المدن في السودان (2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

المدن في السودان (2)
Towns in the Sudan (2)
Robert S. Kramer روبرت كرامر
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من الفصل الأول في كتاب "Holy City on the Nile: Omdurman during the Mahadiyya, 1885 - 1898 مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية، 1885 – 1898م"، والذي أعمل الآن على ترجمته كاملا.
ويعمل البروفيسور روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، ونشر - منفردا وبالاشتراك - عددا من الكتب والمقالات عن تاريخ السودان، خاصة في عهد المهدية، وعن الطريقة التيجانية في غانا.
********** *********** ********
يقع في غرب النيل إقليم كردفان الواسع، الذي تسكنه العديد من المجموعات العرقية والقبائل. وتشمل تلك المجموعات من العرب (الأبالة) الرَحّالة في الشمال، و(البقارة) في الجنوب، وغيرهم من المزارعين المستقرين والتجار (الجلابة) الذين هاجروا لكردفان من مختلف مناطق السودان النيلية. وفي مناطق جنوب كردفان الجبلية تعيش قبائل النوبة، وهم يختلفون عن العرب عرقيا ولغويا. وقامت في جزء من جبال النوبة مملكة تقلي المستقلة، والذين دخل سكانها في الإسلام واتخذوا من العربية لغة لهم في القرن السابع عشر الميلادي، وأقاموا علاقات تجارية قوية مع سنار. وأخيرا، ونتيجة لتصاهرهم مع الفونج، صار أفراد طبقة النبلاء في تقلي ينسبون أنفسهم للفونج. ومن ناحية سياسية، كان مشائخ (منجلوك) العبدلاب في قري يمارسون بعض السلطات على قبائل كردفان الرَحّالة في بدايات القرن الثامن عشر، رغم أن بعض عناصر الفور والفونج كانت قد بدأت في غالب ذلك القرن تحاول السيطرة على كردفان. وكان أثمن ما كان يتم حوله التنافس والصراع هو تجارة المسترقين والصمغ العربي والذهب، التي كانت تمر عبر مدينتي الأبيض وبارا، واللتان كان التجار المهاجرون من الدناقلة والقبائل النيلية الأخرى قد أقاموها حديثا. وأفلح أخيرا تيراب سلطان دولة كيرا في عام 1782م في هزيمة كردفان، وظلت كردفان تحت سيطرة الفور لأربعين عاما، حتى نجح الدفتردار محمد بك خوسرو الدرملي في ضمها للسودان التركي – المصري في عام 1821م9.
وزار التاجر النمساوي اقنيتيس بالمي كردفان بين عامي 1838 – 1839م وكتب مذكراته عن أيامه مستكشفا وسائحا في مختلف مناطقها. وقال الرجل إن مدينة الأبيض تتكون من عدة قرى، تتشابه في المنظر والتنظيم وكل شيء آخر تقريبا. (يجب ملاحظة أن بالمي لم ير مدينة الأبيض الأصلية، إذ أن الدفتردار قد كان دمرها تماما، وما رآه بالمي كان المدينة بعد إعادة بنائها). ولم تكن هنالك مسافات كبيرة تفصل بين كل قرية وأخرى في الأبيض. وكانت بكل قرية بالأبيض عدة أحياء، يسكن كل حي منها أهل قبيلة معينة. فمثلا يسكن الدناقلة وغيرهم من القبائل النيلية الأخرى والتجار "الأجانب" حي (وادي نجيلة)، وهؤلاء هم سكان الأبيض الأصليون، وكانوا يعرفون بـ "الأورطة" (وتعنى "المعسكر" أو " بلد الترك"). وكانت الأورطة تتألف من مباني الحكومة وثكنات الجنود، وسكن الضباط، وترسانة الأسلحة، والمستشفى، إضافة إلى سوق المدينة، ومقهى وحيد (لا يغشاه السودانيون، ولكنه يعد متنفسا لا غنى عنه للضباط الأتراك). وهنالك أيضا (وادي صوفي) الذين يسكنه الزنوج الذين هاجروا مع الملك/ المقدوم مسلم (آخر حاكم دارفوري لكردفان)، وحي "التكارير" الذي يقطنه حجاج مناطق غرب أفريقيا، مثل البرنو، وأحفاد محمد أبو مدين، الذي كان يطالب بعرش دارفور، والكنجارة، الذين هاجروا من دارفور واستقروا بالمدينة، و"المغربيين / المغاربة" (وهو اسم "غير دقيق" لمن بقي من جنود الدفتردار، أو الآتين من المغرب أو شمال أفريقيا على وجه العموم). وأشار بالمي إلى أن المجموعة الأخيرة قامت بتشييد أماكن سكنها بنفسها دون الاعتماد على الثكنات الحكومية. وقدر الرجل أن عدد سكان الأبيض (من غير العسكر) كان نحو 12,000 نسمة. ولا بد أن عددا كبيرا من هؤلاء كانوا من المسترقين، إذ أن بالمي قد سجل في مذكراته أنه كان يرى "الرقيق في كل بيت". وكتب أيضا أن بالأبيض خمسة مساجد، وكان من بينها مسجد واحد مبني بالطوب رآه في "حي تجار الدناقلة". وكانت البيوت في الأبيض عبارة عن قطاطي دائرية مبينة من الخشب والقش، أو مبنية بالطين وذات أسقف مسطحة. غير أنه رأى في الأبيض وبارا عددا من المنازل الواسعة الأفنية يقطنها الدناقلة أو الأتراك. وأورد أيضا أن المنازل في بارا (حيث كان يكثر التبادل التجاري مع مناطق أجنبية بعيدة) أفضل بناءً من تلك التي في الأبيض. وكانت دار مدير كردفان في الأبيض دارا متواضعة البناء، فقد شيدت بالطين (لعدم توفر مواد أخرى)، ولكنها كانت أوسع وأكثر راحة من بقية بيوت المدينة. وكانت كلمة "الترك" في كتابات بالمي تشمل المصريين من المسلمين والأقباط، مع شراكسة الإمبراطورية العثمانية (الذين كان مدير كردفان واحدا منهم في ذلك التاريخ).
وكان سوق المدينة مجاورا لمباني الحكومة، وكان مقسما بحسب ما كان معروضا فيه من بضائع. ففي جانب من السوق تجد الأنعام (الجمال والضأن والبقر الخ) معروضة للبيع، وفي جانب آخر تجد الحبوب والمحاصيل الزراعية الأخرى، وتجد في موقع آخر في السوق "سوق القش والحطب" و"سوق الماء". وفي جزء مخصوص آخر تجد تجار المناطق النيلية وقد جلبوا البضائع المستوردة من القاهرة. ويوجد في طرفي السوق مكان مخصص للنساء اللواتي يعرضن منتجات الألبان المتنوعة والدهن والفواكه والبيض وأقداح التبغ والشيشة (التي لا بد أن تكون من مشغولاتهن اليدوية). وهنالك الباعة المتجولون الذين يتاجرون في الملابس المستعملة والأغراض المنزلية الأخرى، والتي تباع بنظام "المزاد العلني". وبالإضافة لكل ذلك فهنالك سوق للمسترقين يقام يوميا، يعرض فيه من تم استرقاقهم وجلبهم من النوبة وآخرين من غير – المسلمين على وجه العموم. ويرتبط هذا السوق بسوق آخر أكبر لبيع المسترقين في القاهرة.
ورغم أن رأي بالمي في الأبيض كان في غالبه سلبيا، إذ وصفها بأوصاف مستقبحة مثل "مملة" و"كئيبة" ومُغِمّة"، إلا أنه رأى فيها جانبا إيجابيا وهو احتشاد أناس من أعراق وبلدان مختلفة، بعضها بعيد جدا مثل تمبكتو وبلدان أفريقيا الزنجية المجهولة تماما للأوربيين. واستفاد الرجل – كما ذكر- من معرفته بـ "تعقيدات الأشياء" في السودان. فقد لاحظ شدة تدين الدناقلة بالمدينة والتزامهم الصارم بأداء الفروض الدينية، وفي ذات الوقت "ولعهم الشديد بالبراندي"11.
وإلى الغرب من كردفان تقع منطقة دارفور التي ظل يحكمها سلاطين الكيرا منذ منتصف القرن السابع عشر، ولم تسقط إلا في عام 1874م باسم الحكم التركي – المصري للسودان. وكان السلطان عبد الرحمن قد أنشأ في عامي 1791 و1792م عاصمته في الفاشر، شمال شرق أرض الفور بجبل مرة، في وقت "ازدادت وقويت فيه تأثيرات القوى الداعية للمركزية والأسلمة". وذكر أحد المؤرخين أنه "بالنظر إلى وضع السلطان، فإنه من المنطقي أن يستتبع ذلك طبيعيا أن تكون الفاشر هي المركز الجغرافي (الفيزيائي / المادي) لسلطنة الكيرا، أو مقر السلطان، والتي كان تصميمها يبرز بوضوح واختصار مفيد النظام الروحي والسياسي بالدولة. وعلى الرغم من أن الفاشر "ظلت في أغلب الأحوال مصممة لتكون مقرا للحاكم الروحي" إلا أنها تغيرت لدرجة ما لتقابل احتياجات النظام الإسلامي الجديد". وكما كان هو الحال في سنار وأربجي، فلم يكن المركز التجاري لدارفور في العاصمة الفاشر، بل كان في مدينة أصغر هي كوبي إلى الشمال، وكانت هي بداية "درب الأربعين" عبر الصحراء إلى أسيوط بمصر. وكان ذلك هو الطريق الصحراوي الذي تسلكه القوافل وهي تحمل بضائع التجار وبضائع السلطان الذي كان مثله مثل حاكم سنار، يحتكر التجارة في بضائع بعينها، ويجمع أيضا المكوس المفروضة على بضائع أخرى.12
وكان الرحالة البريطاني وليام جورج براون قد جاء لكوبي مع قافلة أتت من مصر في عام 1793م، وقضى بدارفور ثلاثة أعوام قبل أن يعود لمصر بذات الطريق. ووصف الرجل كوبي لاحقا في كتاب أصدره بأنها "المقر الرئيس للتجار الأجانب في دارفور" وبأنها "تمتد طولا لما يزيد قليلا عن ميلين، وعرضها ضيق جدا، وأنها تتكون من منازل واسعة ذات أسطح مسطحة، وتجاور الحقول الزراعية". وتحيط بكوبي من الجهات الأربع قرى تعتمد عليها، كان اسم واحدة منها هي "حلة حسن"، وقد سميت على اسم كبير تجار القوافل (حسن ود ناصر). وكان كل سكان القرية من الدناقلة. وليس من الواضح إن كان سكان القرى الثلاث الأخرى من قبائل أو عرقيات معينة. غير أن براون ذكر أن غالب تلك القرى تكاد تخلو من أي منازل للفور، إذ أن كل سكان كوبي كلهم تقريبا من التجار والأجانب. وكان هؤلاء التجار السودانيون من رجال القبائل النيلية (الدناقلة والمحس وآخرين من القبائل التي تعيش جنوبا حتى سنار)، إضافة إلى أعداد أقل من تجار صعيد مصر، وعدد أقل منهم من التونسيين ومواطني طرابلس، وآخرين من جنسيات أخرى.
وكان مجتمع التجار في كوبي مكتفيا بنفسه، ومنغلقا، وكانوا يتحدثون بلغتهم النوبية أو العربية، ولا يتحدثون بلغة الفور، ولا يتزوجون منهم إلا نادرا جدا. وكان يعقد سوق مرتين في الأسبوع في خارج المدينة تباع فيه كل أنواع المؤن. وأحصى براون خمس مدارس في كوبي لتعليم أبناء التجار (زائدا أبناء المحتاجين) الكتابة والقراءة والقرآن ومبادئ الدين. وفي الفترة التي قضاها براون في كوبي وجد أن بها مسجدا واحدا، وقاضٍ واحد درس بالقاهرة في الأزهر كان قد أتاهم من سنار13.
ووجد براون في دارفور مدنا أخرى، منها "صيواني"، وهي محطة في طريق القوافل تجمع فيها المكوس، ومنها تتحرك القوافل المتجهة شمالا. وهي كذلك مكان لتخزين البضائع. ومن المدن الأخرى مدينة "كبكابية"، وهي مدينة كبيرة تسكنها قبائل مختلفة وأعراق متباينة، وتعد معبرا لقوافل التجارة في الغرب، ومدينة "الريل" وهي ملتقى طرق، ومركز تجاري للقوافل، وتقع على الحدود الجنوبية الشرقية مع كردفان. وبالإضافة إلى ذلك كانت هنالك مدن أصغر (مثل كرما وشوبا وجديد)، وهي مدن صغيرة يقطنها خليط من أفراد القبائل النيلية العاملين بالتجارة، وسكان محليون، وهي أيضا مستوطنات للشيوخ (الفكيا) الذين منحهم السلطان أَراضٍ ليقيموا عليها مساجد ومدارس دينية (خلاوى) لتدريس علوم الدين. وربما بلغ عدد تلك المدن الصغيرة نحو ثمان إلى عشر مدن، يقطنها عدد كبير من السكان.
وهنالك بالطبع قرى كثيرة في دارفور، كان عدد سكان أكبرها لا يتجاوز بضع مئات من السكان. ولم تكن المساكن في كل مدن وقرى دارفور تختلف كثيرا عن بعضها البعض. فكل بيوتها طينية، ومستديرة الشكل أو مربعة، وذات أسقف مسطحة، وأمام كل واحدة منها "زريبة" من الأغصان الشوكية لحفظ البهائم. وقدر براون عدد سكان الإقليم بنحو 200,000 نسمة، وعدد سكان كوبي (واحدة من أكبر المدن الدارفورية عددا) 6,000 نسمة، غالب هؤلاء من المسترقين.
وزار المستكشف الألماني جوستاف ناختقال دارفور في عام 1874م، أي قبل فتح دارفور. وجاء ما سجله ناختقال مؤكدا لما ذكره براون، وشارحا لتكوين مستوطنة كوبي بالقول بأن "أولاد النهر (البحر) قد هاجروا بصورة تدريجية، وأقاموا في مجموعات بمعسكرات (زرائب) مختلفة بحسب قبائلهم وفروعها". ومع تزايد أعدادهم وتكاثر ثرواتهم، بدأوا في بناء منازل أكبر، وجلبوا آخرين للإقامة معهم. وغدا سكان البيوت يحددون بحسب مناطقهم الأصلية، ولكن ليس في كل الأحوال بالطبع". لذا يمكن القول بأن خليطا من القادمين من المناطق النيلية هم من أسسوا قرى كوبي (ولكن "دون أثر لأي شيء يمكن أن يسمى شارعا"، كما كتب ناختقال متحسرا). وبعد فترة ارتحل ناختقال إلى الفاشر، الواقعة في وادٍ مليء بالأشجار، والتي تبدو من عَلٍ وكأنها "زرائب / معسكرات" منفصلة، كل واحدة منها بها بيت من الطين، وخمس إلى عشر من قطاطي من القَشّ. وكان من الملائم له أن يقيم – مع رفقاء رحلته – في حي الجلابة، في نهاية الجانب الشمالي الشرقي من المدينة. وإلى الشمال من ذلك الحي كانت هنالك قرية البرنو والكوتكو Kotoko، وهم من القبائل السودانوية في وسط أفريقيا. ولم يكن من المستغرب أن يكون أقل عدد من السكان في دارفور هو حول فاشر السلطان. "وكما هو الحال في أغلب الأحايين، وفي مقرات السلاطين في هذه البلدان، نمت تلك المدن وتوسعت، مما أضطر معه المسؤولون والقادة المقربون من البلاط السلطاني أن يقيموا لأنفسهم دورا (زرائب) في معسكرات متباعدة حول قصر السلطان، وأقام من كانوا يعملون تحت إمرة هؤلاء القادة بدورهم دورا قريبة من بيوت رؤسائهم. وبدا قصر السلطان للمستكشف الألماني ناختقال وكأنه "قرية مغلقة من قطاطي القش وبيوت الطين، ينتشر بينها عدد هائل من ممرات المشاة، متناثرة من غير انتظام بين الزرائب".
ونزل ناختقال من ظهر دابته قبل المرور عبر بوابة قصر السلطان، وخلع نعليه وهو يدلف لداخل القصر، وهو مدرك لعادات القوم هنا، إن لم يكن لـ "الأهمية الكونية" لسلطان الفاشر15.
لقد نمت غالب مدن السودان نتيجة للتجارة مع العالم الخارجي. وكانت أهم منفذين يتبادل عبرهما السودان التجارة هما عبر مصر، وعبر ميناء سواكن على البحر الأحمر. وربما يكون ذلك الميناء قد أنشئ في القرن الثامن. وكان البجا (خاصة قبيلة الحداربة) هم من يسيطرون على ذلك المنفذ البحري. وكان من أسباب سعي الإمبراطورية العثمانية للسيطرة على سواكن في عام 1517م هو أهميتها كمركز تجاري ونقطة جمارك، وليس بسبب كثافة السكان فيها. ونصبت الحكومة العثمانية على المدينة (أغا) كان يقيم في جزيرة صغيرة شكلت "مدينة" سواكن. ورغم ذلك ظلت الإدارة الفعلية لشؤون سواكن (ومصادر العمالة والمياه) مع الحداربة الذين يقيمون على الشاطئ. وكانت علاقات سواكن ببلدان ومدن خارجية مثل الجزيرة العربية ومصر وإثيوبيا، وفينيسيا، والهند، وحتى الصين أقوى من علاقتها بمناطق ومدن سودانية، خاصة في الغرب. وكان بيركهاردت في عام 1814م قد شبه مباني سواكن بمباني جدة، وقدر أن فيها نحو 600 منزلا مبينة من طابقين بالمرجان، وأن ثلثي تلك المباني كانت مهدمة. وكانت هنالك أيضا بيوتا قليلة مبنية من الحجر في بر سواكن الرئيس مشيدة على النمط السوداني وليس العربي، إذ كانت بها ساحات (حيشان)
ووصف سكان سواكن بأنهم "جنس هجين"، غالبهم من الحداربة، ومن قبائل البجا الأخرى. وبعضهم ينحدرون من أصلاب أفراد الحامية التركية الذين تصاهروا مع البجا، أو أتراك أتوا حديثا، أو من عرب الحجاز التجار. ولم يأت لسواكن واحد من هؤلاء لغير التجارة. وقدر بيركهاردت عددهم بنحو 8,000، يعيش 3,000 منهم في الجزيرة، والباقي في بر الشاطئ. وكانت اللهجة العربية التي يتحدث بها غالب الناس في سواكن هي لهجة أهل الحجاز16.
وفي غضون سنوات بيركهاردت كان الكل على اعتقاد بأن في السودان عشرين مدينة كبيرة في السودان النيلي الشمالي، ويشمل ذلك مناطق كردفان ودارفور. وكانت تلك مناطق تجارة وإدارة، وتوجد بها محطات على الطرق المهمة، المحلية منها والعابرة للقارات. وكما سبق لنا القول، كان من الشائع في الدول السودانوية فصل المراكز السياسية من المراكز التجارية. لذا نجد في دولة الفونج سنار (مركزا سياسيا) وأربجي (مركزا تجاريا)، والفاشر وكوبي، والأبيض وبارا في كردفان عندما كانت تحت حاكم دارفوري. وأيضا تجد نمرو ووارا في دولة وداي إلى الغرب من دارفور. ونجد في بعض الحالات أن تلك المدن تعد مراكزا لمجتمعات دينية، أو أمكنة للتعليم، والوساطة والتحكيم (بين القبائل والجماعات المتحاربة)، مما جذب إليها الطلاب من كل الأماكن، قريبها وبعيدها. ولعل أساس بعض تلك المدن (مثل العيلفون وأبو عشر، وأبو حراز، وود مدني على النيل الأزرق، أو الدامر على نهر النيل) هو خلاويها الصوفية. ونمت وتطورت فيما بعد تلك المراكز الدينية الصفوية لتغدو مراكزا للتسوق، ومواقعا للإنتاج. وقدمت تلك المدن في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر إشارات واضحة جدا على ظهور ما يسمى بـ "الوعي العربي – الإسلامي". وتزايد السكان في تلك المدن حتى غدا من غير الممكن تحديد أعدادهم بدقة كبيرة. فقد قدر عدد سكان سنار، أكبر مدينة في السودان، بـ 100,000 نسمة. غير أن هذا العدد قد يكون مبالغا فيه. فقد قدر أحد المؤرخين عددهم بما لا يزيد على 10,000 نسمة فحسب. وقدر عدد سكان سواكن بـ 8,000 وكوبي بـ 6,000 نسمة. وكل تلك أعداد يمكن القبول بها. وكان عدد سكان شندي يعد بالآلاف أيضا. أما المدن الأخرى الواقعة على النيل كالدبة وكورتي ودنقلا والخندق، فقد كان عدد سكانها بالتأكيد أقل من تلك المدن التي ذكرناها، وقد لا يتعدى عدد سكان أي واحدة منها المئات. وبحسب ما أورده الرحالة براون، كان عدد سكان أي قرية في دارفور يقدر بمائة أو أقل من الأفراد. وينطبق ذات الشيء على كل قرى السودان. وكان التنوع العرقي للسكان (أو على الأقل في أوساط الزوار من الغربيين والقادمين من أفريقيا السودانوية الوسطى والغربية) هو السمة البارزة في غالب مدن السودان الكبيرة. ففيها تجد الفور والسودانيين النيليين من أعالي النيل الأزرق وساحل البحر الأحمر، بالإضافة لعدد صغير من المصريين والإثيوبيين والهنود، والقادمين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وبلدان البحر الأبيض المتوسط. غير أن مثل ذلك التنوع السكاني لم يحدث في معمار المباني. وفيما عدا سواكن، كانت كل مباني كل مدن السودان متشابهة جدا. وربما كانت البيئة والأذواق والأولويات الثقافية هي ما حددت اختيارات السكان في تصميم بيوتهم وتقنية بنائها. وكانت الأبواب المزخرفة في سنار هي المثال الوحيد الدال على وجود زخرفة محلية. وبالإضافة لذلك، فقد كانت مدن السودان الكبرى منظمة بصورة تراتيبية واضحة، فالأحياء (أو القرى) بالمدن مقسمة على أساس عرقي، وهنالك دوما حي مميز (ملكي أو إداري) يحرسه عدد من الجنود المسترقين. وفي كثير من هذه المدن، خاصة تلك التي تقع عبر الطرق التجارية المهمة، سوق للمسترقين ينعقد يوميا أو مرتين في الأسبوع، يعرض فيه للبيع المسترقون الذين تم اصطيادهم، وكانوا غالبا من غير المسلمين الذين يسكنون المناطق الطرفية للدول. وكما لاحظ أكثر الرحالة من الأوربيين الغربيين بأنه ليس في مدن السودان أي شبه لـ "النظام الأوربي" في تقسيم المدينة إلى مناطق، وشوارع منتظمة، ومنشآت عامة. غير أن كثير من هذه الأشياء تغير مع مقدم الأتراك – المصريين 17.
وبدأ الحكم التركي – المصري في السودان في عام 1822م عهد حكمه بتعيين مسؤول إداري (كاشف) وجنود، وأقام كذلك مركز قيادة للجيش في ود مدني. وعين عثمان بيه جركاس قائدا للجيش في عام 1824م. ولإدراك الحكام الجدد لموقع الخرطوم الاستراتيجي المهم، بنوا فيها قلعة بالطوب الطيني. وأجيزت الخرطوم لاحقا في ذلك العام كمركز رئاسة رسمي لمديريات سنار وكردفان. وشرع خليفة عثمان جركاس، ماحي بيك الورفلي (1825 – 1826م) في إقامة مَبَانٍ للحكومة (شملت ما صار يعرف بالحكمدارية أو قصر الحاكم العام)، وسرعان ما بدأت القوافل في التوافد على تلك القرية النامية التي بنيت منازلها بالطين والقش. وحدثت أكبر التطورات بالخرطوم في عهد علي خورشيد، والذي تولى حكم البلاد لفترة طويلة استمرت من 1826 إلى 1838م، حيث بدأت المباني المشيدة بالطوب الأحمر في الظهور، وبني كذلك جامع كبير. وتم نقل الطوب لبناء تلك المباني من بقايا مدينة سوبا المهدمة. وأقيم كذلك ميناء نهري وورشة لإصلاح وترميم البواخر. وشجعت الحكومة الأهالي على بناء منازل أكثر استدامة، وشيدت كذلك للجيش ثكنات ومخازن.
وزار الخرطوم رجل بريطاني هو لورد بريدهو، وكتب عنها في عام 1829م بأن "سوقها يتكون من عشرين سقيفة، تباع فيها القهوة والقمح والسكر الأسود بأسعار مرتفعة. وتباع فيها كذلك قليل من النظارات وقلادات العنق والأساور – وهي كل ما تستخدمه النساء من زينة هنا. وكانت كل الكماليات تأتي من القاهرة، وأثناء رحلتها الطويلة إلى الخرطوم يرتفع سعرها مرتين أو ثلاث. وقد تجد بعض البضائع المستوردة من الهند مثل الزنجبيل المحفوظ والسُكّرُ نَبَات وغير ذلك. غير أن مثل تلك البضائع كانت قليلة الكمية ونادرة جدا في سوق الخرطوم". وفي تلك السنوات تطورت الإدارة في السودان، وتمت في عام 1836م ترقية علي خورشيد إلى رتبة "باشا"، وتسميته "حكمدرا" (أي حاكما عاما) على "إقليم السودان"، والذي يشمل مديريات سنار وبربر ودنقلا وكردفان، وعاصمته الخرطوم.
وشجع الاستقرار السياسي في البلاد على التطور الاقتصادي، وشمل ذلك ظهور ونمو طبقة من تجار الخرطوم، وعملا بممارسة سابقة، قامت الحكومة بتعيين أحد هؤلاء التجار رئيسا على تلك الطبقة من العاملين بحرفة التجارة من الأتراك والمصريين والسودانيين، وسموه "سر التجار". وبدأ الحرفيون والمزارعون (المتخصصون) المصريون في القدوم إلى السودان، وأدخلوا صناعة ثياب (الزراق)، ومعها بضع صناعات صغيرة أخرى. وتوسعت بعض أنواع التجارة (ولكنها بقيت محتكرة للدولة، التي احتكرت أيضا كل البضائع المصدرة من البلاد). ومع كل ذلك الازدهار الاقتصادي بدأت الخرطوم تأخذ مظهر عاصمة دولة.
وزار الخرطوم في عام 1837م رحالة بريطاني آخر اسمه أ. تي. هولرويد، وسجل في مذكراته أن الخرطوم "اكتسبت بسرعة فائقة أهمية على حساب شندي وسنار، وهي الآن مكان تتم فيه الكثير من التبادلات التجارية، بحكم موقعها الملائم كملتقى للقوافل التي تحمل المسترقين المجلوبين من الحبشة وسنار وكردفان".
وفيما تلى من عقود، زار الخرطوم عدد كبير من الأوربيين وغيرهم - وشمل هؤلاء القساوسة والعلماء والمستكشفون والرحالة وعلماء الطبيعة والتجار، خاصة بعد فتح النيل الأبيض للملاحة بين عامي 1840 – 1842م، وإنهاء احتكار الحكومة لتجارة العاج. وغدت الخرطوم، بحسب وصف أحد الكتاب "مدينة حديثة تجثم على حافة عالم اكتشف حديثا"18.
ويتضح من كثير مما نشر حول الخرطوم، أن المدينة ظلت تنمو وتتطور بصورة مضطردة، حجما وتعقيدا، حتى ظهر المهدي في عام 1881م، وما تبع ذلك من فوضى سياسية.
وقدم للسودان من إثيوبيا في عام 1842م القس الكاثوليكي لويجي مونتوري (وهو من طائفة تتبع للقديس فنيسن)، وأسس أول كنيسة ومدرسة كاثوليكية في الخرطوم. وسجل ذلك القس أن "عدد سكان الخرطوم يقدر بـ 13,000 نسمة. وباستثناء نحو 200 قبطي في المدينة، وقليل من الكاثوليك والأتراك والجزائريين، فقد كان جل سكان المدينة من العرب القادمين من مختلف المديريات. وتمددت المدينة في كل الاتجاهات، وأقيمت فيها طرق داخلية متسعة ولكنها غير منتظمة، كما هي العادة عند المسلمين". وذكر القس أيضا أن من بين المنشآت الخدمية في الخرطوم مستشفى عسكري ومطبعة حكومية ومخزن طبي للأدوية وغيرها.
وبعد عقد من الزمان (أي في 1852م) وصل إلى الخرطوم الرحالة والأديب والشاعر الأمريكي بيارد تايلور، وفوجئ عند وصوله للخرطوم بجلالة وفخامة وأناقة مظهرها. وكتب يصفها بالتالي:
"تمتد فيها مَبَانٍ على النهر لمسافة تفوق الميل. وفيها رأيت بيوتا جميلة تحيط بها حدائق من أشجار النخيل والسدر والبرتقال والتمر هندي. ولقصر الباشا (الحاكم العام) منظر وحضور يفيض بالمهابة والجلال رغم أن جدرانه لم تكن مشيدة سوى بالطوب غير المحروق. وللباشا جناح للحريم مكون من مبني ذي طابقين، مطلي باللون الأبيض، يبدو غاية في اللطف والروعة وهو بين أشجار النخيل التي تظلله.... كان بإمكاني أن أتأمل وأنا بالخرطوم في بَرّيّة من أشجار النخيل والبرتقال والرمان والتين ونباتات الزينة المزهرة كالدفلي (ورد الحمير) والكروم المتدلية. دلفنا إلى شارع مقبول نوعا ما، فوجدناه قد نظف نظافة جيدة، وعرجنا على مقهى .... كان موسم العنب قد انتهى للتو، رغم أني كنت قد تناولت قبضة من آخر انتاجه. وكان التين ينضج أكثر فأكثر مع مرور الأيام. وكانت الحمضيات مثل الليمون والبرتقال في موسم إثمارها. أما أشجار الزينة فقد كانت تلك الأيام هي أيام ازدهارها، وكان الموز يزهر استعدادا لمحصول جديد. وكانت أغضان أشجار الرمان والقَشْطَة مثقلة بما تحمله ..."
وأعجب بيارد تايلور بكثير ممن قابلهم من مختلف الجنسيات. فقد ذكر أنه قابل تجار من سوريا، وأطباء من مصر، و"أميرة إثيوبية"، وأوربيين من بلدان مختلفة، وقابل أيضا سودانيين "من كل قبيلة تقطن بين دارفور والبحر الأحمر، وبين مصر وممالك الزنج في النيل الأبيض". ووصف الرجل الخرطوم بالقول بأنها "المدينة الأشد تميزا – وأكاد أقول إنها ربما كانت المثال الوحيد للتقدم المادي في أفريقيا في هذا القرن. فهي لم تكن شيئا مذكورا قبل نحو ثلاثين عاما، ولم تكن فيها بيوتا سكنية، فيما عدا ربما بعض الأكواخ البائسة، أو قطاطي القش التي كان يقطنها بعض الفلاحين الإثيوبيين. أما الآن فهي مدينة يربو عدد سكانها على ثلاثين أو أربعين الفا، وتزداد المدينة يوما بعد يوم مساحة وأهمية، وغدت سوقا تجارية جاذبة لكثير من مناطق وسط أفريقيا الواسعة". وبعد أن واصل بيارد تايلور في التعبير عن اعجابه الشديد بمباني المدينة ذات الطابقين المشيدة بالطوب، ونظافتها الشديدة، وجمالها المادي (مثلما ذكره عن حدائق الباشا والارسالية الكاثوليكية، التي تبث أريج أزهار البرتقال والسنط في كل أرجاء المدينة)، التفت إلى "منازل الأهالي"، التي وجدها بالغة القذارة بصورة تدعو للحيرة. أما منازل المسترقين في أطراف المدينة فقد وصفها بيارد تايلور بأنها بدأت تتزايد وتبدو مثل كثبان النمل. وسجل الرحالة الأمريكي في مذكراته اللافتة للنظر ما هو معتاد من أمثاله من الزوار الغربيين في تلك السنوات:
"ونصف سكان المدينة من المسترقين الذين جلبوا من الجبال فوق فازوغلي أو من أرض الدينكا على النيل الأبيض. غير أن اشمئزاز وتقزز المرء من منظر وعادات أفراد تلك الأعراق (المَرْذُولٌة) المسترقة يكاد يفوق شفقته ورثائه عليهم. وقد وجدت أن السير في المفازات المؤدية لسنار أقل إيلاما للروح والجسد من شق الأزقة في أمكنة سكنهم القذرة. وعلى الرغم من طبيعة سكان الخرطوم، فالسلطات تحافظ على نظافة المدينة ومنظرها العام. سيكون يوما سعيدا لروما وفلورنسا عندما تغدو طرقاتهما خالية من الأوساخ بأكثر مما هو حادث في هذه المدينة الأفريقية".
وبعد ذلك لم يغير تايلور كثيرا من آرائه حول المدينة، فكتب بإعجاب عن اليخت البخاري الخاص بالحاكم العام، وعن السَدّ الحجري الذي أقيم على جانِبَيْ النَهْرٍ، وعن الصرف الصحي الذي تحسن الخ. ولأن الخرطوم كانت مركزا تجاريا وإداريا في ذات الوقت، فقد كان من اللازم الاعتماد على عدد كبير ومتنوع من الموظفين والمهنيين المصريين والأتراك (مع أعداد متزايدة من الأوربيين) لإدارة هذه الدولة المترامية الأطراف، التي شملت في عام 1874م دارفور. وربما بلغ عدد سكان الخرطوم 50,000 نسمة. غير أن البعض يؤكد أن نصف هؤلاء السكان على الأقل (إن لم يكن الثلثين) كان من المسترقين. وكانت الأحياء التي يقطنها "الأهالي" مقسمة بحسب أعراقهم أو قبائلهم. وحرصت السلطات على إبعادهم عن منطقة الخرطوم الإدارية (المديرية)، والإرسالية الكاثوليكية، والقنصليات الأوروبية، والحي القبطي، والثكنات العسكرية، وشاطئ النهر. وكان غالب سكان الخرطوم من غير المسترقين هم من أفراد القبائل النيلية، خاصة الدناقلة والمحس والجعليين، مع مجموعة صغيرة من التجار من دارفور والنيل الأزرق ومنطقة البحر الأحمر. وبالإضافة لهؤلاء فقد كان هنالك عدد من التجار الأجانب من المصريين والسوريين والأرمن والأغاريق واليهود وجنسيات أخرى من أوروبا وغيرها. وكان المسترقون بالمدينة أيضا من أصول مختلفة من وسط وأطراف السودان.
وكان التقدم يعني للزوار الأجانب الذين مروا على الخرطوم هو قيام المنشآت والمرافق الخدمية ووسائل الراحة، والأسواق المزدهرة. وشبه القسيس الماروني يوسف خوري سوق الخرطوم بسوق القاهرة، بينما كتب القسيس الإيطالي جونفاني بيلترامي في عام 1853م أنه "يمكن للمرء أن يحصل في الخرطوم على كل شيء يرغب فيه". ودهش الرحالة البريطاني جيمس قرانت في زيارته للخرطوم عام 1863م من وفرة البضائع وتنوعها في سوق الخرطوم، والتي شملت السيجار الفاخر والنبيذ الجيد و"الجعة ذات الرَغْوَة" من نوع (باس Bass). وبحسب ما ذكره قرانت، يمكن حتى لـ "قسيس مزيف" أن يكسب عيشه في الخرطوم من قيامه بعقد مراسم الزواج مقابل دولار واحد. أما في خارج دائرة الجو الكوزموبوليتاني (العالمي) الذي عايشه قرانت، فقد كان هنالك مد وطني عارم في أوساط مجتمع السودانيين الشماليين يعارض سياسات الحكم التركي – المصري، إضافة لبداية نزعة دينية ألفية millennialism (مهدوية) ستقوم في سنوت قليلة قادمة بتفكيك الخرطوم حرفيا، طوبة طوبة، وحجرا حجرا20.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء