المحنة العربية المركزية

 


 

عمر العمر
20 November, 2023

 

على دروب النضال من أجل الحرية ،الاستقلال والسيادة بذلت شعوب عديدة تضحيات متباينة . ذلك البذل اشتمل على معايشة أشكال من التعذيب و التهجير . لكنما لا سيرة شعب تشابه ملحمة البذل ، الصمود والبقاء كما كما الفلسطينية .فعلى مدى عشرات العقود تتوارث أجيال أعباء كتابة حكايات يومية يتماوج في نسيجها إلى جانب الدم ،الفداء ، العطاء ممارسة الحياة العائلية على سفافيت التعذيب والإضطهاد تحت وطأة الاحتلال . في هذا النسيج الفريد تتشابك خطوط انسانية مبهرة مع أخرى داكنة من التواطؤ ، التآمر. كما تتقاطع فيها حقائق التاريخ مع الميتافيزيقا ، لعبة السياسة مع قوة السلاح ، الرهان على فرضيات الواقع أو تصورات الوهم .

*****

عديد من الشعوب ذاقت ويلات التهجير ، قساوة حياة معسكرات اللجوء، مرارات تجارب المنافي مع نوبات الحنين إلى دفء العشيرة المبعثرة ورائحة الوطن .ربما التفرد الفلسطيني الصارخ في هذه السيرة يتجسد في مخطط الاقتلاع الممنهج وعمليات التهجير الجماعي بحلقاته المنجزة على حيز زماني قياسي دون مثيلاتها ،والمستهدفة لا تزال . هو تفرد يزداد توهجاً بالاستماتة الفلسطينية في القبض على ذرات الأرض و جذور الشجر وجزع التاريخ مقاومة صنوف الضغوطات والإغراءات.غزة هي الحلقة الراهنة لكنها ليست ليست الأخيرة في ملحمة الصمود والبقاء.

*****

فطوال هذه العقود من السنين ظل الفلسطينيون يتأرجحون وسط تيارات من المحن القاسية تنشط دونما تهوي بهم في درك الحرب أو تنأى بهم إلى مرافئ السلام. فقط هم محمّلون بأثقال من دفاتر الخسارات الفادحة في البشر ، الشجر والحجر ومثلها كراسات من التذكارات الفاتنة والأحلام الخائبة المنقوشة (غرانيكا) بلا حدود على امتداد الوطن العربي، بل جهات المعمورة الأربع. استثمارا لوعد ميتافيزيقي استنفرت عواصم وشخصيات غربية قواها من أجل زرع اسرائيل في قلب العالم العربي .في ذلك الجهد صبت باريس،لندن وبرلين ثم واشنطن جهودا متباينة بغية تسديد فواتير أو تحقيق مكاسب أو إنجاز المهمتين معاً.الذاكرة العربية الجمعية تجتر فقط وعد بلفور.

*****

مقابل ذلك الاستنفار من أجل اليهود طرحت الجهات ذاتها عروضا تتراوح بين الإغراء والتحريض بغية اقتلاع الفلسطينيين وتهجيرهم .التاريخ يشير بأصبع الإتهام إلى الجنرال الفرنسي نابليون بإثارة المسألة اليهودية ثم رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون بتقديم وعود اقتصادية للسلطان العثماني في العام ١٨٤١ مقابل السماح لليهود بالهجرة ألى فلسطين كما حض السلطان على تهجير الفلسطينيين إلى شمال العراق. لكن بنيامين دزرائيلي ذهب أبعد من بالمرستون في دعم اليهود ربما كونه الوحيد بين رؤساء الحكومة البريطانية يهودي الإنتماء. شمال العراق نفسه استهدفته الإدارة الاميركية في العام ١٩٩٤ وجهة لتهجير الفلسطينيين ، إذ أغرت واشنطن بغداد برفع الحصار مقابل قبول استقبال ساكني مخيمات لبنان في الشمال .تلك خطوة استهدفت تفكيك الضغوط المتكاثفة على اسرائيل في شأن حق العودة.

*****

الذاكرة الشعبية القومية محشوة بالعديد من الأسماء العربية والغربية على نحو مرتبك ومربك.فالجميع يذكر الشريف حسين ،الملك حسين ، الملك عبد الله وخادم الحرمين عبدالله،عبد الناصر والسادات،عرفات ورابين،كامب ديفيد وأوسلو، شاوسسكو والشاه القضية العربية المركزية والوطن البديل،شارون والجميل، الحرب والتطبيع ،الأرض مقابل السلام، اختراق الحاجز النفسي وبناء الجدار العازل. الكفاح المسلح والعمل الإرهابي ، .نظام عالمي جديد وفوضى خلاقة.لكن تباين الرؤى يغلب التوافق ازاء كل هذه الأسماء و المصطلحات .لذلك كله ليس مستغربا سقوط العقل السياسي العربي ملتبسا تجاه أحدث موجة التهجير الدامية الراهنة في غزة. هي العقلية ذاتهاالمرتبكة في سوريا ، اليمن ، العراق كما السودان.

*****

هذا الارتباك المكين غيّب عمداً إضاءات عربية بناءة، منها تحريض عبد الناصر الملك حسين قبيل مغادرة الخرطوم على كسر اللاءات الثلاثة بالسعي لمفاوضة الإسرائيليين حتى إذا اقتضى ذلك (تقبيل أيدي الاميركيين )من أجل استرداد الضفة وغزة استباقا لما سيفعله اليهود فيهما.هذه الرواية لا تعكس فقط نفاذ رؤية ناصر بل تبلور انموذجا لتحرير العمل السياسي من القوالب الجامدة.هو السقوط الملتبس غير القادر على التقاط تحذير وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر لاحقا من خطورة تداعيات المستوطنات أمام كل جهود للسلام .هو الالتباس مغمض العينين عن تدافع الميليشيات عابرة الحدود لجهة الرافدين أو النيلين.فجميعهم عقبات أمام السلام.

*****

خيال مصممي ومنفذي ( طواف الأقصى ) لم يبلغ حتما العودة الآمنة دعك من اقتياد عشرات الأسرى. ربما هي مهمة انتحارية جماعية. ذلك ليس هو النجاح . قطفة الحصاد في العملية هوهز شجرة الكيان الإسرائيلي ، حتى فقدان الثقة بتفوقه العسكري و أمنه الجاذب ليهود الشتات . الإخفاق ليس فقط فيما تتعرض له غزة من التوحش في التقتيل والتدمير -ذلك وبال تقاصرت دونه توقعات المصممين - بل في انكشاف ضياع (القضية المركزية) العربية.فكل شعب عربي منشغل حاليا ب محنة قطرية بدلا عن القضية القومية المركزية .لذلك يغلب العجز على الفعل تجاه المذبحة وعمليات التهجير القسرية تحت فوهات القصف الجوي والأرضي .ربما أمسى العيش في الملاذات الطارئة ظاهرة عربية قومية معاصرة وسط المحن القطرية!

 

aloomar@gmail.com

 

آراء