المؤتمر السوداني ولعنة منصور خالد
زين العابدين صالح عبد الرحمن
31 December, 2022
31 December, 2022
يقول ليونيدر بايندر في كتابه ( الأزمات و تبعاتها في التنمية السياسية) " أن وجهة النظر التي تلقى قبولا و اسعا هي أن السياسة كانت بالأساس أستجابة للقوى التاريخية للتحديث. أما في خارج أوروبا بأن النظرة السائدة هي العكس فليست السياسة أستجابة للتحديث و لكنها بالعكس هي سبب التحديث" و في السودان أن النخبة السياسة تعتقد أن وجودها في المسرح السياسي بهدف رغبتها لصناعة التحديث في البلاد، لكن إذا أزحنا السياسة جانبا تصبح النخبة السياسية لا تملك أي مؤهلات و أدوات لصناعة التحديث. و الدلالة على ذلك إذا مررنا على كل الأحزاب السياسية أيديولوجية و غيرها، إذا كانت تقليدية أو حديثة تجد إنتاجها الفكري و الثقافي (صفر كبير) فكيف يستطيع هؤلاء أن يخلقوا واقعا جديدا في البلاد، و مخيلاتهم لا توجد فيها أي تصورات مدعومة بإنتاج فكري. أن السياسة في السودان لا تتطلب أي معايير...!
في أواخر عقد التسعينات في القرن الماضي، كنت جالسا في جلسة ضمت الشريف زين العابدين الهندي و صديق الهندي و حسن دندش و محمد خير حسن في منزل الدكتور أحمد بلال عثمان في مدينة نصر بالقاهرة، و حضر الدكتور منصور خالد و معه الإعلامي إبراهيم عبيد، و في هذه الجلسة قلت لمنصور خالد حقيقة عندي سؤلا محيرني بعد أن قرأت نسختي (النخبة السودانية و إدمان الفشل) رغم توسيع الحديث عن فشل النخبة السودانية في تسلسل تاريخي، بدأ منذ الاستقلال حتى اليوم، إلا أن القضية ليست مرتبطة فقط بإظهار هذا الفشل، باعتباره واضح للعامة و الخاصة، و متمثل في حياة المواطن، و خذلان الأجيال في تحطيم كل الأمال التي احتضنتها منذ بداية دخولها في السلم التعليمي. اعتقد يا دكتور أنت قصدت المجاز في قضية فشل النخبة، باعتبار أن النخب السياسية لم ترتق إلي أستخدام مناهج المعرفة في دراسة ظواهر الفشل في النظم السياسية المختلفة، لذلك أصبحت ثقافة سائدة يتبعها كل من ولج إلي حقل السياسة، و تتبعها القوى السياسية بوقع الحافر على الحافر؟ قال الدكتور هذا الذي أرمي إليه أن السياسة في السودان إرث ثقافي مقدس الكل يجب أن يسير على هديه. هي لعنة منصور على القوى السياسية. كل مرة نكتشف أن النخبة السياسية في كل مرحلة لا تهتم بمعرفة الأسباب التي أدت لفشل المرحلة السابقة، بل تسير في ذات طريق الفشل.
عندما كتب الدكتور أبكر أدم اسماعيل و هو طالب ينتمي إلي تنظيم ( الطلاب المستقلين) كتابه ( جدلية المركز و الهامش قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان) متبعا فيه ( منهج التحليل الثقافي) كان الاعتقاد هو بداية جديدة لجيل يتكىء على المعرفة، و استخدام الفكر في تحقيق أهدافه، هو الطريق المطلوب الغائب في العمل السياسي، رغم أن هذا الطريق كان رائده الأول هو السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، الذي استطاع من خلال أطروحاته السياسية أن يوظف منهج الديالكتيك التاريخي في فهم الواقع و معرفة الميكانزمات المؤثرة فيه، لكن مشكلة عبد الخالق أغلق باب الاجتهاد الفكري ليكون محصورا على أفكاره وحده، الأمر الذي أثر سلبا في المراحل التاريخية للحزب. كان الاعتقاد أن حزب المؤتمر السوداني و الذي كان من قبل ( المؤتمر الوطني) أن يتبع المنحى التجديدي في العمل السياسي، بأن يجعل الفكر هو الذي يقود عملية التغيير، باعتبار أن استخدام الفكر في العملية السياسية سوف يفتح حوارا بين التيارات الفكرية المختلفة التي تمهد لخلق وعيا جديدا في المجتمع، و الذي سوف يغير الثقافة التي خلفها الإرث السياسي التقليدي، لكن للأسف أن قيادات المؤتمر السوداني فضلت أن تغوص في الإرث التقليدي لكي تحدث تغييرا من داخله، رغم أنها لا تملك الأدوات المطلوبة التي تساعدها على هزيمة تقليدية العمل السياسي الموروث، فجعلت السلطة محور أهتمامها و من خلالها تخوض تجربتها السياسية. ففكرة السلطة تصبح هي المسيطرة على تفكير الكل و تهزم كل الأفكار الأخرى، لأنها فكرة تقوم على الصراع و نفي الأخر، و هي لا تقف ضد مواجهة الخارج بل سوف تنعكس داخل التنظيم، لأن قيادة الحزب هي عتبة من عتبات الوصول للسلطة في الدولة.
أن الأخبار التي نقلت ما سمته ( صراع الأجيال) داخل المؤتمر السوداني يمكن أن يكون مسألة عادية تخضع إلي استخدام لوائح الحزب في مواجهة بعض المخالفات التي تنشأ من قبل العضوية. لكن أن يحل الحزب الأمانة العامة و تجميد عضوية عدد من القيادات، تصبح القضية ليست مخالفات للوائح بل هو صراع سياسي. حيث أشارت بعض الصحف أن إعلان نور الدين صلاح ترشيحه في المؤتمر لرئاسة الحزب هي التي عجلت بأتخاذ هذه القرارات، لكي تقطع الطريق أمام الأجيال الجديدة الراقبة في الصعود لهرم الحزب. و ربما تكون هي اجتهادات صحفية و سياسية غير مطابقة لحقائق الأشياء. لكن بالضرورة لا يستطيع المرء أن يبعد فكرة الصراع داخل المؤسسة الحزبية.
و في ذات السياق يقول بيان المجلس المركزي " إن ما حدث داخله هو ( تحديات ظل يواجهها باستمرار، مؤكدا تمسكه و تصميمه على الالتزام الديمقراطي و المؤسسي) و قد أثبت البيان أن هناك صراعا دائرا داخل الحزب، و تقديم قيادات للمحاسبة؛ يؤكد أن المواعين الديمقراطية داخل الحزب أضيق من أن تتحمل مثل هذا الصراع، لذلك قررت أن تحسمه بالائحة، و محاسبة العضوية، الأمر الذي لا يستبعد أن القيادات في قمة الهرم تريد أن تحافظ على مواقعها في قيادة الحزب. و نفى أحد القيادات التي قدمت للمحاسبة ارتكاب أي مخالفة تنظيمية. حيث قال نور الدين صلاح " أنهم لم يقوموا بارتكاب أي أخطاء تنظيمية أو مخالفات للنظام الأساسي تستدعي إحالتهم للتحقيق أو تجميد عضويتهم" حديث صلاح يؤكد أن هناك صراعا دائرا داخل الحزب، و القيادة تستلف ثقافة ( المركزية الديمقراطية من حلفاء الأمس) لكي تحسم بها هذا الصراع، و يكون إنذارا لكل عضو يحاول أن يلمس طريق الصعود إلي أعلى. و هنا يصبح العقل السياسي محصور في فكرة السلطة لذلك يضيق مواعينها، فالصراع داخل الحزب لا يختلف عن الصراع خارجه مادام الشعار المرفوع هو ( السلطة) و الذهن الذي يحصر شغله في السلطة لا يستطيع أن يؤسس إلي ديمقراطية. لآن الأخيرة كما قال محمد أحمد محجوب أن علاجها مزيدا من الديمقراطية.
أن عملية التغيير تحتاج لاجتهادات فكرية تحدد ملامح الطريق، و تضبط إقاع المسار، و تكشف الانحرافات في وقتها، و تختار الأدوات الملاءمة لكل مرحلة من مراحل التأسيس، كما إنها ترفع الوعي العام لأنه يتابع عملية البناء و التغيير وفقا لمعلومات يمتلكها من خلال عملية التثقيف الفكري، و يحاسب الآخرين على ضوئها. لكن للأسف أن القوى السياسية جميعها تعاني من غياب الفكر، و تستعيض عنه بالشعارات مما يؤكد عجزها، فالشعار لا يقدم وعيا سياسيا جديدا، و لا يختار أدوات المرحلة. لذلك ظل الفشل مختوم في ديباجة القوى السياسية السودانية. كان رهان العديد من الأجيال الجديدة على حزب المؤتمر السوداني في عملية التغيير السياسي و الثقافي في البلاد، و أن يجعل عضويته تبذل كل أجتهاد لكي تقدم الاطروحات الفكرية التي تحتاجها عملية التغيير، لكنهم أصيبوا بلعنة الدكتور منصور خالد، و جعلوا السلطة هي المغنم الذي يبحثون عنه بين حطام الوطن. نسال الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
/////////////////////////
في أواخر عقد التسعينات في القرن الماضي، كنت جالسا في جلسة ضمت الشريف زين العابدين الهندي و صديق الهندي و حسن دندش و محمد خير حسن في منزل الدكتور أحمد بلال عثمان في مدينة نصر بالقاهرة، و حضر الدكتور منصور خالد و معه الإعلامي إبراهيم عبيد، و في هذه الجلسة قلت لمنصور خالد حقيقة عندي سؤلا محيرني بعد أن قرأت نسختي (النخبة السودانية و إدمان الفشل) رغم توسيع الحديث عن فشل النخبة السودانية في تسلسل تاريخي، بدأ منذ الاستقلال حتى اليوم، إلا أن القضية ليست مرتبطة فقط بإظهار هذا الفشل، باعتباره واضح للعامة و الخاصة، و متمثل في حياة المواطن، و خذلان الأجيال في تحطيم كل الأمال التي احتضنتها منذ بداية دخولها في السلم التعليمي. اعتقد يا دكتور أنت قصدت المجاز في قضية فشل النخبة، باعتبار أن النخب السياسية لم ترتق إلي أستخدام مناهج المعرفة في دراسة ظواهر الفشل في النظم السياسية المختلفة، لذلك أصبحت ثقافة سائدة يتبعها كل من ولج إلي حقل السياسة، و تتبعها القوى السياسية بوقع الحافر على الحافر؟ قال الدكتور هذا الذي أرمي إليه أن السياسة في السودان إرث ثقافي مقدس الكل يجب أن يسير على هديه. هي لعنة منصور على القوى السياسية. كل مرة نكتشف أن النخبة السياسية في كل مرحلة لا تهتم بمعرفة الأسباب التي أدت لفشل المرحلة السابقة، بل تسير في ذات طريق الفشل.
عندما كتب الدكتور أبكر أدم اسماعيل و هو طالب ينتمي إلي تنظيم ( الطلاب المستقلين) كتابه ( جدلية المركز و الهامش قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان) متبعا فيه ( منهج التحليل الثقافي) كان الاعتقاد هو بداية جديدة لجيل يتكىء على المعرفة، و استخدام الفكر في تحقيق أهدافه، هو الطريق المطلوب الغائب في العمل السياسي، رغم أن هذا الطريق كان رائده الأول هو السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، الذي استطاع من خلال أطروحاته السياسية أن يوظف منهج الديالكتيك التاريخي في فهم الواقع و معرفة الميكانزمات المؤثرة فيه، لكن مشكلة عبد الخالق أغلق باب الاجتهاد الفكري ليكون محصورا على أفكاره وحده، الأمر الذي أثر سلبا في المراحل التاريخية للحزب. كان الاعتقاد أن حزب المؤتمر السوداني و الذي كان من قبل ( المؤتمر الوطني) أن يتبع المنحى التجديدي في العمل السياسي، بأن يجعل الفكر هو الذي يقود عملية التغيير، باعتبار أن استخدام الفكر في العملية السياسية سوف يفتح حوارا بين التيارات الفكرية المختلفة التي تمهد لخلق وعيا جديدا في المجتمع، و الذي سوف يغير الثقافة التي خلفها الإرث السياسي التقليدي، لكن للأسف أن قيادات المؤتمر السوداني فضلت أن تغوص في الإرث التقليدي لكي تحدث تغييرا من داخله، رغم أنها لا تملك الأدوات المطلوبة التي تساعدها على هزيمة تقليدية العمل السياسي الموروث، فجعلت السلطة محور أهتمامها و من خلالها تخوض تجربتها السياسية. ففكرة السلطة تصبح هي المسيطرة على تفكير الكل و تهزم كل الأفكار الأخرى، لأنها فكرة تقوم على الصراع و نفي الأخر، و هي لا تقف ضد مواجهة الخارج بل سوف تنعكس داخل التنظيم، لأن قيادة الحزب هي عتبة من عتبات الوصول للسلطة في الدولة.
أن الأخبار التي نقلت ما سمته ( صراع الأجيال) داخل المؤتمر السوداني يمكن أن يكون مسألة عادية تخضع إلي استخدام لوائح الحزب في مواجهة بعض المخالفات التي تنشأ من قبل العضوية. لكن أن يحل الحزب الأمانة العامة و تجميد عضوية عدد من القيادات، تصبح القضية ليست مخالفات للوائح بل هو صراع سياسي. حيث أشارت بعض الصحف أن إعلان نور الدين صلاح ترشيحه في المؤتمر لرئاسة الحزب هي التي عجلت بأتخاذ هذه القرارات، لكي تقطع الطريق أمام الأجيال الجديدة الراقبة في الصعود لهرم الحزب. و ربما تكون هي اجتهادات صحفية و سياسية غير مطابقة لحقائق الأشياء. لكن بالضرورة لا يستطيع المرء أن يبعد فكرة الصراع داخل المؤسسة الحزبية.
و في ذات السياق يقول بيان المجلس المركزي " إن ما حدث داخله هو ( تحديات ظل يواجهها باستمرار، مؤكدا تمسكه و تصميمه على الالتزام الديمقراطي و المؤسسي) و قد أثبت البيان أن هناك صراعا دائرا داخل الحزب، و تقديم قيادات للمحاسبة؛ يؤكد أن المواعين الديمقراطية داخل الحزب أضيق من أن تتحمل مثل هذا الصراع، لذلك قررت أن تحسمه بالائحة، و محاسبة العضوية، الأمر الذي لا يستبعد أن القيادات في قمة الهرم تريد أن تحافظ على مواقعها في قيادة الحزب. و نفى أحد القيادات التي قدمت للمحاسبة ارتكاب أي مخالفة تنظيمية. حيث قال نور الدين صلاح " أنهم لم يقوموا بارتكاب أي أخطاء تنظيمية أو مخالفات للنظام الأساسي تستدعي إحالتهم للتحقيق أو تجميد عضويتهم" حديث صلاح يؤكد أن هناك صراعا دائرا داخل الحزب، و القيادة تستلف ثقافة ( المركزية الديمقراطية من حلفاء الأمس) لكي تحسم بها هذا الصراع، و يكون إنذارا لكل عضو يحاول أن يلمس طريق الصعود إلي أعلى. و هنا يصبح العقل السياسي محصور في فكرة السلطة لذلك يضيق مواعينها، فالصراع داخل الحزب لا يختلف عن الصراع خارجه مادام الشعار المرفوع هو ( السلطة) و الذهن الذي يحصر شغله في السلطة لا يستطيع أن يؤسس إلي ديمقراطية. لآن الأخيرة كما قال محمد أحمد محجوب أن علاجها مزيدا من الديمقراطية.
أن عملية التغيير تحتاج لاجتهادات فكرية تحدد ملامح الطريق، و تضبط إقاع المسار، و تكشف الانحرافات في وقتها، و تختار الأدوات الملاءمة لكل مرحلة من مراحل التأسيس، كما إنها ترفع الوعي العام لأنه يتابع عملية البناء و التغيير وفقا لمعلومات يمتلكها من خلال عملية التثقيف الفكري، و يحاسب الآخرين على ضوئها. لكن للأسف أن القوى السياسية جميعها تعاني من غياب الفكر، و تستعيض عنه بالشعارات مما يؤكد عجزها، فالشعار لا يقدم وعيا سياسيا جديدا، و لا يختار أدوات المرحلة. لذلك ظل الفشل مختوم في ديباجة القوى السياسية السودانية. كان رهان العديد من الأجيال الجديدة على حزب المؤتمر السوداني في عملية التغيير السياسي و الثقافي في البلاد، و أن يجعل عضويته تبذل كل أجتهاد لكي تقدم الاطروحات الفكرية التي تحتاجها عملية التغيير، لكنهم أصيبوا بلعنة الدكتور منصور خالد، و جعلوا السلطة هي المغنم الذي يبحثون عنه بين حطام الوطن. نسال الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
/////////////////////////