اللهم اجعله خير
عبدالله مكاوي
25 October, 2023
25 October, 2023
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
تواترت الانباء عن اقتراب عودة المفاوضات بين الجيش والدعم السريع بمنبر جدة. وسبق ذلك اجتماع اكبر تجمع لمناهضة الحرب باديس ابابا. وهذه الانباء وتلك الخطوات قد تمثل بقعة ضوء في نهاية نفق الحرب المظلم.
وصحيح يصعب تصديق عودة الجيش لمائدة التفاوض، بسبب عودة الوعي او اعلاء المصلحة العامة. ولا ان رغبة الدعم السريع في التفاوض مرجعها حرصه علي الديمقراطية والدولة المدنيةّ. بقدر ما تعكس العودة للتفاوض من قبل الجيش، والمرونة الزائفة من قبل الدعم السريع، حالة الانهاك العسكري وكم الخسائر التي يتعرض لها الطرفان. وهو ما يجعل هذه المفاوضات، اذا ما تسني لها الانعقاد، تندرج في خانة مكره اخاك لا بطل. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي صعوبة هذه المفاوضات، وتدني سقف التوقعات من مخرجاتها. وغالبا يرجع ذلك للتركيب الحربي الذي يسم الجيش والدعم السريع ومن خلفهم الاسلامويون والجهويون! وتاليا غياب المرونة التي تتطلبها المفاوضات، خاصة من جهة تقديم تنازلات جادة، تفسح المجال امام بروز حلول مرضية (قادرة علي احداث اختراق يصب في خانة ايقاف الحرب ومنع تجددها مستقبلا).
وطالما الامر كذلك، فهذا ما لا يتطلب الاحباط، بقدر ما يتطلب مضاعفة الجهد من كافة الاطراف، للضغط علي طرفي الاقتتال، حتي تُكلل عودة التفاوض بالنجاح. وعموما هنالك مقدمات يفضل وضعها في الاعتبار لدفع التفاوض قدما للامام، منها:
اولا، يجب تشجيع الاطراف المتقاتلة لايقاف الحرب، وذلك باستخدام كافة الوسائل وتوفير كل المحفزات والضمانات. وبما ان جذر الحرب واصل الصراع يتعلق بحيازة السلطة واحتكار الامتيازات. والحال كذلك من السذاجة توقع تنازلهما بسهولة، سواء من اجل عيون الديمقراطية او خاطر الامن القومي او غيرها من الشعارات التي تصلح للدعاية الحربية، ولكنها لا تسوي حبة خردل في ميزان صراع المصالح الشرس، لهؤلاء الوحوش الكاسرة.
ثانيا، علي السياسيين والمدنيين قراءة الواقع وموازين القوي والاخطار المحدقة بالوطن بصورة صحيحة، وتاليا لا يضغطون من اجل تمرير مشاريع او طموحات تلبي اشواقهم للسلطة. بمعني بعد ان فشلت الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، في بناء الدولة الحديثة منذ الاستقلال، بسبب الانشغال بصراع السلطة وسطوة الانظمة الانقلابية، فقد آن الأوان لتقديم المصلحة العامة ومراعاة الاولويات. وليس هنالك اولوية اكبر من ايقاف الحرب والحفاظ علي ارواح المواطنين وسلامة الدولة.
وصحيح ان الدعم السريع كمركب جديد في المعادلة السياسية، وركن اساس في الصراع حول السلطة، يمثل مجرد وجوده تهديد لبقاء الدولة وامن المواطنين، ولكن متي لم يسبب الجيش النظامي الاذي للدولة ويصادر خيارات المواطنين؟ اما السياسيون بأدائهم البائس، فمؤكد انهم لم يشكلوا يوما اضافة نوعية لقضية بناء الدولة المدنية او ترسيخ القيم الديمقراطية! خاصة بعد انخراطهم في صراعات طفولية حول الاحقية بالسلطة، وادمانهم التشاكس والاختلافات غض النظر عن خطورة الاوضاع وحساسية القضايا (من يصدق ان هذه الحرب التي اهلكت الحرث والنسل ووضعت البلاد علي مهب الريح، اي زلزلت كل شئ تحت سماء الوطن، لم تستطع طي جذور الخلافات واسباب النزاعات، التي تسم البيئة السياسية وتسمم الحياة المدنية)!
وكل ما سبق يقول شئ واحد، ليس هنالك حل حاسم او ساهل او تقليدي لقضية الحرب او ما بعد الحرب او هنالك امكانية لعودة اوضاع ما قبل الحرب. وعليه كل ما هو متوافر اذا ما خلصت النوايا وشُحذَت الهمم، القيام ببذل جهود مضنية وتضحيات جسام، من اجل الوصول لتوليفة تلم شمل كل هذه التناقضات والمصالح المتضارية، بما يجعل ايقاف الحرب ممكنا اولا، والمحافظة علي بقاء الدولة ثانيا، واعادة تاسيسها علي اسس حديثة مستقبلا ثالثا.
والحال كذلك، يصبح الوصول لوضعية نموذجية سواء من ناحية بناء دولة المؤسسات او تداول السلطة سلميا او سريان الروح المدنية في شرايين الدولة وتلافيف المجتمع،هي جميعها طموحات مشروعة، ولكن مناطة بها اجيال قادمة، يقع علي عاتقها الاستفادة من تجارب الماضي المليئة بالاخطاء القاتلة. وبالطبع يقع علي راس هذه الاخطاء القاتلة قلب الاولويات، اي اهمال الدولة (قاعدة الهرم) والاهتمام بالسلطة (قمة الهرم). وهو ما جعل صراع السلطة يفتقد للاسس، ومن ثمَّ يتحول لصراع في حلقة مفرغة حول المصالح الخاصة. لتكسبه المؤسسة العسكرية وحيرانها بالضربة القاضية، قبل ان يجرفها تيار السلطة لمواجهة مصيرية ضد مليشيا الدعم السريع (الحرب الراهنة)، وقبلها تقض مضجعها الحركات المسلحة، وكل ذلك علي حساب استقرار الدولة، وتاليا تدهور حياة المواطنين بصورة مطردة.
ثالثا، لجم الخطاب الجهوي الذي يتولي كبره انصار الدعم السريع، ويوظفه الكيزان كسلاح مضاد، وينخرط فيه المُستفزون! ولا يمكن التاسيس لنبذ الخطاب الجهوي من دون التخلص من الحمولات المبتسرة للتاريخ والتي تجتزئ التفاصيل وتضخم السلبيات وتعمم المقولات (الجلابة/الغرابة). ومن ثمَّ العودة لاصل المشكلة التي ترتبت عليها هذه النتائج. وهو ما يقودنا مرة اخري لمعضلة العجز عن بناء دولة المواطنة، التي افرزت صراعات ما قبل الدولة، ومن ضمنها الصراعات الجهوية والعرقية والدينية، التي يستثمر فيها كل من يتطلع للسلطة والثروة باسهل الطرق واقذر الوسائل ، وبالطبع من دون اهلية او مؤهلات.
والحال كذلك، لا يستغرب المرءُ تبني مستشاري قائد الدعم السريع وكتابه السرديات المتهافتة، وتكذيب الانتهاكات الواسعة التي تمارسها قواتهم، اي بوصفهم مثقفي سلطة، او مازومين اجتماعيا ومن ثمَّ يرغبون في تصفية حسابات تاريخية. الشئ الذي يتلاءم وتدني منسوب القيم الاخلاقية وضمور الحساسية الاستنارية، ومن ثمَّ الانخراط في مغالطات لا تحتاج كثير ذكاء لتفنيدها وتكذيبها. بل المفارقة ان احد دعاوي الدعم السريع لخوض الحرب هي مواجهة الفلول، في الوقت الذي ارجعوا فيه الفلول من الباب العريض، بعد العدوان الجبان علي المدنيين العُزل ونهب ممتلكاتهم وانتهاك اعراضهم وتشريدهم من ديارهم! وبعد ذلك يتحدثون دون حياء عن الديمقراطية والمدنية! وعليه، اذا كان هذا حال ديمقراطيتهم ومدنيتهم، ما ضر الانقاذ وكل نماذج الحكم الاعتباطي التعسفي الهمجي؟!
ولكن يستغرب المرءُ صمت النخب الدارفورية ومستنيريها علي جرائم مليشيا الدعم السريع، وعدم التصدي للخطر الداهم الذي تشكله علي البلاد وشعبها! وذلك ليس لان الدعم السريع مليشيا تنطبق عليها مواصفات المليشيا وممارستها (النمر يتنمر كما عبر بروف عبدالله علي ابراهيم)، وهو ما اثبتته الحرب الدائرة الآن، وقبلها تاريخها الدموي النهبوي في دارفور ومجزرة ساحة الاعتصام، ولكن لان الحساسية الاستنارية السابق ذكرها، تتطلب الوفاء بمستحقاتها، وهي ارتفاع منسوب الانسانية، والبحث عن الحقيقة، والتعامل بطريقة موضوعية مع الوقائع والاحداث! ومجمل الامر العمل علي تاسيس دولة حديثة، كافضل الآليات المستحدثة لحل اشكال التعايش بين المجتمعات، مهما كانت درجة التباين بينها، وتاليا رفض العنف بكافة صوره. وكل ذلك يتعارض مع وجود هذه المليشيا وسردياتها، بنفس القدر الذي يتصدي لتغول المؤسسة العسكرية علي السلطة وتجييرها لصالح نخبة متسلطة. اي ما يحتاجه انسان دارفور هو نفسه ما يحتاجه انسان حلفا وهمشكوريب، وهو ان يحيا حياة تليق بكرامته، وينال حقوق المواطنة كاملة، ويستمتع بخيرات بلاده التي يحسن استغلالها. وهذا ما لن يمر بثقافة حربية تتولى كبرها الجيوش والمليشيات والاحزاب العقائدية والتوجهات القبلية، التي تهدر موارد البلاد وطاقاتها في صراع الاستيلاء علي السلطة، من اجل توظيفها لخدمة شرائح ضيقة علي حساب بقية المواطنين. وكالعادة لا تستنكف الاستعانة بالشيطان من اجل تكريس هذه الاوضاع التسلطية، وبما في ذلك العمل كعملاء لكفلاء الخارج، والتورط مع لوبيات الفساد في الداخل.
وعموما يبدو ان العبء الواقع علي السياسيين في هذه المرحلة، وبعد مسيرة الفشل منذ الاستقلال، ان تستنهض همتها وتعمل من اجل الحفاظ علي الدولة راهنا، والتاسيس للدولة المدنية مستقبلا. اي ليس لها مكان في سلطة المستقبل القريب، علي ان تكرس جهدها لبناء الذات، واقناع المؤسسة العسكرية بدورها الاحترافي. وعلي نخبة دارفور اقناع مليشيا الدعم السريع باستبدال الثقافة الحربية بالثقافة التنموية، ومحاربة الخطابات العدائية الجهوية. فالبلاد لا تنقصها الفتن، التي قد تدخل البلاد في نفق التصفية العرقية علي اسوأ الفروض والانقسام علي افضلها.
والاهم التاكيد علي ان مليشيا الدعم السريع الاجرامية، هي الابن الشرعي لمنظومة الانقاذ الاجرامية. وان حميدتي بسلوكياته الاجرامية النهبوية، يمثل النسخة الاكثر رداءة لاهل دارفور. وان (الدلاهي) البرهان يمثل النسخة الاكثر غباء وخواء وغدر وتسلط للمؤسسة العسكرية. وان الترابي بمكره وشره وشرهه للسلطة، يمثل النسخة الاكثر (دجل) للطبقة السياسية. وما تشترك فيه هذه النسخ الممسوخة، انها مسؤولة بصورة شخصية عن الكوارث التي اقترفتها بمحض ارادتها في حق البلاد والعباد. اما المؤسسات والجهات والافراد، التي تقف خلفها ومكنتها من ارتكاب هذه الموبقات، فهي شريكة بالاصالة. والحال كذلك، التصدي لهذه التركة والاهوال، في حال كان هنالك امكانية للتصدي، يقع علي عاتق الطبقة السياسية بصفة خاصة، وبقية المكونات المدنية بصفة عامة. وذلك عبر استخدام الادوات السياسية والانشطة المدنية والوسائل السلمية. اما ما يجب الاعتراف به كتمهيد للاصلاح، فهو فشل جميع الاساليب والانشطة السياسية الماضية، وبما فيها الثورات رغم تضحياتها، في احداث التغيير المنشود. وهو ما يعني بدوره الحاجة لابتكار مقاربات جديدة وطرح حلول مبتكرة، تستصحب مخاوف ومطامع اصحاب الشوكة (السلاح)، علي ان تجد للسياسة والحياة المدنية موطئ قدم. ويبدو ان هذه المساحة بين العسكر والسياسيين (لعبة القط والفار القائمة علي انعدام الثقة)، والتي تمت مصادرتها تاريخيا لصالح العسكر، تحتاج لخلطة من لجان المقاومة والتكنوقراط والادارات الاهلية والرموز المجتمعية والضباط غير الكيزان بالمعاش، لشغلها مرحليا، لتفصل بين المُعسكرين. وهذا بالطبع بعد علاج ما صنع الحداد بين العسكر، ومن ثَّم اقتناعهما بتوسيع مساحة المشاركة.
وبما انه لم يفت الكثير، فما زال هناك متسع للجميع، للعمل علي تصحيح الاخطاء الماضية، التي قادت في النهاية لهذه الحرب اللعينة. وإلا سيكون الثمن الذهاب الي المجهول باكلاف كارثية علي كافة المستويات.
واخيرا
نسال الله ان تصدق اخبار عودة المفاوضات وان تكلل بالنجاح، لينجم بال بلدا تعب، علي قول حميد.
بسم الله الرحمن الرحيم
تواترت الانباء عن اقتراب عودة المفاوضات بين الجيش والدعم السريع بمنبر جدة. وسبق ذلك اجتماع اكبر تجمع لمناهضة الحرب باديس ابابا. وهذه الانباء وتلك الخطوات قد تمثل بقعة ضوء في نهاية نفق الحرب المظلم.
وصحيح يصعب تصديق عودة الجيش لمائدة التفاوض، بسبب عودة الوعي او اعلاء المصلحة العامة. ولا ان رغبة الدعم السريع في التفاوض مرجعها حرصه علي الديمقراطية والدولة المدنيةّ. بقدر ما تعكس العودة للتفاوض من قبل الجيش، والمرونة الزائفة من قبل الدعم السريع، حالة الانهاك العسكري وكم الخسائر التي يتعرض لها الطرفان. وهو ما يجعل هذه المفاوضات، اذا ما تسني لها الانعقاد، تندرج في خانة مكره اخاك لا بطل. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي صعوبة هذه المفاوضات، وتدني سقف التوقعات من مخرجاتها. وغالبا يرجع ذلك للتركيب الحربي الذي يسم الجيش والدعم السريع ومن خلفهم الاسلامويون والجهويون! وتاليا غياب المرونة التي تتطلبها المفاوضات، خاصة من جهة تقديم تنازلات جادة، تفسح المجال امام بروز حلول مرضية (قادرة علي احداث اختراق يصب في خانة ايقاف الحرب ومنع تجددها مستقبلا).
وطالما الامر كذلك، فهذا ما لا يتطلب الاحباط، بقدر ما يتطلب مضاعفة الجهد من كافة الاطراف، للضغط علي طرفي الاقتتال، حتي تُكلل عودة التفاوض بالنجاح. وعموما هنالك مقدمات يفضل وضعها في الاعتبار لدفع التفاوض قدما للامام، منها:
اولا، يجب تشجيع الاطراف المتقاتلة لايقاف الحرب، وذلك باستخدام كافة الوسائل وتوفير كل المحفزات والضمانات. وبما ان جذر الحرب واصل الصراع يتعلق بحيازة السلطة واحتكار الامتيازات. والحال كذلك من السذاجة توقع تنازلهما بسهولة، سواء من اجل عيون الديمقراطية او خاطر الامن القومي او غيرها من الشعارات التي تصلح للدعاية الحربية، ولكنها لا تسوي حبة خردل في ميزان صراع المصالح الشرس، لهؤلاء الوحوش الكاسرة.
ثانيا، علي السياسيين والمدنيين قراءة الواقع وموازين القوي والاخطار المحدقة بالوطن بصورة صحيحة، وتاليا لا يضغطون من اجل تمرير مشاريع او طموحات تلبي اشواقهم للسلطة. بمعني بعد ان فشلت الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، في بناء الدولة الحديثة منذ الاستقلال، بسبب الانشغال بصراع السلطة وسطوة الانظمة الانقلابية، فقد آن الأوان لتقديم المصلحة العامة ومراعاة الاولويات. وليس هنالك اولوية اكبر من ايقاف الحرب والحفاظ علي ارواح المواطنين وسلامة الدولة.
وصحيح ان الدعم السريع كمركب جديد في المعادلة السياسية، وركن اساس في الصراع حول السلطة، يمثل مجرد وجوده تهديد لبقاء الدولة وامن المواطنين، ولكن متي لم يسبب الجيش النظامي الاذي للدولة ويصادر خيارات المواطنين؟ اما السياسيون بأدائهم البائس، فمؤكد انهم لم يشكلوا يوما اضافة نوعية لقضية بناء الدولة المدنية او ترسيخ القيم الديمقراطية! خاصة بعد انخراطهم في صراعات طفولية حول الاحقية بالسلطة، وادمانهم التشاكس والاختلافات غض النظر عن خطورة الاوضاع وحساسية القضايا (من يصدق ان هذه الحرب التي اهلكت الحرث والنسل ووضعت البلاد علي مهب الريح، اي زلزلت كل شئ تحت سماء الوطن، لم تستطع طي جذور الخلافات واسباب النزاعات، التي تسم البيئة السياسية وتسمم الحياة المدنية)!
وكل ما سبق يقول شئ واحد، ليس هنالك حل حاسم او ساهل او تقليدي لقضية الحرب او ما بعد الحرب او هنالك امكانية لعودة اوضاع ما قبل الحرب. وعليه كل ما هو متوافر اذا ما خلصت النوايا وشُحذَت الهمم، القيام ببذل جهود مضنية وتضحيات جسام، من اجل الوصول لتوليفة تلم شمل كل هذه التناقضات والمصالح المتضارية، بما يجعل ايقاف الحرب ممكنا اولا، والمحافظة علي بقاء الدولة ثانيا، واعادة تاسيسها علي اسس حديثة مستقبلا ثالثا.
والحال كذلك، يصبح الوصول لوضعية نموذجية سواء من ناحية بناء دولة المؤسسات او تداول السلطة سلميا او سريان الروح المدنية في شرايين الدولة وتلافيف المجتمع،هي جميعها طموحات مشروعة، ولكن مناطة بها اجيال قادمة، يقع علي عاتقها الاستفادة من تجارب الماضي المليئة بالاخطاء القاتلة. وبالطبع يقع علي راس هذه الاخطاء القاتلة قلب الاولويات، اي اهمال الدولة (قاعدة الهرم) والاهتمام بالسلطة (قمة الهرم). وهو ما جعل صراع السلطة يفتقد للاسس، ومن ثمَّ يتحول لصراع في حلقة مفرغة حول المصالح الخاصة. لتكسبه المؤسسة العسكرية وحيرانها بالضربة القاضية، قبل ان يجرفها تيار السلطة لمواجهة مصيرية ضد مليشيا الدعم السريع (الحرب الراهنة)، وقبلها تقض مضجعها الحركات المسلحة، وكل ذلك علي حساب استقرار الدولة، وتاليا تدهور حياة المواطنين بصورة مطردة.
ثالثا، لجم الخطاب الجهوي الذي يتولي كبره انصار الدعم السريع، ويوظفه الكيزان كسلاح مضاد، وينخرط فيه المُستفزون! ولا يمكن التاسيس لنبذ الخطاب الجهوي من دون التخلص من الحمولات المبتسرة للتاريخ والتي تجتزئ التفاصيل وتضخم السلبيات وتعمم المقولات (الجلابة/الغرابة). ومن ثمَّ العودة لاصل المشكلة التي ترتبت عليها هذه النتائج. وهو ما يقودنا مرة اخري لمعضلة العجز عن بناء دولة المواطنة، التي افرزت صراعات ما قبل الدولة، ومن ضمنها الصراعات الجهوية والعرقية والدينية، التي يستثمر فيها كل من يتطلع للسلطة والثروة باسهل الطرق واقذر الوسائل ، وبالطبع من دون اهلية او مؤهلات.
والحال كذلك، لا يستغرب المرءُ تبني مستشاري قائد الدعم السريع وكتابه السرديات المتهافتة، وتكذيب الانتهاكات الواسعة التي تمارسها قواتهم، اي بوصفهم مثقفي سلطة، او مازومين اجتماعيا ومن ثمَّ يرغبون في تصفية حسابات تاريخية. الشئ الذي يتلاءم وتدني منسوب القيم الاخلاقية وضمور الحساسية الاستنارية، ومن ثمَّ الانخراط في مغالطات لا تحتاج كثير ذكاء لتفنيدها وتكذيبها. بل المفارقة ان احد دعاوي الدعم السريع لخوض الحرب هي مواجهة الفلول، في الوقت الذي ارجعوا فيه الفلول من الباب العريض، بعد العدوان الجبان علي المدنيين العُزل ونهب ممتلكاتهم وانتهاك اعراضهم وتشريدهم من ديارهم! وبعد ذلك يتحدثون دون حياء عن الديمقراطية والمدنية! وعليه، اذا كان هذا حال ديمقراطيتهم ومدنيتهم، ما ضر الانقاذ وكل نماذج الحكم الاعتباطي التعسفي الهمجي؟!
ولكن يستغرب المرءُ صمت النخب الدارفورية ومستنيريها علي جرائم مليشيا الدعم السريع، وعدم التصدي للخطر الداهم الذي تشكله علي البلاد وشعبها! وذلك ليس لان الدعم السريع مليشيا تنطبق عليها مواصفات المليشيا وممارستها (النمر يتنمر كما عبر بروف عبدالله علي ابراهيم)، وهو ما اثبتته الحرب الدائرة الآن، وقبلها تاريخها الدموي النهبوي في دارفور ومجزرة ساحة الاعتصام، ولكن لان الحساسية الاستنارية السابق ذكرها، تتطلب الوفاء بمستحقاتها، وهي ارتفاع منسوب الانسانية، والبحث عن الحقيقة، والتعامل بطريقة موضوعية مع الوقائع والاحداث! ومجمل الامر العمل علي تاسيس دولة حديثة، كافضل الآليات المستحدثة لحل اشكال التعايش بين المجتمعات، مهما كانت درجة التباين بينها، وتاليا رفض العنف بكافة صوره. وكل ذلك يتعارض مع وجود هذه المليشيا وسردياتها، بنفس القدر الذي يتصدي لتغول المؤسسة العسكرية علي السلطة وتجييرها لصالح نخبة متسلطة. اي ما يحتاجه انسان دارفور هو نفسه ما يحتاجه انسان حلفا وهمشكوريب، وهو ان يحيا حياة تليق بكرامته، وينال حقوق المواطنة كاملة، ويستمتع بخيرات بلاده التي يحسن استغلالها. وهذا ما لن يمر بثقافة حربية تتولى كبرها الجيوش والمليشيات والاحزاب العقائدية والتوجهات القبلية، التي تهدر موارد البلاد وطاقاتها في صراع الاستيلاء علي السلطة، من اجل توظيفها لخدمة شرائح ضيقة علي حساب بقية المواطنين. وكالعادة لا تستنكف الاستعانة بالشيطان من اجل تكريس هذه الاوضاع التسلطية، وبما في ذلك العمل كعملاء لكفلاء الخارج، والتورط مع لوبيات الفساد في الداخل.
وعموما يبدو ان العبء الواقع علي السياسيين في هذه المرحلة، وبعد مسيرة الفشل منذ الاستقلال، ان تستنهض همتها وتعمل من اجل الحفاظ علي الدولة راهنا، والتاسيس للدولة المدنية مستقبلا. اي ليس لها مكان في سلطة المستقبل القريب، علي ان تكرس جهدها لبناء الذات، واقناع المؤسسة العسكرية بدورها الاحترافي. وعلي نخبة دارفور اقناع مليشيا الدعم السريع باستبدال الثقافة الحربية بالثقافة التنموية، ومحاربة الخطابات العدائية الجهوية. فالبلاد لا تنقصها الفتن، التي قد تدخل البلاد في نفق التصفية العرقية علي اسوأ الفروض والانقسام علي افضلها.
والاهم التاكيد علي ان مليشيا الدعم السريع الاجرامية، هي الابن الشرعي لمنظومة الانقاذ الاجرامية. وان حميدتي بسلوكياته الاجرامية النهبوية، يمثل النسخة الاكثر رداءة لاهل دارفور. وان (الدلاهي) البرهان يمثل النسخة الاكثر غباء وخواء وغدر وتسلط للمؤسسة العسكرية. وان الترابي بمكره وشره وشرهه للسلطة، يمثل النسخة الاكثر (دجل) للطبقة السياسية. وما تشترك فيه هذه النسخ الممسوخة، انها مسؤولة بصورة شخصية عن الكوارث التي اقترفتها بمحض ارادتها في حق البلاد والعباد. اما المؤسسات والجهات والافراد، التي تقف خلفها ومكنتها من ارتكاب هذه الموبقات، فهي شريكة بالاصالة. والحال كذلك، التصدي لهذه التركة والاهوال، في حال كان هنالك امكانية للتصدي، يقع علي عاتق الطبقة السياسية بصفة خاصة، وبقية المكونات المدنية بصفة عامة. وذلك عبر استخدام الادوات السياسية والانشطة المدنية والوسائل السلمية. اما ما يجب الاعتراف به كتمهيد للاصلاح، فهو فشل جميع الاساليب والانشطة السياسية الماضية، وبما فيها الثورات رغم تضحياتها، في احداث التغيير المنشود. وهو ما يعني بدوره الحاجة لابتكار مقاربات جديدة وطرح حلول مبتكرة، تستصحب مخاوف ومطامع اصحاب الشوكة (السلاح)، علي ان تجد للسياسة والحياة المدنية موطئ قدم. ويبدو ان هذه المساحة بين العسكر والسياسيين (لعبة القط والفار القائمة علي انعدام الثقة)، والتي تمت مصادرتها تاريخيا لصالح العسكر، تحتاج لخلطة من لجان المقاومة والتكنوقراط والادارات الاهلية والرموز المجتمعية والضباط غير الكيزان بالمعاش، لشغلها مرحليا، لتفصل بين المُعسكرين. وهذا بالطبع بعد علاج ما صنع الحداد بين العسكر، ومن ثَّم اقتناعهما بتوسيع مساحة المشاركة.
وبما انه لم يفت الكثير، فما زال هناك متسع للجميع، للعمل علي تصحيح الاخطاء الماضية، التي قادت في النهاية لهذه الحرب اللعينة. وإلا سيكون الثمن الذهاب الي المجهول باكلاف كارثية علي كافة المستويات.
واخيرا
نسال الله ان تصدق اخبار عودة المفاوضات وان تكلل بالنجاح، لينجم بال بلدا تعب، علي قول حميد.