المجلس العسكري يقف عاريا وحده كما ولدته أمه!
منذ مولد الثورة كانت تساور الكثير من المراقبين لأوضاع السودان شكوك عميقة أن يكون المجلس العسكري الانتقالي، المكون من قوات الدعم السريع وجنرالات جهاز الأمن من الدرجة الثانية وجنرالات الجيش الذين تخطتهم كل القيادات السابقة على مدى ثلاثة عقود، هو الحاضنة المناسبة لثورة شبابية عارمة تريد بناء سودان جديد شعاره: الحرية والسلام والعدالة. فهي الثورة الأعظم منذ استقلال السودان قبل نيف وستين عاماً، وهي بداية تاريخ جديد لكل افريقيا. كيف لقوات الدعم السريع التي تبيع دماء أبناء عشيرتها في سوق النخاسة بثمن بخس دراهم معدودة داخل السودان وخارجه، والتي تنكرت لأبناء عمومتها فكبلتهم بالقيود والأغلال وساقتهم سوق البهائم لحاكم الخرطوم في داره يزدادون بذلك كيل بعير. أنّى لهؤلاء أن يعرفوا معنى ثورة تنادي بالحرية والسلام والعدالة لكل الناس؟ وكيف لجنرالات الأمن الذين جندتهم الإنقاذ من صفوف الجامعة الأولى ودربتهم على جلد وتعذيب وقتل زملائهم وأساتذتهم من أجل استدامة سلطة اختطفها شيوخهم من غير هدى ولا كتاب منير، وتربوا على ذلك طيلة حياتهم حتى أصبحوا شيوخا في فنون التعذيب والنهب والغدر حماية لنظام حزبي فاسد ومستبد. كيف لهؤلاء أن يدركوا قيمة الكرامة الإنسانية والحرية التي فطر الله الناس عليها منذ بدء الخليقة؟ والذين تبقوا من قيادات الجيش السابقة، بعد أن عبرت من فوقهم كل سنتين أو ثلاث هيئة أركان مشتركة جديدة قد تكون لها بعض من مزايا بذل أو إنجاز، أما من تبقوا من القيادات فهم المستوى الأدنى في تاريخ الجيش السوداني من فصائل النطيحة والموقوذة وما أكل السبع، ولا طعم لهم ولا لون ولا رائحة ذكية، ولم يسمع بهم معظم أهل السودان إلا بعد تشكيل المجلس العسكري الانتقالي.
وقد سبق لهيئة أركان مشتركة أن رفضت بالإجماع ضم قوات الدعم السريع للجيش السوداني لأنهم غير منضبطين في سلوكهم المهني ويمثلون عشيرة عرقية ولا يتقدمون لمشاركة عسكرية إلا بعد أن يدفع لهم الثمن مقدما، وقبل الرئيس المخلوع بقرار هيئة الأركان وضم تلك القوات لجهاز الأمن الوطني. أنّى للقيادة العسكرية الحالية المتسترة بالدعم السريع أن تسد ثغرة قيادات الجيش السوداني المشهودة؟ ورغم توالي المؤشرات المنذرة برائحة مؤامرة قادمة من قبل المجلس العسكري إلا أن مثالية قيادات الثورة وبراءتهم غلبت حسن الظن عندهم بالمجلس العسكري، لعل قارورة الشخصية السودانية العميقة ما زالت تحتفظ ببقايا عطر قديم يمت بصلة للمروءة والشهامة السودانية التي تأبى الغدر والنفاق والكذب. ولكن هيهات حتى وقعت المذبحة الدامية في فجر يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان بقوات مكثفة من الدعم السريع ومن وحدات جهاز الأمن السرية التي أنشبت أظافرها الدموية غدرا على شباب عزل نيام فقتلت من قتلت وأصابت بالرصاص الحي من أصابت وأحرقت الخيام على من فيها، بل وأخذت من استطاعت لتلقي بهم في النيل مكبلين بالقيود ومربوطين بحجارة ثقيلة حتى يقضوا حتفهم في قاع البحر بقصد اخفاء معالم الجريمة الشنعاء؛ وهذا ما لا تفعله حيوانات أهل السودان دعك من نسائها ورجالها الأشاوس. وأصدر المجلس العسكري بيانا متهافتا في تفسير المذبحة لا يقبله أكثر الناس جهلا وغباءً، لكنه كشف بجلاء عن تواطؤ رئيس المجلس العسكري في الخطة التي وضعت خارج حدود البلاد. وأهل السودان لا يحتاجون إلى دليل لمن ارتكب المذبحة فقد شهدوا المسرحية من أولها إلى نهايتها وهي مصورة وموثقة بالصوت والصورة في فيديوهات لا حصر وسيشهدها كل العالم في وقت قريب حين يتم ترتيبها بصورة إعلامية مناسبة. ولا يستحي رئيس المجلس العسكري أن يستجيب متعجلا لبرقية وصلته من بعض صغار موظفي الخارجية السعودية بأن يستأنف التفاوض مع قوى الحرية والتغيير فورا، وكان قد أعلن في بيانه الأول أن التفاوض قد توقف وأن البرنامج الجديد هو تكوين حكومة تصريف أعمال للفترة الانتقالية وأن الانتخابات العامة ستجري في ظرف تسعة أشهر. وكان أصل الحكاية أن القرار باستئناف التفاوض قد صدر من الخارجية الأمريكية إلى الخارجية السعودية ثم إلى الخارجية السودانية، فبلع حاكم الخرطوم برنامجه واستجاب للمرسوم السعودي بعد ساعات من تسلمه! هل هؤلاء هم قيادة المؤسسة العسكرية التي نعرفها؟ من أين جاء هؤلاء؟ وإن كان الأمر يقضى هكذا فما معنى المفاوضات العبثية التي كانت تدور لأسابيع عددا حول تفاصيل التفاصيل، ويتم الاتفاق بعد مخاض عسير ثم تأتي المذبحة لينقض المجلس العسكري المفدى على كل ما تم الاتفاق عليه ويعلن البرنامج الجديد الذي استوحاه من استشاراته السرية في مصر والسعودية والامارات العربية! لا أكاد أصدق أن المؤسسة العسكرية العريقة قد خلت من الضباط والرجال الذين يمثلون التقاليد العسكرية السودانية النبيلة ويتصرفون بكرامة وشهامة تليق بأهل السودان. هل تذكرون الضابط السوداني الشهم الذي قاد الوحدة السودانية دفاعا عن الكويت حين هدده العراق بالغزو في الستينيات من القرن الماضي، وعندما أوشكت الوحدة على مغادرة مطار الكويت للخرطوم قام أحد المسؤولين الكويتيين بتوديعهم فردا فردا وسلم كل واحد منهم ظرفا ممتلأ بالنقود (الماخمج). خاطب الضابط السوداني قائد الوحدة المغادرة بحزم لا يخلو من نبرة غضب: عساكر انتباه، ضع الظرف على الأرض، يمين دور، تحرك على باب الطائرة السودانية المغادرة. وكانت الاستجابة فورية وبانضباط كامل لا يشوبه أي تردد! وما زال أهل الكويت يذكرون تلك الحادث بإعجاب ودهشة لأنها لم تتكرر من أية وحدة عربية أخرى. هل انقرض أمثال هؤلاء بسبب عبث الحكومات العسكرية بالجيش وتقاليده وروحه المعنوية العالية؟
ويستعجب المرء أن التراتيبية العسكرية التي تسود في كل القوات النظامية مختلة تماما في حالة قيادة المجلس العسكري، إذ أن رئيس المجلس الذي يمثل المؤسسة الأم يجلس حبيس مكاتبه الضيقة في حين أن نائبه (زعيم المرتزقة) يصول ويجول في كل أنحاء العاصمة والمدن تتبعه عشرات العربات ويتصرف وكأن البلاد قد دانت لأمره! وأحسب أن مؤامرة المجلس العسكري ضد الثورة السودانية قد انكشفت تماما بعد ساعات قليلة من بدايتها وقبل أن تستكمل حلقاتها وتتضاعف خسائرها وتداعياتها، وهذه مكرمة لها لأنها كشفت أعداءها الحقيقيين الذين ظهروا بوجوههم القبيحة أمام الملأ دون مكياج يغطي سوءتهم: وهم قوات مرتزقة الجنجويد التي تسمى بالدعم السريع التي اصطنعها الرئيس المخلوع لتحميه شخصيا عندما تضييق به المخارج، وفات على المخلوع أن الذي يحارب من أجل الارتزاق يتحول إلى حيث يكون العائد أكبر فهو لا مبدأ له ولا قضية، فكيف ينحاز إلى طرف خاسر؟ والعدو الثاني هو وحدات جهاز الأمن السرية التي ترتبط ببعض قيادات المؤتمر الوطني وتأتمر بأمرها. وهاتان قوتان ضد الحرية وضد الديمقراطية والتعددية الثقافية ولا ينبغي أن يكون لهما أدنى وجود في نظام يريد الحرية والسلام والعدالة. ينبغي اجتثاث هاتين القوتين من جذورهما فلا مكان لهم تحت ظل الثورة السودانية التي تمثل الأمل والمستقبل لهؤلاء الشباب الذين التفوا حولها بقوة وجسارة لا حدود لها.
ورد الفعل الذي قامت به قوى الحرية والتغيير هو الرد الأنسب في هذا الوقت: وقف المفاوضات السياسية مع المجلس العسكري الذي ظهرت عورته للكافة والذي ما عاد يمثل الجيش السوداني الذي نعرفه؛ إعلان العصيان المدني المفتوح في كل أنحاء البلاد حتى تتحقق أهداف الثورة كاملة غير منقوصة؛ رفض البرنامج المدلس الذي أعلنه المجلس العسكري بإقامة انتخابات عامة في ظرف 9 أشهر وتكوين حكومة تصريف أعمال لفترة ما قبل الانتخابات القادمة. في هذه المرحلة تصبح التحركات الخارجية على مستوى الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وهيئة الأمم المتحدة في غاية الأهمية بالنسبة لقيادة قوى الحرية والتغيير، لأن القرارات الخارجية ستزيد من عزلة المجلس العسكري التي وصلت الحضيض داخل البلاد. ولا بد على العمل بكل جهد لإنجاح الاضراب السياسي والعصيان المدني في كل أنحاء البلاد بذات الدقة والكفاءة والتنظيم الذي جرت به فعاليات الثورة طيلة الشهور الماضية، ويجب أن يستمر العصيان إلى مدة ثلاثة أو أربعة أيام إلى ما بعد إجازة العيد حتى يعلم المجلس العسكري علم اليقين إلى أين يتوجه حين يريد لقاء قيادة الثورة السودانية العظيمة. فهي لن تأتيه في مكاتبه هذه المرة، ولن تتفاوض معه مباشرة، ولن تقبل بأي تمثيل داخل المجلس لقوات الدعم السريع ووحدات جهاز الأمن السرية التي اشتركت في مذبحة المعتصمين العزل. وتلك قصة أخرى لم يأت وقت الحديث عنها بعد.
altayib39alabdin@gmail.com
//////////////////