المؤرخ يوسف فضل حسن: رصانة الكسب وجزالة العطاء .. تأليف/أحمد إبراهيم أبوشوك (2) .. تقديم: د.عبد الله الفكي البشير

 


 

 

المؤرخ يوسف فضل حسن: رصانة الكسب وجزالة العطاء
تأليف
أحمد إبراهيم أبوشوك
الناشر: الشارقة، معهد أفريقيا (نوفمبر، 2022)
***
تقديم
عبد الله علي إبراهيم
عبد الله الفكي البشير

******************
أعلنت هيئة الشارقة للكتاب اختيار البروفيسور يوسف فضل حسن شخصية العام الثقافية لفعاليات الدورة الـ41 من معرض الشارقة الدولي للكتاب (1-13 نوفمبر 2022)، الذي تتبلور رؤيته في تكريم أعلام الفكر والأدب والتاريخ، الذين شكلت جهودهم المعرفية إضافات نوعية إلى المكتبة العربية في مختلف المجالات. واستجابة لهذه الرؤية جاء اختيار يوسف، تقديراً لإسهاماته الجليلة في مجال الدراسات التاريخية في السودان، ودوره في تطوير العلاقات العربية-الأفريقية على المستوى الأكاديمي. وتثميناً لهذه الرؤية وإجلالاً لإسهامات يوسف يدشن معهد أفريقيا بإمارة الشارقة اليوم الثلاثاء 1 نوفمبر 2022 كتاباً بعنوان: "المؤرخ يوسف فضل حسن: رصانة الكسب وجزالة العطاء"، لمؤلف أحمد إبراهيم أبوشوك. وعليه يسرنا أن ننشر تباعاً تقديم البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، (2) ويليه تقديم الدكتور عبد الله الفكي البشير، (3) ثم مقدمة المؤلف؛ لإلقاء إضاءات ساطعة على محتويات الكتاب، الناظم لسيرة يوسف في فضاءاتها المتعددة، والموثوقة في جوهرها بتمكين رسالة التعليم والتعلم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع.
************

تقديم

الدكتور عبد الله الفكي البشير

[يستهل الدكتور عبد الله الجزء الثاني بقوله:] لقد عبَّر يُوسُف من خلال تحقيقه لكتاب الطبقات عما عناه لوغوف، وأشار إليه كارل ماركس (Karl Marx) (1818- 1883). كتب لوغوف، قائلًا: "لقد أزاح التاريخ الجديد النقاب، عبر دراسات عالمة ودقيقة، عن مظاهر التعبير عن السلطة في مواطن لم يتفطن إليها التاريخ التقليدي، ولم يفكر حتى في وجودها (وذلك في الرموز وفي المتخيل مثلًا)". كما أعطى التاريخ الجديد قيمة علمية لحقول كانت مجهولة أو متروكة، وجعل منها جزءًا من التاريخ، إن لم تكن محركة له، وهي "مسألة الوعي واللاوعي، فالناس يصنعون التاريخ، ولكنهم لا يشعرون بذلك، كما عبر عن ذلك كارل ماركس. وهي كل ما شمل المتخيل الاجتماعي". وفي الواقع إننا نشهد اليوم صناعة الناس العاديين للتاريخ وكتابته. وتقدم لنا ثورة ديسمبر السُّودانية المجيدة، التي اندلعت في 19 ديسمبر 2018، ولا تزال متقدة، أنصع دليل على ذلك، فها هو رجل الشارع المغمور والمرأة الثورية المغمورة، هم الذين يصنعون التاريخ ويكتبونه. وقد أشار لهذا المعنى محمود محمد طه منذ العام 1967، حينما كتب، قائلًا: "إن العبرة البالغة التي انفرجت عنها أذيال الحرب العالمية الثانية تجد تعبيرها في الحقيقة الكبرى وهي أن القافلة البشرية، في كل صُقْع من أصقاع هذا الكوكب، قد اقتلعت خيامها، وأخذت في السير، وهي، في كل خطوة من خطوات هذا السير، تصنع التاريخ وتصنعه على هديٍ جديد، وبعد أن كان التاريخ يمليه في أغلب الأحيان على تلاميذه ومسجليه، الملوك، والسلاطين، وقواد الجيوش، ودهاقنة السياسة، وأرباب الثروة، وهم يتصرفون في مصير الإنسان، أصبح يمليه عليهم الآن رجل الشارع العادي، المغمور، وهو يبحث عن كرامة الإنسان حيث وجد الإنسان".
ويمكن القول بأن اهتمام يُوسُف بالتاريخ المتخيل، والتمثل في المتخيل الاجتماعي، قد ظهر قبل تبلور فكرة التاريخ الجديد عام 1978، وذلك عندما حقق كتاب: الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السُّودان، لمؤلفه محمد النور بن ضيف الله (1727-1810)، وقد نشر يُوسُف الطبعة الأولى من تحقيقه عام 1971. وفي تحقيقه لهذا الكتاب ظهر اهتمام يُوسُف بالتاريخ المتخيل، وبما يسميه التاريخ الجديد بالأنثروبولوجيا السياسية التاريخية، كما ورد آنفًا. كتب، أبو شوك، قائلًا: "يقول يُوسُف فضل: (إن كتاب طبقات ود ضيف الله ... لهو مرآة صادقة لحياة السُّودانيين الدينية، والروحية، والثقافية، والاجتماعية، وسجل صادق لمعتقداتهم الدينية في ذلك العصر أيًّا كان رأينا فيها)". وأضاف يُوسُف بأن المؤلف ود ضيف الله "قد أرّخ لكثير مما لا يرضاه العقل ولا يقبله الدين، لكنه ترك لنا معلومات ثرَّة عن معتقدات السُّودانيين، والتي تمثل الجذور التاريخية لكثير مما هو سائد في سودان اليوم". وعلَّق أبو شوك تعليق مؤرخ حصيف، كاشفًا عن اهتمام يُوسُف بالتاريخ المتخيل، فكتب، قائلًا: "يبرز هذا الاقتباس اهتمام يُوسُف بالتاريخ المتخيل، الذي يعكس ما كان يدور في أذهان من ابتدعوا رواياته وقصصه؛ لأهداف إنسانية متعلقة بواقعهم المعيش. ولذلك ينتقد يُوسُف عدم اهتمام المؤرخين السُّودانيين (بأكاذيب الماضي)"، ويعتبر استبعادها من المصادر التاريخية نوعًا من الفراغ في المعرفة التاريخية؛ "لأنَّ ما كان الناس يتخيلونه في الماضي هو نفسه تاريخ طالما تمَّ تخيله في سياق الماضي". وأضاف أبو شوك، بأن يُوسُف أكَّد على أهمية كتاب الطبقات بوصفه مصدرًا تاريخيًا مهمًا؛ لأنه يشكل "مادة أساسية للبحوث والدراسات في مجال التاريخ الثقافي والاجتماعي والذهني، عبر تفكيك ما كان يتخيله الناس".
كذلك تجلى تناغم يُوسُف مع الثورة التي أحدثها التاريخ الجديد تجاه التاريخ الوضعي، عندما انتقد يُوسُف في العام 1980، كما أوضح أبو شوك، المدرسة الوضعية التي برز تأثيرها في أدبيات أستاذه البروفيسور مكي الطيب شبيكة (1900-1980)، وهو المتصدر، كما وصفه أبو شوك، للوحة المؤرخين السُّودانيين، بحكم أنه أول سوداني حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ في جامعة لندن عام 1949، ومرتبة الأستاذية في جامعة الخرطوم عام 1955. وأشار أبو شوك إلى أن يُوسُف يرى بأن المؤرخين السُّودانيين الأوائل قد تأثروا بالمنهج الوضعي في كتابة تاريخ السُّودان؛ لأن الوثائق الأصلية شكلت أساس كتاباتهم التاريخية، التي عضدوها بالحواشي والشروحات، وتأثر بعضهم الآخر بنظرة المدرسة التاريخانية للوثيقة ومنهج مدرسة الحوليات الفرنسية في تفسير الحدث التاريخي، بينما آثر فريق ثالث منهم الاستئناس بالأطر النظرية المستمدة من المدرسة المادية الجدلية في قراءة تاريخ السُّودان. "ولذلك اتفق يُوسُف مع محمد إبراهيم أبو سليم في أن أستاذهما مكي شبيكة قد اعتمد كثيرًا على (الوثائق التاريخية الأصلية) في كتابة تاريخ السُّودان، دون أن يعطي اهتمامًا مقدرًا للمصادر الشفوية".
وفي تقديري أن يُوسُف ظل متسقًا ومتناغمًا مع آخر التطورات والأطروحات في مجال التاريخ في العالم، بل مثَّلت بعض أعماله إطارًا تطبيقيًا، لبعض أطروحات التاريخ الجديد، قبل الإعلان عنها في الإطار النظري. ويعود هذا التناغم والاتساق، في تقديري، إلى إمكانيات يُوسُف وقدراته وسعة خياله التاريخي، إلى جانب انتمائه إلى مجال التاريخ، والتزامه الصارم نحوه، فضلًا عن مصدر إلهامه، ألا وهو بيئة التعدد الثقافي التي ينعم بها السُّودان. وفي تقديري أن أعمال يُوسُف ظلت تعلن عن الاحتفاء بالتعدد الثقافي، وتدعو للعمل على احترامه وإثرائه. ويقيني أن بيئات التعدد الثقافي، حال السُّودان، وبحكم تراكم التجارب والخبرة التاريخية، والأخيلة المتنوعة، ليست ملهمة فحسب؛ وإنما هي المأمولة والمعنية في المستقبل على تقديم مبادرات خلاقة وسيناريوهات لحلول مشاكل الإنسانية، وأنسنة الحياة. وفي تقديري، بأن قوام تلك المبادرات، لن يكون في مستوى قبول الآخر، فحسب، وإنما الخروج من الذات لملاقاة الآخر.
إلى جانب هذا العطاء العظيم في إنتاج المعرفة، والتأسيس للمؤسسات الأكاديمية ورعايتها، كانت ليُوسُف إسهامات كبيرة في مجال التدريس والتكوين وبناء القدرات في دراسة التاريخ، ولعل ما يؤكد ذلك العدد الكبير من تلاميذه وتلميذاته في السُّودان، وفي مختلف أنحاء العالم، واليوم أصبح منهم الكبار من العلماء، وقد عدد أبو شوك بعضهم. ولا شك عندي أن ليُوسُف أفضال لا تحصى على الكثير من العاملين في مجال الدراسات الإنسانية. ولقد كنت من بين أولئك الذين تقدموا في الدراسة بجامعة الخرطوم، وفي الدربة والدراية بأفضال يُوسُف. أذكر أنني أول مرة التقيتُ فيها يُوسُف، كانت في بداية تسعينات القرن الماضي، بإيعاز من أستاذي البروفيسور الحسين النور يُوسُف، الأستاذ بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، وكنت وقتئذ طالبًا بالسنة الثانية بكلية الآداب. طلب مني الحسين أن أذهب ليُوسُف لأعرض عليه بعض الأفكار وأتحقق من مدى دقتها وصحتها التاريخية. وعندما التقيته دعاني للانضمام إلى فريق عمل يعمل معه في تحقيق مخطوطة كاتب الشُونة التي أصدرها في العام 2018 بعنوان: تاريخ ملوك سنَّار والحكم التركي المصري في السُّودان. رحبت وأصبحت جزءًا من ذلك الفريق على مدى سنوات، فتعلمت الكثير الكثير. ومما يذكر من أفضال يُوسُف أنني عندما كنت في السنة الخامسة "مرتبة الشرف" بقسم التاريخ، بكلية الآداب، وقع خلاف بيني وبين أستاذتي المشرفة على بحثي للتخرج. لقد كان موضوع البحث يتناول تاريخ الإذاعة والتلفزيون في السُّودان وتعاطيهما مع التعدد الثقافي من خلال دراسة خارطة برامجهما والمساحة الزمنية، ومدى توافق ذلك مع الخارطة الثقافية للسودان. وقع الخلاف مع المشرفة، فوصلنا إلى ضرورة العمل مع مشرف آخر، غير أن رئيس قسم التاريخ أوضح لي، بحزم وحسم، بأن اللوائح، تقول بأنه إذا ما غيَّرت المشرف، لابد أن تغير موضوع البحث، وأنت أمامك أقل من شهرين. ثم أضاف، قائلًا: وعليك أن تعرف من الآن بأن القسم لن يقبل منك البحث، إذا ما تأخرت خمس دقائق عن الموعد والتاريخ المحددين للتسليم، وهذا يعني الرسوب وإعادة العام الدراسي. وافقت على هذه الشروط، ثم قال لي رئيس القسم: عن ماذا ستكتب؟ ومن الذي سيشرف عليك؟ وليس أمامك وقت كافٍ. فقلت له بأنني سأرجع لك.
ذهبت إلى يُوسُف ورويت له ما حدث، مع التوضيح لضيق الوقت، في ظل شروط لا تنقصها القسوة، فضلًا عن قابليتها لتغيير مستقبل الطالب. تأمل يُوسُف بعض الوقت، ثم قال لي أنت من قرية كريعات أليس كذلك؟ قلت: نعم، ثم قال: وهي تقع بالقرب من تمبول بشرق الجزيرة، قلت نعم، فقال: عليك أن تذهب فورًا وتدرس لنا سوق تمبول. خرجت من عنده وذهبت للبروفيسور عبد الوهاب عبد الرحيم (بوب)، أستاذ التاريخ الاقتصادي، بقسم التاريخ، حكيت له القصة، وعرضت عليه موضوع سوق تمبول، ثم طلبت منه أن يشرف عليَّ. تفهم عبد الوهاب الموقف، ورحب بالإشراف، ولكنه عبَّر عن خشيته من ضيق الوقت، ولكني أكدت له على استعدادي لقبولي التحدي، وفي الواقع لم يكن أمامي خيارًا آخر. خرج عبد الوهاب من مكتبه ورافقني إلى مكتب رئيس القسم، وبعد شرح رئيس القسم لما حدث، وتبيين التبعات، رد عبد الوهاب بموافقته على الإشراف عليَّ، ثم جدد رئيس القسم، وبنفس الحزم، شرط الالتزام بالتاريخ المحدد لتسليم البحث. وجددت من جانبي الموافقة على تلك الشروط. ثم قمت في نفس اليوم بالتنسيق مع الأساتذة الأجلاء بشأن المحاضرات، ومما سهل الأمر أني كنت أدرس لوحدي، فبت ليلتي تلك بقرية كريعات، استعدادًا للعمل الميداني لجمع البيانات والمعلومات. وبالفعل وبعون عبد الوهاب وإرشاده وتوجيهاته، أنجزت البحث، وقمت بتسليمه لرئيس القسم قبل الموعد المضروب بخمس دقائق. إن المدهش في هذا الموضوع، ليس وقوع الخلاف مع المشرفة، أو اللوائح التي حرص رئيس القسم على تفعيلها بحزم وحسم، وإنما تكمن الدهشة في الحل العبقري الذي قدمه يُوسُف بتوجيهي لدراسة سوق تمبول، الأمر الذي سهل مهمتي بصورة، ربما بدونها لا أستطيع أن أتخرج في ذلك العام 1999. ظللت على صلة بيُوسُف، استشيره واستفسر منه عن الكثير من القضايا التاريخية. كما كان المشرف على رسالتي لنيل درجة الماجستير في العام 2005.
عندما نشرت أول كتبي عن المفكر السُّوداني الإنساني محمود محمد طه، بعنوان: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، (2013)، وكان الكتاب يتكوَّن من (1278) صفحة، أتيت ليُوسُف بنسخة من الكتاب، وجلست معه في مكتبه بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية. تفحص الكتاب، ووقف عند محتوياته، ثم تصفح صفحاته، ومر على ثبت المصادر والمراجع، وقائمة الملاحق، والفهارس، ثم علَّق، قائلًا: "هذا ليس بكتاب، هذه ثورة". ثم أخبرني عن عزمه لتنظيم ندوة في جامعة الخرطوم لمناقشة الكتاب. وذكر لي بأنه لابد من الحوار حول فكر محمود محمد طه وسيرته الفكرية، وأوضح لي بأنه يحتفظ بنسخ من جل كتبه وبياناته وأعمال الإخوان الجمهوريين، إن لم يكن كلها. وأضاف بأنه كان عضوًا في لجنة حكومية لإعادة تسمية شوارع الخرطوم، وأنه من بين القرارات التي كان يحرص عليها، وقد تم الاتفاق عليها، هو تسمية أحد شوارع الخرطوم باسم محمود محمد طه. تبع ذلك أن بدأ معي، بحرص واهتمام، التفكير في وضع تصور للندوة عن الكتاب. في هذا الأثناء أتفق وأن هاتفني من لندن وأنا في الدوحة، الأستاذ محمود صالح عثمان صالح (1939 - 2014) وكان قد قرأ الكتاب، وتحدث، قائلًا: "هذا كتاب مُنصِف ومُشرّف، أنصف الأستاذ محمود محمد طه وأنصف العِلم والعلماء"، ونحن نريد أن نقيم ندوة عنه بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، السُّودان، عبرت له عن شكري وتقديري، وأشرت له لفكرة يُوسُف، فقال لي يمكن تنظيم الندوة بالتعاون بين الجامعة والمركز، أرجو أن تُخبر البروفيسور يُوسُف بذلك، ثم طلب مني إشراك صديقه الدكتور محمود شعراني (1946- 2021)، في الأمر. وقد اخبرت يُوسُف وشعراني بذلك، ثم تفاكرنا وشارك معنا الأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، مدير جامعة ود مدني، السُّودان، وتدارسنا إمكانية إقامة الندوة بالشراكة بين جامعة الخرطوم ومركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، غير أن المنية عاجلت الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، فانتقل إلى جوار ربه في صباح السبت 15 نوفمبر 2014، أظله الله بسحائب الغفران والرضوان.
قبل الختام أود أتقدم بخالص الشكر وفائق التقدير لأحمد أبو شوك على تشريفه لي بطلبه مني كتابة تقديم لهذا الكتاب. لقد أتاح لي أبو شوك الفرصة لأعبر عن بعض الوفاء للبروفيسور يُوسُف، وشيء من الاحتفاء بما قدمه من إسهامات عظيمة للسودان والإنسان. كما رفع أبو شوك عني حرج كبير، فلقد كنت أنوي كتابة ورقة عن يُوسُف منذ سنوات، غير أن عوامل عديدة تداخلت، فحالت دون ذلك. ليجيء اليوم أبو شوك فاديًا لنا جميعًا، بكتابته لهذه السيرة العامرة والزاخرة والمشرفة. لقد أنفق أبو شوك الكثير من الوقت والجهد، فجاءت كتابته، كما هو ديدنه، رصينة وصارمة في التزامها بالأسس العلمية والإتقان. وفي تقديري أن هذه السيرة عبرت بعلمية وفصاحة عن أن سيرة يُوسُف لا يمكن أن تنفصل عن تاريخ التعليم العالي وسيرته في السُّودان، كما أنها لا يمكن أن تقرأ بمعزل عن تطور الدراسات التاريخية في السُّودان، فجاء كتاب أبو شوك شاملًا لسيرة يُوسُف، ولتطور الدراسات التاريخية في السُّودان، ولتاريخ التعليم العالي وتطوره في السُّودان. كانت كتابة أبو شوك ممزوجة بالمحبة والاحترام ليُوسُف وللسودان والعلم، واشتملت على كم هائل من المعلومات والأخبار والبيانات والوقائع عن منصة التأسيس للتعليم العالي في السُّودان، فأرخ عبرها لمسار جديد في كتابة السِّير العامة في السُّودان.
ختامًا ونحن نحتفي بالبروفيسور يُوسُف، عبر هذه السيرة العامرة والعالمة، والتي أتحفنا بها أبو شوك، لابد من استدعاء والدة يُوسُف، لتكون حضورًا بيننا. فهي التي حفَّزت ابنها يُوسُف، وغرست فيه الشعور بالتحدي، ورسمت له طريق التميز وليس النجاح، حينما رُفض قبوله بمدرسة عطبرة الأوليَّة الشرقية للبنين، وأعتقد يُوسُف، كما أوضح لوالدته، بأن السبب ربما يعزى إلى صغر حجمه وقصر قامته. فردّت عليه والدته، كما أورد أبو شوك، قائلة: "القصير يطول"، فسألها يُوسُف: "كيف يطول القصير؟"، فأجابته قائلة: "يطول بالفرحة". وَلَّدت هذه العبارة البسيطة، كما ذكر أبو شوك، "في نفس يُوسُف شعورًا حافزًا، ظل يلازمه في كل مراحل حياته". وبالفعل قد طال يُوسُف بالفرحة، وكانت تلك المرأة في رؤيتها، وفي رهانها على ابنها، يُوسُف، وقد تحقق ما تنبأت به، متجاوزة للنظم المتبعة ومتقدمة عليها، فكانت هي العالمة، وليست الأمية، تعلمت وتخرجت في مدرسة الحياة، وفي هذا يقول الأستاذ محمود محمد طه: "الحياة أصدق من العلم"( ).

ahmedabushouk62@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء