اللهوية السودانية المعقدة موت بسيوني: مثال (2/2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

The Death of Bassiouni: A case of Complex Identity in the Sudan

Robert Kramer روبرت كرامر

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لغالب ما جاء في مقال البروفيسور روبرت كرامر عن أحد الشخصيات اليهودية في السودان، نشر في العدد التاسع والأربعين من "المجلة الكندية للدراسات الأفريقية Canadian Journal of African Studies" الصادرة عام 2015م.

وذكر الكاتب أن كل المعلومات الواردة في مقاله هي حصاد مقابلات مع عائلة بسيوني، أجراها في الخرطوم ولندن في عامي 1986 و1987م، وفي اتصالات أجراها معهم لاحقا.

ويعمل البروفيسور روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، ونشر - منفردا وبالاشتراك - عددا من الكتب والمقالات عن تاريخ السودان، خاصة في عهد المهدية، وعن الطريقة التيجانية في غانا. ومن أمثلة أعماله كتاب بعنوان "أم درمان مدينة مقدسة" ومقال (سبق لنا ترجمته) عن "استسلام وجهاء أم درمان".

المترجم

***** ***** ****

عائلة ممتدة

أمر الخليفة عبد الله بُعَيدَ توليه خلافة المهدي في 1885م بأن تتولى كل عائلة أمر تزويج نسائها، وإلا ستقوم الدولة على الفور بتزويجهن بمعرفتها. وشجع الخليفة الأنصار بشدة على تعدد الزوجات (مع الالتزام بالحد الشرعي وهو أربع زوجات). وكان ذلك القرار متماشيا مع رؤية المهدي للتكامل الاجتماعي بين مختلف القبائل والمجموعات العرقية بالبلاد، ولكنه كان أيضا استجابة لما أثاره أمران من ثورة وهياج، أولهما هو الحروب المستمرة في غضون سنوات حركة المهدية، والتي سببت نقصا كبيرا في أعداد الرجال، وخلفت أعدادا كبيرة من الأرامل واليتامى، وثانيهما هو الهجرة الجماعية (القسرية) لقبائل غرب السودان إلى أم درمان، استجابة لسياسة الخليفة التي قضت بقدوم رجال تلك القبائل للعاصمة بدءً من عام 1885م. وحث

الخليفة بسيوني، مع غيره من رجال المسالمة، على أن يتخذ له زوجة سودانية، لا سيما وهو من أعضاء "مجلس العشرة الكرام" الذي يستشيره الخليفة.

وكانت المرأة التي اختارها بسيوني (أو بالأصح أختارها له الخليفة بنفسه) هي منى بت بشارة (Manna bt. Bishara، ولعلها "بت المنا") ، حفيدة القبطي شنودة بطرس من اسنا بصعيد مصر. وبزواجه من تلك المرأة عزز بسيوني من ارتباطه بالسودان.

كان شنودة بطرس هو "حامل العلم Standard bearer " في الجيش التركي – المصري الذي غزا السودان في عام 1820م. ولذا أطلق الأهالي عليه لقب (أبو علم). واستقر شنودة في السودان خلال سنوات ذلك العهد، وتزوج من قبطية من بلده (اسنا) وأنجب منها 5 أولاد و12 بنتا، تزوج معظمهم قبل المهدية. وأثبتت تلك الزيجات (وخاصة زيجات أحفاده لاحقا) قدرا كبيرا من التكامل مع السودانيين عند بسيوني. ومن الثابت أن ولدين من أبناء شنودة تزوجا من امرأتين سودانيتين، وأن سبعا من بناته تزوجن من رجال سودانيين (أورد الكاتب في الهامش، بالتفصيل، أسماء الزوجات والأزواج من السودانيين والأقباط. فعلى سبيل المثال ذكر الكاتب أن عبد النور شنودة تزوج من امرأة سودانية الأصل اسمها فاطمة، وأن حنونة شنودة اقترنت بسوداني من الخندق اسمه النور عبد الحفيظ بانقا. المترجم).

وكانت زوجة بسيوني (منى) ابنة بشارة شنودة، الذي كان قد تزوج من امرأة اسمها خديجة (وهي ابنة أحد أثرياء التجار الجعليين). وربما للشبه الشديد بين منى ووالدتها، كان بسيوني يسمي زوجه "منى بت خديجة". وفي المقابل كانت زوجته تطلق عليه – بنهج سوداني مميز - لقب "الخواجة"! ويبدو أن الاسمين كانا من باب الدعابة أو الإغاظة المحببة (affectionate teasing). ولا يعلم إن كانت منى في البدء مسيحية (بحسب ديانة أبيها القبطي) أو مسلمة (بحسب ديانة أمها السودانية الشمالية). غير أنه من المعروف أن منى هذه كانت سوداء اللون و"مشلخة" بشلوخ الجعليين المعتادة (ثلاثة خطوط عمودية). وكانت أخت منى الكبرى، واسمها "لولي" قد اقترنت من قبل بسوداني مسلم اسمه بلال الأسيدة، ولها بنت يقال لها ستنا، تزوجها في سنوات حكم المهدية قائد مهدوي هو محمد خالد زقل (الصحيح أن ولده عبد الله هو من تزوجها بحسب تأكيد من أحد أحفاد زقل. المترجم). كانت تلك عائلة لها صلات وروابط مهمة بالنسبة لبسيوني، إذ أن محمد خالد زقل كان من أقرباء المهدي، وكان رجلا واسع الثراء وعظيم المكانة الاجتماعية، خاصة في سنوات المهدية الباكرة. وقيل أيضا أن محمد خالد زقل هو من اقترح على بسيوني أن يتزوج من منى.

ويتضح من تلك الزيجات أن عائلة بسيوني شملت عددا من السودانيين، خاصة من رجال ونساء القبائل النيلية في شمال السودان، ولكنها شملت أيضا بعض الأفراد من دارفور وكردفان. وبالإضافة لمحمد خالد، فقد شملت عائلة بسيوني الممتدة عددا من الأمراء في سنوات حكم المهدية، كان اثنان منهم من أقرباء الخليفة عبد الله. وكان منهم أيضا تجار يعدون من الأثرياء في العهد التركي – المصري.

ويصعب التكهن بمدى تأثير تلك الزيجات على حظوظ بسيوني في عهد المهدية. إلا أنه من الممكن لنا أن نتصور أن تلك الزيجات شكلت للرجل حماية قوية وسندا لا يستهان به. ومن السهل أيضا تخيل وقعها على زوجته (اليهودية) الأولى باخورة، والتي حملت من زوجها عديد المرات، ولكنها فقدت جميع أطفالها في الولادة أو بعدها بقليل. وبقيت باخورة في المنزل ضَرّة لزوجة بسيوني الثانية (منى) التي أنجبت لبسيوني ولدين اسماهما هارون وماير، وتوفيا في سنوات طفولتهما. وبعد مرور عدد من السنوات رزق بسيوني بأربعة أطفال، كان أكبرهم هو داؤود بسيوني.

الحياة بعد المهدية

بقي بسيوني بالسودان، كغيره من "المسالمة"، بعد هزيمة المهدية في عام 1898م وبدء الحكم الإنجليزي – المصري. وكانت حقيقة مذهلة ومفارقة غريبة أنه لم يهرب من السودان عقب إعادة فتح الحدود سوى عدد قليل نسبيا من اليهود والأقباط والأغاريق والأرمن والسوريين، على الرغم مما حاق بهم في عهد المهدية. (ذكر أبونا دانيال البطريرك القبطي بالخرطوم للكاتب في مقابلة له معه بتاريخ 30/10/ 1986م أن سبب قلة الهاربين من السودان عقب هزيمة المهدية وفتح الحدود هو أن "هؤلاء الأجانب قد شعروا بأنهم كانوا عانوا في عهد المهدية أقصى ما يمكن لهم أن يعانوه". وعبر الكاتب أن ذلك التفسير لم يقنعه. المترجم). وظل بسيوني يقطن في أم درمان عاصمة المهدية السابقة، في رغد من العيش، خاصة بعد أن تملك عددا من البيوت في حي المسالمة (قرب السوق الرئيسي بالمدينة) وفي شارع العرضة وغيره. ولم يجد سببا للانتقال للخرطوم، التي كان المستعمر الجديد يعيد بنائها ببطء.

وكغيره من الذين تحولوا للإسلام في عهد المهدية، عاد بسيوني رسميا لديانته الأولى رغم احتفاظه باسم موسى بسيوني الذي كان قد أسمي به في المهدية (ولكنه صار يكتبه بالإنجليزية Bassiouni عوضا عن Basyuni) وغدا الاسم بتهجئته الإنجليزية هو الاسم المعتمد في الدوائر التجارية والاجتماعية السودانية. وظلت زوجته الأولى باخورة تناديه باسمه القديم (موشيه)، وبقيت هي في السودان إلى أن وافتها المنية منشغلة بالمساعدة في رعاية أبناء بعلها من زوجته الثانية منى. وشمل هؤلاء بناته مثل نعيمة (المولودة عام

1898م) وايثير Esther(المولودة 1904م) وأولاده داؤود (المولود عام 1906م) وسليمان (المولود في عام 1910م). وأخيرا، شملت عائلة بسيوني أيضا أفراد عائلة منى المسلمين والأقباط.

ومع تزايد أعداد المهاجرين اليهود من سوريا ومصر والعراق ودول أخرى للسودان بحثا عن الفرص التجارية، تم تكوين جالية يهودية رسمية. واستجلت تلك الجالية لأول مرة في أغسطس من عام 1906م حَبْرا يهوديا مؤهلا (rabbi) من طبريا في فلسطين اسمه سلومون مالكا. وكان بسيوني قد تولى من قبل ذلك التاريخ أمر تشييد معبد يهودي صغير في أم درمان وكان يؤم الناس في الصلاة به، وابتاع أرضا ليقيم فيها مدفنا لليهود. واختارته الجالية رئيسا لها مدى الحياة اعترافا منها بأعماله الجليلة وأقدميته وتأثيره. وأنشئ في عام 1934م فرع للمنظمة اليهودية الخيرية المسماة بني بيرث B'nai B'rith (تسمى أيضا "أبناء العهد") في الخرطوم، أطلق عليها اسم "بن صهيون كوشتى" تكريما لبسيوني (بحسب ما جاء في موقعها في الشابكة (الشبكة) العنكبوتية فإن منظمة "بني بيرث" هي منظمة يهودية أنشئت في نيويورك عام 1843م لخدمة الجاليات اليهودية حول العالم. المترجم).

وجاء في كتاب إيلي مالكا عن تاريخ اليهود في السودان، أن أول ما قام به الحَبْر سلومون مالكا رسميا بُعَيدَ وصوله للسودان هو تهويد زوجات وأطفال عائلات اليهود السودانيين (المقصود هم الذين تزوجوا أو ولدوا في عهد المهدية). وكانت أولى المُتهوِّدات هي منى، والتي تغير اسمها إلى الاسم العبري "هانا بات إبراهام" ثم تم تهويد عيالها فسميت نعيمة نعومي، وأعطى داؤود اسم ديفيد. غير أن ما ورد في ذلك الكتاب لم يكن دقيقا تماما، فقد قام الحَبْر سلمون مالكا بتهويد بعض أفراد تلك العائلة في 1908م وليس 1906م كما زعم مؤلف الكتاب، أي بعد أوبته من طبريا التي كان قد ذهب إليها ليحضر زوجه وبناته للإقامة معه بالسودان. ولا يعرف على وجه الدقة سبب تأخير تهويد هؤلاء. غير أنه من الملاحظ أن عملية تهويد أفراد تلك العائلة لم تتم إلا بعد أن استقدم بسيوني الحَبْر الأعظم من مصر (واسمه الياهو هازان) إلى أم درمان. لذا يمكننا القول بأن بسيوني ربما كان يسعى لإتمام عملية تهويد أفراد عائلته على يد أكبر سلطة دينية في المنطقة. وابتدءً من عام 1909م تولى الحَبْر مالكا عملية ختان كل صبية اليهود بالبلاد (ومن ضمنهم داؤود بسيوني)، وكان حينها في الثالثة من عمره (خلافا لعادة السودانيين الذين يختنون أولادهم في سن أكبر من ذلك). وفي سنوات لاحقة صار اليهود بالبلاد يختنون أولادهم في اليوم الثامن لميلادهم. واحتفل داؤود وهو في الثالثة عشر من العمر بالبار ميتزفاه Bar Mitavah (هذا طقس من طقوس اليهود لإعلان سن البلوغ والتكليف، فبعد تلك السن ينبغي على اليهودي مثلا الصيام في "يوم التكفير". المترجم). ثم توفي موسى بسيوني في عام 1921م فدفن في مقبرة اليهود بأم درمان، تلك التي أقامها بسيوني.

وظلت حياة عائلة بسيوني التي عاشت في سنوات ما بعد المهدية مليئة بالأحداث المثيرة. فقد ولد كثير منهم بالسودان وحملوا جنسيته وجوازات سفره، وكانوا يعدون أنفسهم من اليهود، ومن "الأم درمانين" أيضا. ثم ارتبطوا بعد عام 1918م بالخرطوم وبجاليتها اليهودية. وازداد ارتباطهم بأطياف من رجال ونساء المجتمعات السودانية (على سبيل المثال بعائلة منى التي تشمل المسلمين والأقباط). وعاش أفراد فرعين من تلك العائلة الممتدة هما عائلتي فرحانة ولولي (عمة وأخت منى، على التوالي) في الخرطوم بحري. وكانوا يداومون على زيارة دار بسيوني.

واشتهرت منى بين أفراد عائلتها وفي أوساط رجال ونساء الجالية اليهودية بشدة التدين. فقد عرف عنها الاهتمام والالتزام بكل الطقوس اليهودية (مثل الغُسْلُ قبل إيقاد الشموع في يوم السبت (Sabbath)، وتلاوة بعض آيات التوراة قبل تناول الطعام، والاحتفال بكل الأعياد الدينية). ومن غريب الصدف أن واحدا من جيرانهم السابقين في أم درمان – يوسف بدري، الذي نشأ مع داؤود بسيوني، كان هو ابن الرجل الذي كان قد استأجر من موسى بسيوني متجرا في سوق أم درمان في عهد المهدية. ولا شك أنه يذكره بحسبانه رجلا مسلما، يتوضأ ويصلى على (برش) الصلاة. وكان أبونا دانيال بطريرك الخرطوم يصر على أن بسيوني وجميع أفراد عائلته كانوا "مسلمين مخلصين" منذ أن انتصرت المهدية. بينما ذكر لي أحد سكان أم درمان السودانيين (واسمه الأسطى الجاك) بأنه واثق جدا بأن منى (وبقية أفراد عائلتها) هم من الأقباط. غير أن عائلتين من العائلات اليهودية التي تحولت (أو حولت) للإسلام في عهد المهدية بقيت على إسلامها بعد سقوط المهدية، إحداها هي عائلة منديل، والأخرى هي عائلة إسرائيل. وكانت عائلة إسرائيل على علاقة وثيقة بعائلة بسيوني، وربما اختلط الأمر على دانيال بطريرك الخرطوم، فتحدث عن عائلة إسرائيل وهو يقصد عائلة بسيوني. وذكر يوسف بدري لي في مقابلة معه يوم 30 يونيو 1987م في أم درمان بأنه "لم يكن الناس في تلك السنوات يفرقون كثيرا بين المسلم والمسيحي واليهودي، ... إذ أنهم كانوا يرتدون ذات الملابس ويتزاورون فيما بينهم يوم الجمعة ... ولم تكن ديانة المرء بالأمر المهم، وبالتأكيد لم تكن الدولة تشتغل بمراقبة سلوك الأفراد والجماعات والتزامهم بأصول الدين". ويتضح مما سبق وَثاقة العلاقات بين أفراد المجتمع العاصمي آنذاك بغض النظر عن العرق والدين. بل كانت هنالك بين تلك المجتمعات العرقية والدينية المختلفة بعض عمليات "الاستعارة / الاستمداد الثقافي cultural borrowing" المتبادلة. ولا شك في أن عائلة بسيوني (اليهودية) كانت لها من الروابط والصلات مع السودانيين المسلمين والأقباط أكثر مما كان عند اليهود الآخرين.

ولم تكن الهوية الدينية لبقية أفراد تلك العائلة موضع شك، خاصة في أوساط مختلف الجماعات اليهودية بالبلاد (التي بلغ أقصى عدد لأفرادها ما يقل قليلا عن ألف فرد)، والتي شملت العرب والمتحدثين بالإنجليزية والفرنسية واليديشية وغيرها، من القادمين من مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا. وسهل على عائلة بسيوني الاندماج مع كل تلك المجموعات اليهودية المتباينة، فغالب أفرادها كانوا نشطاء اجتماعيا، يشاركون بفعالية في كل الشؤون والمناسبات الدينية والاجتماعية والترفيهية والرياضية لجاليتهم (خاصة مع فريق كرة القدم الخاص بهم)، ويتحدثون العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة. وكان بعضهم أعضاءً في المجلس الإداري الذي يدير شؤون المعبد اليهودي. وكغيرهم من يهود السودان، كانت حياة الواحد منهم تدور في الغالب حول أمور المال والأعمال والمناسبات الاجتماعية في النادي اليهودي بالإضافة إلى أندية أخري مثل النادي الأرمني والسوري والإيطالي والإغريقي. لقد كان مجتمعهم باختصار مجتمعا عالميا/ أمميا.

وعلى المستوى الوطني العريض، كانت لعائلة بسيوني سمعة طيبة وبروز واضح. فقد تزوجت ابنته الثانية ايثير من يهودي قدم من مصر اسمه سيزر ليفي، وغدت لاحقا مديرة أول مدرسة للبنات بأم درمان في ثلاثينيات القرن الماضي. ودرس داؤود بسيوني الاقتصاد في الجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1926 و1929م، وعاد للسودان ليعمل في مجلس إدارة الاستوائية، ونقل إلى مدينة بورتسودان بين عامي 1941 و1945م، حيث التقى بفتاة يهودية مصرية من الإسكندرية اسمها اليقرا هاروش وتزوجها في عام 1942م. ونقل داؤود بعد ذلك إلى جوبا بين عامي 1946 و1948م. وفي بورتسودان وجوبا أنجبت له زوجه عددا من الأطفال. أما سليمان ولد بسيوني الثاني فقد أصاب نجاحا عظيما، ومن نوع خاص. فقد كان نشيطا جدا في خدمة مختلف شؤون الجالية اليهودية، وكان من أوائل الذين تخرجوا أطباء في السودان، وعمل في مصلحة (وزارة) الصحة حتى بلغ رتبة حكيمباشي مستشفى الخرطوم، وعمل أيضا أستاذا بجامعة الخرطوم. وبعد تقاعده عن العمل هاجر مع عائلته لأسمرا (التي كانت حينها جزءً من اثيوبيا)، وعمل فيها طبيبا إلى أن هاجر بصورة نهائية إلى إسرائيل، بحسب ما جاء في كتاب إيلي مالكا. وكان الرجل قد اقترن في عام 1939م بسيدة من قبيلة المورو اسمها اليزباتا في غضون سنوات عمله بجنوب السودان. وأنجب منها ولدا اسماه ديفيد، على اسم عمه. ونشأ ديفيد سليمان في الجنوب ودرس لاحقا الطب البيطري في جامعة الخرطوم. وطلق سليمان زوجه الجنوبية وتزوج مرة أخرى من فتاة يهودية وأنجب منها ستة أطفال. لا شك أن اقترانه بفتاة سودانية جنوبية لم يكن أمرا مألوفا، بل عده بعض الأصوليين من كبار رجال الجالية اليهودية أمرا مشينا لأسباب دينية وعرقية. غير أن زواج سليمان من اليزباتا كان استمرارا لنهج وتراث عائلته الذي يميل نحو التنوع والشُمُول. وبذلك الزواج من جنوبية صارت لعائلة بسيوني صلات إضافية مع السودانيين، بما فيهم الجنوبيين

كذلك (ذكر الكاتب في الهامش أن زميلة جنوبية له أخبرته في تسعينيات القرن الماضي بأن "اسم بسيوني هو في الأصل اسم جنوبي". غير أنه من الشائع أن اسم بسيوني اسم مصري صميم نسبة لبلدة اسمها بسيون، ولما استعرب بعض اليهود واسلموا وجدوه قريبا من الاسم العبري بن زيون أو بن صهيون. المترجم).

وبدأت أوضاع اليهود في السودان تسوء بصورة متسارعة عقب قيام دولة إسرائيل في عام 1948م، وساءت أكثر عقب وصول عبد الناصر لسدة الحكم في مصر في 1954م، بسبب دعوته لضَّرْب عنيف من القومية العربية. وفي ذلك العام توفيت منى. وازدادت شهرة (وخطب) عبد الناصر بريقا ولمعانا عام 1956م بعد إخفاق إسرائيل وبريطانيا وفرنسا في السيطرة على قناة السويس. وتعالت في مصر – ومن ثَمَّ في بقية العالم العربي - الأصوات والسياسات المعادية للسامية، فبدأت أفواج عائلات اليهود تخرج من مصر والسودان بلا عودة. وشمل ذلك نعيمة وايثير وسليمان بيومي. وهاجر غالب اليهود إلى أوروبا والولايات المتحدة، بينما فضل قليل منهم الذهاب لإسرائيل. ولم يبق من تلك العائلة في السودان سوى داؤود وزوجه اليقرا وأطفاله السبعة، إذ كان داؤود قد وعد والده بأن يدفن إلى جنبه بمقابر اليهود بأم درمان، وكان يشعر شعورا قويا بأنه ينتمي للسودان، ولذا آثر البقاء فيه. غير أنه أتهم في قضية ملفقة عام 1967 بأنه "جاسوس إسرائيلي"، وأعتقل لثلاثة أيام. بعدها بدأ الشك يتسرب إلى نفسه، وأصابه الإحباط بسبب ما لاقاه من ظلم رغم حبه للسودان وأهله وارتباطه بهم. غير أنه استمر رغم ذلك في أداء أدوار مهمة في حيوات أناس كثر في مجتمع "المسالمة"، مما منحه اللقب الشرفي "شيخ الحارة". وكان يحس بواجبه في رعاية "المعبد اليهودي" لسنوات طويلة قبل أن يتناقص عدد اليهود إلى أقل من عشرة، وهو العدد الأدنى المطلوب لقراءة التوراة. وأخيرا توفي في داره الذي كانت تملكه الجالية اليهودية.

وفاة بسيوني

في صباح اليوم التالي لوفاته كفن داؤود بسيوني تحضيرا لدفنه. وذكر أفراد من العائلة أن فقيدهم كفن في ثوب (سرتي)، وهو عادة من ثياب الزفاف قديما. وقيل إن ذلك الثوب الذي كفن فيه داؤود كان هو ثوب زفاف والدته، منى (ذكر الكاتب في الهامش أن مثل ذلك الثوب سمي على مدينة في الهند هي سورات Surat، وذكر أيضا أن الرحالة الأسكتلندي جيمس بروس زار سنار في عام 1771م ورأى فيها قماش السرتي، والذي كان يأتي من الهند عبر ميناء سواكن. المترجم). ذهب المشيعون بجثمان داؤود بسيوني إلى المقبرة اليهودية، بينما بقيت نساء العائلة في الدار بحسب التقاليد السودانية، وتقاليد اليهودية (السفاردية) أيضا. ووضع جثمان بسيوني في قبره ووجهه يتجه نحو الشرق (في هذه الحالة كان المقصود هو جهة القدس).

وعاد أهل بسيوني لداره لتلقي العزاء من الأصدقاء السودانيين ورجال ونساء الجاليات الأجنبية من الأرمن والسوريين والأغاريق، إضافة لشخصين من اليهود الذين بقوا بالسودان. استمر العزاء لأربعين يوما، بحسب التقليد السوداني، وخالفت عائلة داؤود بسيوني بذلك التقليد اليهودي الذي يقضي بأن تكون أيام العزاء سبعة أيام لا تزيد (يسمى العزاء عند اليهود شيفا Shiva). وأتى للعزاء رتل كبير من المعزين السودانيين من عائلة منى الممتدة، منهم نساء (مشلخات) يرتدين أثوابا سودانية تقليدية ملونة. قرأ الرجال الفاتحة على روح الفقيد، بينما تعالت أصوات النساء بالعويل مع نساء عائلة بسيوني. وبقيت بدار بسيوني طوال أيام العزاء الأربعين هلالة بنت آدم سليمان (خادم بسيوني السابق). أتت كما قالت لتعزي في أخيها داؤود. وأتى للعزاء كذلك أفراد من وجهاء ومثقفي العائلات الكبيرة كان منهم سيد اسحق محمد الخليفة شريف (أحد أحفاد المهدي) ومحمد داؤود الخليفة (أحد أحفاد الخليفة عبد الله). أتى هؤلاء للعزاء في نجل رجل مهم في المهدية.

وبعد انقضاء فترة "الأربعين"، كما كان يسميها أفراد عائلة بسيوني، نهض هؤلاء من المراتب الملقاة على الأرض التي كانوا يجلسون عليها أثناء أيام الحداد، واغتسلوا وتعطروا، وتلوا صلوات يهودية (كاديش kaddish) تقال عادة على روح الميت. وقاموا بتحضير طعام إفطار خاص فيه كثير من أطايب الأطعمة. وفي صباح اليوم التالي قامت نساء العائلة بزيارة قبر بسيوني للمرة الأولى ورتلن الكاديش مرة أخرى، ووزعن بعض الأطعمة على كل من كان موجودا بالمقبرة، وتركن بعضها مع بسكويت وحلوى ملفوفة في أوراق ملونة على القبر، ونثرن الماء على ترابه.

بعد ذلك عادت حياة العائلة بالتدريج إلى طبيعتها. وبعد مرور عام على وفاته هاجر أفراد عائلة بسيوني الذين بقوا في الخرطوم (أرملة بسيوني وولديها) إلى أوروبا بصورة نهائية. وبذا أسدل الستار على حياة أقدم عائلة يهودية في السودان.

الخلاصة: أن تكون سودانيا

سن الرئيس الأسبق جعفر النميري في (سبتمبر) 1983م عملية "أسلمة" معاصرة، شملت قانون العقوبات الحدية التي نص عليها القرآن. وكانت حرب أهلية بين الشمال والجنوب قد بدأت في (نحو منتصف) ذلك العام نفسه، بعد أن كان قد خمد أوارها (منذ عام 1972م). وتولى الصادق المهدي رئاسة ثالث حكومة ديمقراطية بين عامي 1986 و1989م. وفي تلك الفترة توفي داؤود بسيوني، وهاجر آخر أفراد عائلته نهائيا لأوروبا. ثم أتى عهد الرئيس الحالي (عمر البشير) بانقلاب عسكري إسلامي مسنود من الجبهة الإسلامية

بزعامة حسن الترابي. واستمر ذلك النظام إسلاميا بعد خروج الترابي من سدته. وشهد هذا العهد انفصال جنوب السودان عن السودان.

وأعلنت الحكومة أنها حكومة "إنقاذ وطني"، وبدأت حملة لأسلمة كل مرافق الدولة، وأنشأت "قوات الدفاع الشعبي" للقيام بواجب "الجهاد"، وأقامت دستورا إسلاميا للبلاد في عام 1998م عَرَّفَ السودان باعتباره "دولة إسلامية"، وصار دين أغلبية السكان (الإسلام) ولغتهم (العربية) هما ما تعرَّف به "القومية / الوطنية السودانية". وكانت تلك الإيديولوجية التي تشددت في أمر الهوية، وجعلتها هوية صَلْدة )hardened( هي ما أزكت نيران الحرب الأهلية، وأفضت في نهاية المطاف لفصل السودان لقطرين. ولعل تلك الايديلوجية (والعاطفة) هي ما دعت لتذكر داؤود بسيوني ك "أحمد داؤود بسيوني" في الإذاعة السودانية، وكأن الشُمول (inclusivity) والقبول بالآخر والتَوْفِيقِيَّة (syncretism) الذي تميزت به تلك العائلة، وهويتها المتفردة لم يعودوا مقبولين أو قابلين للحياة في البلاد.

لعل تعريف السودان بأنه قطر "عربي" و"مسلم" كان سيثير، بلا ريب، استغراب الأقباط المسيحيين الذين أقاموا بكردفان في القرن التاسع عشر. فعقب مرور ما لا يزيد عن خمسين عاما من وصولهم من مصر للاستقرار في مدن مثل الأبيض وبارا بدأ هؤلاء يعدون أنفسهم "سودانيين". وسجل التاجر القبطي يوسف ميخائيل في مذكراته بأنه ورفاقه كانوا في عام 1875م، وهم تلاميذ بمدرسة الأبيض، يستمتعون بإزعاج مدرس مصري جديد قدم لتوه من بلاده. وأضاف بالقول: "لم نكن نخاف منه لأنه مصري وجبان". وارتعب المدرس المصري من ذلك الاستقبال العدائي وقال بأنه رجل أجنبي لا علم له بأخلاق أولاد السودان وسلوكهم! (ذكر الكاتب أنه اِسْتَقى تلك المعلومة من رسالة دكتوراه لصالح محمد نور عن مذكرات يوسف ميخائيل من جامعة لندن، عام 1962م. وعمل المرحوم الدكتور نور أستاذا للتاريخ بكلية الآدب في جامعة الخرطوم. المترجم). وكان يوسف ميخائيل يشير لأفراد مجتمعه من الأقباط بأنهم "أهل الوطن" قبل زمن طويل من انضمام غالب هؤلاء لأنصار المهدي. وكان يشار لسكان المسالمة بأم درمان في عهد المهدية – بحسب الظرف والحال - بأنهم “مسالمة" أو "أنصار" أو "أهل أم درمان". وكان ذلك إحساسا باكرا بهوية وطنية ناشئة.

لقد كانت الهوية تعتمد دوما على الموقع (situational) في السودان (أي "أرض السود" أو بلاد السودان" بحسب تسمية الجغرافيين العرب في القرون الوسطى). وتداخلت بطرق ومستويات متباينة عوامل اللون والعرق والقبيلة واللغة والموقع والدين والمهنة في تحديد تلك الهوية. وجعلت تلك العوامل الهوية في السودان

ديناميكية الطابع، وسمحت حدودها الاجتماعية المسامية / السميمة (porous) لكثير من الناس بالانتماء لها. فقد جاءت للسودان عائلة يهودية أصلها من فلسطين والأناضول، وصاهرت عائلات من شمال السودان، وعاشت وازدهرت في ذلك البلد (رغم تعرضها في أوقات قليلة لبعض المخاطر). وأحست تلك العائلة بقبول الآخرين في البلاد بهم كسودانيين، وجسد كل فرد فيها - في كثير من النواحي - معنى أن يكون المرء سودانيا في ذلك البلد المترامي الأطراف. غير أن هذا الوضع قد تغير، وغدا السودان مستعدا لهجر نصفه "الأفريقي" وطرحه بعيدا، ولم يعد بالطبع متوقعا أن يسعى أو يحتضن عائلة معقدة التكوين كعائلة بسيون


alibadreldin@hotmail.com

////////////////////

 

آراء