتخطيط لدولهم من احتياجهم لبنائها فعليا.
وكانت معظم الأبحاث السابقة حول سياسات اللغة العربية تميل إلى دراسة الجوانب الاجتماعية – اللغوية (sociolinguistic). وتركزت غالب تلك الدراسات عند المثقفين والمفكرين (ومنهم عدد كبير من المسيحيين) الذين تبنوا ثقافة الطباعة في منطقة الهلال الخصيب ومصر على التقاطعات بين اللغة العربية، والسياسة الوطنية، والتاريخ الفكري والثقافي في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية، والعالم العربي بعد سقوط تلك الإمبراطورية، خاصة في العراق وسوريا الكبرى (التي تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية. المترجم). وتناولت دراسات أخرى السياسات الشعبية للثقافة العربية، إضافة للصراعات (المعهودة) بين أنصار اللغة الفصيحة واللغة الدارجة، خاصة في مصر. وتناول آخرون بالبحث مسالة التغيرات التي حدثت في اللغة العربية عند الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وإسرائيل على ضوء التغيرات التي طرأت على الظروف السياسية والتعليمية في بلادهم.
وأحاول في هذا المقال مقاربة مسألة اللغة بنهج مستعرض متعدد التخصصات interdisciplinary approach مستعينة بأفكار وكتابات علماء الجوانب الاجتماعية – اللغوية والأنثروبولوجي والعلوم السياسية والتاريخ، من أجل رسم كفاف/ كنتور (contour) لموضوع يتطلب بحثه دراسة تاريخية متعمقة تستخدم فيها وثائق أرشيف/ سجلات متعددة، ومصادر شفاهية، ومذكرات شخصية منشورة، وصحف ومواد أخرى. وسأركز في هذا المقال على اعتراضات ومآخِذ الأقليات التي لا تتحدث العربية كلغة أساس أو لغة أم في القطرين (حيث تمثل الأقليات نحو ربع سكان البلاد في الجزائر، ونحو 40 – 50% في السودان). وتتعرض المقالة أيضا إلى البريستيج / الهيبة (prestige) التي لا تزال الإنجليزية والفرنسية تحتفظان بها في سنوات ما بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني والفرنسي، على التوالي، بحسبانهما ناقلات للتقدم الثقافي والاقتصادي.
وفي كلمات موجزة، يبحث هذا المقال في مسألة كيف أن الحكام الوطنيين - في السودان والجزائر- قاموا بوضع سياسات وبرامج للتعريب كانت فوقية الطابع (أتت من عل لتطبق على أرض الواقع). ويتناول المقال أيضا ما أفضت إليه تلك السياسات من معارضة وزيادة في حدة صراعات الهوية (الإثنية) في المجتمع، حتى عندما شاع استخدام اللغة العربية عند كثير من أفراد الشعب، غالبا على الرغم (وليس بسبب) سياسات التعريب الحكومية. وبالفعل ازداد استخدام اللغة العربية الفصيحة في السودان والجزائر في دوائر الحكومة والمدارس والجامعات، وتوسع نشاط وسائط الإعلام المختلفة بسبب تناقص معدلات الأمية. ولم تقتصر تلك الوسائط على الإذاعات والصحف العربية وحدها، بل شمل ما تبثه التلفزيونات العربية عبر الأقمار الصناعية. بل صدرت في جنوب السودان صحيفة باللغة العربية في يوليو من عام 2011م حتى قبيل إعلان استقلاله (الذي أتى بعد استفتاء جاءت نتيجته مؤيدة للاستقلال / الانفصال بنسبة 99%). وكل إشارة للسودان في هذا المقال هي للسودان قبل انفصال جنوب السودان عنه.
لا شك أن ثمة تشابه بين السودان والجزائر في المسارات التي سلكتها السياسات التعليمية في فترتي ما قبل الاستقلال وما بعده. وهنالك بالطبع أيضا اختلافات عديدة بينهما. فالسودان كما هو معلوم أقل تجانسا من الجزائر من الناحية الاثنية، ويتحدث السكان فيه مئات اللغات، خاصة في مختلف مناطق جبال النوبة وجنوب السودان. غير أن اللغة العربية ظلت هي اللغة المهيمنة والرئيسة التي يتحدث بها غالب سكان البلاد. وتكتسب العربية هيبة في أوساط السودانيين المسلمين الذين كانوا يستخدمونها تاريخيا في التعبد، وأيضا في الأمور (الدنيوية) الأخرى مثل الأدب والتوثيق وغير ذلك. ومما زاد من استخدام اللغة العربية هو وجود جارين عربيين للسودان (مصر شمالا والسعودية شرقا)، وهجرة العمالة السودانية (الشمالية المسلمة) لدول الخليج في القرن العشرين. وظل قطاع كبير من السكان رغم ذلك يحتفظون بلغاتهم الأصلية، مثل البجا في الشرق، والنوبة في أقصى الشمال، والفور في الغرب.
وظلت علاقة الهوية العربية بالناطقين باللغة العربية (واللغات الأخرى) ملتبسة جدا، مما يجعل من أمر وصف هوية السكان بهوية محددة (مثل "بربر" و"عرب" في الجزائر، أو "عرب" و"أفارقة" في السودان) أمرا عسيرا.
وتواصل التعريب في السودان عبر عقود طويلة منذ أول اتصال بين العرب المسلمين والنوبة في عام 651 م وما يزال مستمرا. وهنالك بعض القبائل التي تنسب لنفسها جذورا عربية مثل الجعليين في الشمال والبقارة في الغرب منذ دخول العرب للسودان في صدر الإسلام. وفي المقابل حافظت المجتمعات النوبية في أقصى شمال السودان على لغتها الأصلية، في ذات الوقت الذي كانت تستخدم فيه اللغة العربية بحسبانها لغة مشتركة مع غيرهم من القبائل والعناصر الأخرى بالبلاد.
وعند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين استوعبت مجموعتان في ثقافة الشماليين العربية. كانت الأولى هي مجموعة المسترقين الذين جلب معظمهم من جنوب السودان، والذين قدر عددهم (بحسب كتابات سبويلندق) بثلث عدد السكان في المناطق النيلية بشمال السودان في نهايات القرن التاسع عشر. أما المجموعة الثانية فهي حجاج غرب أفريقيا من الناطقين بلغتي الهوسا والفولاني، والذين استقروا بصورة نهائية في السودان عند مرروهم به عائدين من رحلة الحج إلى مكة، وتعلموا بالتدريج اللغة العربية وأجادوا الحديث بها (بحسب كتابات يامبا وأبو منقة). ويعكس التاريخ الحالي / المستمر للتعريب في شمال السودان أنماطا معقدة من الهجرة، ويساعد في تفسير نتائج إحصاء عدد السكان بالسودان عام 1956م، والذي أبان أن 38.8 % من سكان السودان عرفوا أنفسهم باعتبارهم "عربا" بينما قال 51.4% منهم بأن اللغة العربية هي لغة التخاطب الأولى عندهم.
ووضح في كل من السودان والجزائر في عهدي الاستعمار والاستقلال أن سياسة اللغة في البلدين قوية الصلة بالدين. ففي العهد الاستعماري راودت بعض المسئولين الاستعماريين في البلدين فكرة تنصير المسلمين أو مساندة البعثات التبشيرية التي كان لها نفس الهدف. وطبق بعض المسؤولين الاستعماريين سياسات من شأنها إضعاف بيداغوجيا (علم أصول التدريس) اللغة العربية، ومنع السودانيين من غير المسلمين من تعلم اللغة العربية (في السودان خاصة). ووجهت تلك السياسة بمعارضة شديدة من المسلمين الملتزمين (خاصة علماء المسلمين)، وكذلك من الوطنيين المسلمين المطالبين بالإصلاح الديني. وفي مرحلة تصفية الاستعمار اتخذت الحكومة (الوطنية) سياسة قضت بالتوسع في تدريس اللغة العربية الفصيحة، مقرونة بسياسات من شأنها الدعوة لنشر الثقافة الإسلامية، أو لـ "تنقية" الدين (مما شابه) ليعود كما كان ممارسا في عهده الأول. ومضت سياسات التعريب والأسلمة تمضيان جنبا إلى جنب، وكان أشد المنافحين عن سياسات التعريب وأقوى الداعمين لها هم أشد الإسلاميين التزاما أيديولوجيا. ومن أدلة ذلك إشادة رئيس مصلحة الشؤون الدينية في عام 1959م بالمدارس الحكومية التي تدرس طلابها باللغة العربية، ووصفه لها بأنها "بَوْتقات لوحدة الثقافة الإسلامية".
بريطانيا في السودان
تختلف التجربة السودانية مع الاستعمار عن نظيرتها في الجزائر. فقد أظهر الاستعمار الفرنسي في الجزائر قوة وسلطة وشوكة لم يعرفها السودان عن الاستعمار البريطاني – المصري.
وكانت أول سلطة إمبريالية حكمت السودان في تاريخه الحديث هي الاستعمار التركي – المصري، والذي غز السودان في 1820م بقيادة إسماعيل محمد علي باشا (1769 – 1849م) وحكمه لنحو ستين عاما (1820 إلى 1881 – 1885م) أذاق في غضونها السودانيين الهوان وسَامَهم الْخَسْفَ وأرهقهم بالضرائب الفاحشة، مما أثار سخطهم ومهد لثورة جهادية قادها محمد أحمد (1844 – 1885م) الذي أعلن نفسه "المهدي المنتظر". وقضت قوات المهدي في 1885م على معاقل الاستعمار التركي – المصري في الخرطوم بقيادة شارلس غردون (الذي حكم بين عامي1883 – 1885م)، وأنشأت دولة ثيوقراطية سودانية مستقلة. ولاحقا، قامت بريطانيا – ضمن التسابق والهرولة نحو أفريقيا - في تسعينيات القرن التاسع عشر بغزو السودان، وزعمت أنها غزت السودان مع الجيش المصري من أجل "استعادة" السودان لمصر. وحكمت بريطانيا السودان بالاشتراك مع مصر في ما عرف بـ "الحكم الثنائي" من 1898 إلى 1956م. وتركت مصر في غضون سنواتها بالسودان تأثيرات مهمة عليه، غير أن الهيمنة (شبه الكاملة) كانت لبريطانيا.
وظل البريطانيون طوال سنواتهم في السودان يتحسبون ويحذرون قيام حركة جهادية أخرى مثل مهدية منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر. وهذا ما دعاهم إلى تقسيم السودان إلى جزء شمالي غالب سكانه من المسلمين، وجزء جنوبي غالب سكانه من أصحاب الديانات المحلية. وقرر البريطانيون أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية المستخدمة في دوائر الحكومة وفي التعليم كذلك. وعملوا أيضا على تعليم اللغة الإنجليزية لمجموعة مختارة من صفوة المتعلمين المسلمين المتحدثين باللغة العربية. وحاولوا في ذات الوقت تقديم العون للمؤسسات والمعاهد الإسلامية، واسترضاء المسلمين بتقديمهم العون المادي للشيوخ والقضاة (الشرعيين) وأئمة المساجد. وقاموا أيضا بتركيز الخدمات للناطقين بالعربية حول الخرطوم ومدن المركز، وأهملت بقية البلاد وسكانها من المسلمين من غير العرب في الشرق والغرب (مثل دارفور). وبحسب تيم نيبلوك، ظل ما أسس له الحكم البريطاني من أنماط تنمية غير عادلة يعيق تقدم السودان حتى الآن.
أما في الجنوب فقد كانت اللغة التي يستخدمها البريطانيون هي الإنجليزية وبعض اللغات الإفريقية (كانوا يسمونها اللهجات المحلية) في أعمال الإدارة والتعليم، فيما عدا الحاميات العسكرية التي كانت لغة التخاطب فيها هي العربية. وإرضاء للجماعات المسيحية سمح البريطانيون للمبشرين الكاثوليك والبروتستانت بالعمل التبشيري في مختلف أصقاع جنوب السودان وبناء مدارس ومستشفيات على حسابهم، ولكنها منعتهم من العمل على تنصير المسلمين في شماله. ويعني هذا أن الاستعمار البريطاني استغل المبشرين لأداء واجباته في الجنوب عوضا عنه.
وطبقت السلطات البريطانية سياسة "الإدارة الأهلية" في الحكم. وهدفت تلك السياسة ظاهريا إلى الحفاظ على الثقافات المحلية وسلطة الشيوخ المحليين التقليدية، وعدم نقل النظم البريطانية في الحكم نقلا حرفيا للسودان. ويختلف ذلك النهج عن نهج "الاستيعاب" الذي مارسه الاستعمار الفرنسي في الجزائر. غير أن سياسة "الحكم الذاتي" / "الإدارة الأهلية" البريطانية وما كانت تنادي به من حفاظ على الثقافة المحلية كانت أيضا تخفي نوعا من الانعزالية والخوف من الأغراب. وفوق كل ذلك فقد كانت تضمر احتقارا لمن سماهم لورد ليوقارد في عام 1922م "الأفارقة المتشبهين بالأوربيين"، وهو يقصد بهم أولئك الرجال من صفوة المتعلمين الوطنيين في المستعمرات البريطانية الذين يهبون لتحدي الحكم الاستعماري بأجندة وطنية.
وكانت اتجاهات ومواقف الإدارة البريطانية الاستعمارية التي أنشأت وساندت "الإدارة الأهلية" تفسر التأييد الذي لقيه تعليم اللغات الأفريقية المحلية من قِبَلِهِا. وجاءت نقطة التحول في سياسة الاستعمار تجاه اللغة في عام 1928م عند انعقاد "مؤتمر اللغة" بالرجاف، والذي أمه عدد كبير من المسئولين والمبشرين البريطانيين. وفي ذلك المؤتمر أعد المشاركون فيه قائمة رسمية بـ "اللغات واللهجات" التي يتحدث بها الأهالي في جنوب السودان، وحددوا ست لغات يعتقدون بأنها قابلة للتطوير والتضمين في كتب دراسية، وهي لغات الدينكا والنوير والباري واللاتوكو والزاندي. وبعث الحاكم العام للمؤتمرين برسالة ذكرهم فيها بثلاث قواعد عامة تحكم التعليم بالجنوب وهي ضرورة أن تستخدم المدارس "اللغة القبلية" في الفصول الابتدائية، ولغة أفريقية مشتركة في الفصول الوسطى، واللغة الإنجليزية في الفصول المتقدمة.
وفي أواخر الأربعينيات شرع البريطانيون في عمليات "سودنة" للوظائف الإدارية، والتي ذهبت كلها تقريبا لصفوة المتعلمين الشماليين المسلمين المتحدثين باللغة العربية. وبحسبانهم قادة للحركة الوطنية الوليدة، استاءت تلك الصفوة من سياسات الحكومة التي تشجع عمل البعثات التبشيرية في الجنوب، وكرهت ما سماه لغوي شمالي لاحقا "الحرب ضد اللغة العربية".
التعريب والحرب في السودان
بدأت سياسات التعريب بالسودان في أخذ شكلها النهائي في وقت أبكر، وبصورة فجائية أسرع مما حدث في الجزائر. فقد عينت الحكومة الاستعمارية بالخرطوم في عام 1949م (أي قبل سبع سنوات من الاستقلال) أول وزير للمعارف من شمال السودان (المقصود هو عبد الرحمن علي طه، 1901 – 1969م. وذكر في بعض المصادر كموسوعة الويكيبيديا أن تعيينه وزيرا للمعارف قد تم في 1948م. المترجم). وأعلن ذلك الوزير أنه يجب أن تكون للسودان لغة واحدة، هي اللغة العربية، وأن هذه اللغة ينبغي أن تكون لغة التدريس في جميع مدارس السودان. وفي عام 1950م تكونت لجنة دولية لبحث أمور التعليم الثانوي بالبلاد كانت مكونة من خبراء من السودان والهند ومصر وبريطانيا. وخلصت تلك اللجنة إلى ضرورة أن يكون التعليم بالبلاد باللغة العربية في كل أرجاء السودان، وأشارت إلى تدريس طلاب جنوب السودان باللغات المحلية هو "محض مضيعة للوقت والجهد". وعندها بدأت عملية تغيير السياسات اللغوية الاستعمارية.
وتوافد المدرسون الشماليون في بدايات الخمسينيات إلى جنوب السودان لتطبيق سياسة التعريب على الأطفال الجنوبيين الذين كان يجب عليهم تعلم العربية (من الصفر) منذ الصغر. وذكر أحد المدرسين المصريين الذين انتدبوا لتلك المهمة أن بالجنوب ثمانمائة مدرس جنوبي لا يعرف أي أحد منهم اللغة العربية. وكان هنالك أيضا جهل بطرق تعليم اللغة العربية كلغة أجنبية للناطقين بغيرها من غير المسلمين، مصحوبا بفقر شديد في المعينات والمصادر اللازمة للتدريب. ونتيجة لتلك الظروف قام المسؤولون الشماليون بعمل تجربتين للتغلب على تلك الصعوبات البيداغوجية. وقاموا في التجربة الأولى بتعيين مبشرين أمريكان وبريطانيين لهم علم ودراية وخبرة في تبسيط ما ورد في الإنجيل بلغة عربية بسيطة لأشباه الأميين، وطلبوا منهم تأليف كتب مدرسية بلغة عربية مبسطة للتلاميذ الجنوبيين، على أمل أن يكون تعليمهم اللغة العربية الدارجة معبرا لتعليمهم اللغة العربية الفصيحة. وفي التجربة الثانية عين المسؤولون الشماليون لغويين سودانيين ومصريين للقيام بتأليف عدة نصوص عربية لضبط تهجئة اللغات الجنوبية، وذلك لتيسير الانتقال إلى تعليم وتعلم اللغة الفصيحة. غير أن من قاد تلك التجربتين، سر الختم الخليفة (1919 – 2006م) أشار لاحقا إلى أن المتعلمين الجنوبيين لم يكونوا راضيين أو سعداء بإدخال اللغة العربية في مناهجهم لخشيتهم من أن المستقبل سيكون فقط لمن يجيد اللغة العربية، وكانوا أيضا يتوجسون من سيادة الشماليين (أصحاب تلك اللغة) عليهم.
وبينما كانت بريطانيا تنقل في سلطاتها إلى الوطنيين في شمال السودان، قام بعض الجنود الجنوبيين في توريت بتمرد مسلح، وصفه بعض المؤرخين بأنه "الحرب الأهلية الأولى" بالبلاد. وقام الوطنيون السودانيون الشماليون في يوم الاستقلال (1/1/1956م) بإعلان أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وأن العربية هي لغتها الرسمية. لقد كانت العربية يومها هي اللغة الأكثر استخداما بالبلاد (أكثر من 51% من السكان كانوا يعدونها لغتهم الأولى بحسب إحصاءات حكومية صدرت في 1962م). غير أنه يجب تذكر أن غالب هؤلاء كانوا يقطنون في شمال السودان.
وفي عام 1957م أصدر "الحزب الفيدرالي الجنوبي"، المكون في غالبه من خريجي وطلاب المدارس التبشيرية، بيانا رسميا (منفستو) طالبوا فيه بضرورة الاعتراف باللغة الإنجليزية كلغة رسمية بجانب اللغة العربية، وبالمسيحية دينا رسميا للدولة بجانب الإسلام، وتحويل السودان من "العالم العربي" إلى "العالم الإفريقي". وردت الحكومة السودانية في الخرطوم على ذلك البيان بمحاكمة كاتبه الرئيس ومعاقبته بالسجن سبعة أعوام لإدانته بتهمة التحريض. وفي ذات العام قام الساسة السودانيون الشماليون (لعل المقصود هو حكومة عبد الله خليل. المترجم) بتأميم المدارس التبشيرية في الجنوب. وبعد عام من ذلك الإجراء قام ذات السياسيين برصد 173000 من الجنيهات السودانية "لنشر الإسلام في مديريات الجنوب الثلاث: الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال".
وقام أول انقلاب عسكري بالسودان في 17/11/1958م بقيادة إبراهيم عبود. وكان عبود من أشد المؤيدين لسياسة التعريب والأسلمة بالجنوب. وقامت حكومته بعيد استيلائها على السلطة بإنشاء ستة معاهد دينية (إسلامية) متوسطة في مديريات الجنوب، وشرعت في تأسيس خلاوي قرآنية، أعترف بها لاحقا كمدارس أولية نظامية. وفي عام 1962م طردت الحكومة القساوسة والمبشرين الأجانب من الجنوب، وقام على إثر ذلك الطلاب الجنوبيون بإضراب احتجاجا على سياسة التعريب والأسلمة. وقدمت مجموعة من الطلاب الجنوبيين لاحقا عريضة احتجاجية لمكتب الأمم المتحدة جاء فيها أن الحكومة السودانية انتقمت من قادة الطلاب المضربين بخلع أسنانهم بكماشة / زَرَديّة. واشتكى الطلاب في تلك العريضة من أن المدرسين الشماليين المسلمين يفرطون في مناقشة الأمور السياسية معهم، مثل الوحدة في السودان، وتاريخ الإسلام، والجامعة العربية، وكل الأمور التي لا دخل لها بمناهج الدراسة، بل ويطردون من المدارس الطلاب المسيحيين الذين يرفضون حضور حصص الدين الإسلامي، ويغرون الطلاب المسيحيين للتحول إلى الإسلام بوعدهم بمنح دراسية وتحويل إلى مدارس أرفع.
وفي السبعينيات أقر الخبير اللغوي الإسلامي يوسف الخليفة أبو بكر (لعله كان أحد الذين شاركوا باكرا في تأليف عدة نصوص عربية لضبط تهجئة اللغات الجنوبية) بأن سياسات التعريب تلك قد ساهمت في إذكاء نار الحرب الأهلية بالجنوب. وأنشأت حركة التمرد المسلحة الأولى (الأنانيا) لها في الستينيات مدارس في وسط الغابات كانت تتبع الطريقة البريطانية القديمة التي تستخدم فيها اللغات المحلية الإنجليزية كلغات تدريس.
وفي نهاية المطاف بدا أن ما عده الساسة الشماليين "توحيدا ثقافيا" غدا في الواقع استعمارا ثقافيا للجنوبيين، إذ لم يكن لهم يد أو رأي في تلك السياسات التعليمية. وهنالك جانب آخر في المسألة، وهو شعور الطلاب الجنوبيين بأن مستويات التعليم الذي كانوا يتلقونه كانت متدنية، وأن الأساتذة كانوا يقومون بالتلقين وليس بالتعليم، وأنهم لن يتمكنوا أبدا من منافسة الخريجين الشماليين (المتحدثين بالعربية والمتلقين لتعليم جيد) على الوظائف. وتعقد أمر التعليم في الجنوب أكثر بإصرار الحكومة على مواصلة سياسات الأسلمة والتعريب في المدارس.
ثم توقفت الحرب الأهلية الأولى في عام 1972م عند توقيع الرئيس جعفر نميري (1930 – 2009م) على اتفاقية أديس أبابا، والتي وعدت الجنوبيين بمزيد من المشاركة السياسية والاقتصادية، وقبلت باعتبار اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية لإدارة الجنوب. غير أن تلك الوعود لم تنفذ كاملة، فنشب تمرد آخر عقب إعلان قوانين الشريعة وتطبيقها على كل أرجاء السودان. وظهر جون قرنق (1945 – 2005م) على رأس "الحركة الشعبية لتحرير السودان" المعارضة والمحاربة لنظام نميري. وعند سقوط نظام نميري في 1985م جاءت حكومات أخرى، ولكن لم يتغير الوضع بالنسبة للجنوب، فقوانين الشريعة ظلت سارية كما هي، وسياسة التعريب والأسلمة لم تبدل، بل ظلت تعد أهم وسيلة من وسائل توحيد الوطن.
وفي الثمانينات والتسعينيات زاد معدل تحول الجنوبيين للمسيحية، ربما بحسبان ذلك وسيلة من وسائل المقاومة الثقافية (لما كانوا يعدونه هيمنة شمالية مسلمة)، وزادت مناطق التمرد العسكري، فتعدت الجنوب لتشمل جبال النوبة في غرب السودان، حيث تقطن غالبية مسلمة غير عربية.
ووصفت كاثرين ميلر وهاشم صالح في عام 1989م سياسات الحكومة السودانية بأنها سياسات قمعية تنبع من المركز، ولا تعترف بحقوق الأقليات، بل تلغيها تماما، مما يجعل أي حديث عن أمل في التكامل والوحدة محض وهم، وكل ذلك بسبب إصرارها على التعريب والأسلمة في كل أجزاء البلاد. وكتب الخبير اللغوي عشاري أحمد محمود ما يفيد بأن المهنيين اللغويين المحليين والدوليين لن يصلوا إلى شيء إن ظلوا يصرون على تجاهل القضايا الأساس المتعلقة بتوزيع السلطة السياسية وعدم المساواة الاجتماعية.
وتزعم كثير من المصادر بأن الحرب الأهلية الثانية قد انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005م، والتي تضمنت حق تقرير المصير في استفتاء حر أجري في يناير 2011م. غير أن صراع دارفور الذي اشتعل أواره بعد عام 2003م أبان أن منشأ حروب السودان الأهلية المزمنة متنوع المصادر والأسباب. ولا نبعد النجعة إن عددنا صراع دارفور الحالي هو امتداد للحرب الأهلية، ولكن على مسرح آخر، هو غرب السودان. ويزعم البعض أن ما نادى به جون قرانق من الدعوة لـ "سودان جديد متعدد الأعراق يسع ويستوعب الجميع اجتماعيا على قدم المساواة" هو ما ألهم من ثاروا / تمردوا في دارفور على سلطة المركز.
وكما أشار أبو منقة ومقدم فقد انتشرت العربية، وغدت هي لغة التخاطب خاصة عند اللاجئين والنازحين للمدن من الأطراف، والمهاجرين من شمال نيجيريا. وشاع استخدام "عربي جوبا" في أوساط الجنوبيين المهاجرين للشمال، واكتسب اعترافا واهتماما من قبل خبراء اللغويات، بل نشرت عنه بعض المقالات وقاموس منفصل. وشاع استخدام العربية أيضا في أوساط الدارفوريين في معسكرات نزوحهم، ولم يعن ذلك بالضرورة تبنيهم للهوية العربية.
وزاد استخدام العربية كلغة للتدريس، خاصة بعد قرار الحكومة في منتصف التسعينيات بتعريب المناهج في الجامعات (وشمل ذلك كليات الطب أيضا). وربما كانت دوافع اتخاذ ذلك القرار ايديولوجية المنشأ وذات علاقة بالتوجه الإسلامي الذي نادت به الحكومة. إلا أن هنالك عدة عوامل براغماتية (عملية) جعلت قرار التعريب أمرا لازما، بالنظر إلى ضعف ومحدودية مستويات الطلاب في مراحل ما قبل الجامعة في اللغة الإنجليزية. ونسبة إلى أن التوسع في التعليم العالي، خاصة في كليات الطب (التي ارتفع عددها من 3 إلى 20 أو أكثر) كان لزاما أن تتحول الدراسة في الجامعات إلى اللغة العربية، رغم ما يسببه ذلك من انقطاع عما يدور في العالم، خاصة في الكليات العلمية مثل الطب. ورغم قرار الحكومة بتعريب المناهج، إلا أن التدريس في كليات الطب يتم الآن بخليط من العربية والإنجليزية، بينما يقدم الطلاب مشاريع تخرجهم باللغة الإنجليزية دون غيرها.
وتناول الكاتب الإسلامي حسن مكي في كتابه "أبعاد التبشير المسيحي في العاصمة القومية" الصادر في عام 1990م طرفا من أسباب المعارضة والعداء الذي قوبلت به القرارات الرسمية الخاصة بالتعريب، وذكر منها "النخبوية الثقافية" و"ازدواجية المعايير" و"عدم جدية وإخلاص" دعاة التعريب في السودان. وانتقد حسن مكي دعاة التعريب من الإسلاميين الذين يبعثون بأبنائهم إلى المدارس الخاصة التي أسسها في الأصل المبشرون المسيحيون طلبا لتعليم أفضل (خاصة في اللغة الإنجليزية)، ومن أجل تفادي ازدحام المدارس الحكومية وضعف تعليمها.
أما في جنوب السودان فقد أخفق مشروع التعريب (وكان ذلك مصدر فرح وغبطة عند كثير من الجنوبيين)، وتمثل ذلك في فشل المدارس الحكومية في تقديم مستويات عالية في تدريس اللغة العربية، وفي إشعار الطلاب بأنهم ينتمون لهذا الوطن ولهم فيه قدر ومكانة. وكان ذلك من أسباب شعور الطلاب الجنوبيين بأن التعريب إن هو إلا أداة قهر واستعباد لهم.
ويمكن أن نخلص إلى أن جهود الدولة في السودان (والجزائر) في مجال ترشيد /عقلنة / تسويغ اللغة (language rationalization) لم تفلح عمليا في إزالة التعدد اللغوي (multilingualism) في البلاد.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء