المرحوم يُبعث من جديد: حرب قوات الأشقاء/ الأعداء (٤—٤)
أحمد ضحية
10 August, 2023
10 August, 2023
كي تتوقف الحرب، لابد من توفر (إرادة صادقة) لإيقافها! وصدق الإرادة يتأتى —على الأقل— بأن تعيد قوى الثورّة (الأحزاب ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والأهلي والنقابات والاتحادات) النظر في (سلوكها وممارساتها السياسية)، منذ اندلعت ثَورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة: هل هي كقوى ثورة راضية عن الفعاليات و(السياسات والقرارات) التي اتخذتها؟.. وهنأ أعني (كل القرارات) سواء تلك التي ترتبت عليها كتابة (الوثيقة الدستورية، مثلاً) على ذلك النحو "المعيوب"، وشرعنتها لشراكة (لقيطة) بين المدنيين والعسكر، أو غيرها من الفعاليات والقرارات، التي تلت ذلك يوماً بعد يوم، إلى أن اندلعت الحرب؟
كيف رأت وترى قوى الثورة نفسها، وكيف رأت —خاصةً التنظيمات السياسية والمهنية— حلفائها وكيف ينظر هؤلاء وأولئك إلى أحلام هذا الشعب، الذي لعقود طويلة لم يهنأ يوماً واحداً؟
وهل هؤلاء وأولئك؛ صادقين فعلاً في تحقيق تطلعات وآمال وأشواق وطموحات هذا الشعب، أم أنهم يسعون باسمه لتحقيق أحلامهم الذاتية، كما كان الحال دوماً منذ ١٩٥٦، ظلوا ينسون واجباتهم ويتجاهلون مسؤولياتهم تجاه الشعب، بمجرد وصولهم على أكتافه المنهكة، إلى السلطة، بعد أن انحنى ظهره لطول ما حملهم عليه؟!
***
في ظل الاستنفار الجهوي، والتحشيد القبلي المستمر، من المستحيل وضع "سقف زمني" لنهاية الحرب. فهي لن تنتهي ما لم يتغير توازن القوى، وتتغير بذلك حدود وقيمّة مناطق النفوذ والسيطرة!
وبلغة أخرى الحرب لن تنتهي في أفضل الحالات، ما لم يهزم طرف الطرف الآخر؛ ويبسط سيطرته ونفوذه على مناطقه. و —بعد أن يحدث ذلك— أيا كان الطرف المنتصر، سيعمل على إحداث (تغيير ديمُغرافي) في مركز السلطة لصالحه، رُبما يكون مماثلاً لاستجلاب الخليفة عبد الله التعايشي لقبائل الغرب، أو مماثلاً للزحف الذي تم بعد سقوط المهدية؛ من قبل قبائل الشمال إلى الوسط. لتحقيق (توازن سكاني) موالي، مقابل مجموعات الغرب!
لضمان استقرار السلطة بيد الطرف المنتصر، سيكون التغيير الديمغرافي هذه المرّة، أكبر بكثير، وأكثر عمقاً وتأثيراً وفاعلية في مستقبل الدولة، والعلاقات التي تحكم مؤسساتها من جهة، وتربطها بالمواطنين من جهة أخرى، وقد يؤدي هذا (التغيير الديمغرافي) في (مركز السلطة)؛ إلى (خريطة سكانية جديدة) في الغرب والشرق والشمال والجنوب، وفقا لمنطق تحالفات (مركز السلطة) مع قوى الثورة والقبائل في هذه المناطق.
***
في يقيني أن أولئك الذين كانوا يخططون لهذه الحرب، ويقرعون لها (نقارة الورل)، لم يخطر على بالهم سؤال الاحتمالات العديدة للنتائج؛ التي قد تترتب عليها!
وفي الحقيقة واهم من ظن أن هذه الحرب؛ المسؤول الأول والأخير عنها (الفلول فقط)، فالحقيقة هي؛ أنها (صناعة الجميع) بدرجات متفاوتة. ووزرها يتحمله كذلك الجميع، بدءاً بـ(المواطنين البسطاء)؛ الذين كانوا يتذمرون من حِراكات الثوار ومسيراتهم السلمية، بدعوى أنها عطلت حياتهم! مع أنهم لم يحظوا ولا يوماً واحداً بحيّاة حقيقية (تليق بمواطن في وطنه!).
فهؤلاء ليسوا مسؤولين فقط لتذمرهم من (الثورة)؛ بل مسؤولين أيضاً لأنهم ظلوا يتفرجون على قتل الثوار اليافعين، برصاص "كتائب الظل واستخبارات الجيش وجهاز الأمن والمخابرات". ودعموا التحريض ضد (حكومة حمدوك) والتشويه المتعمد لسياساتها، وإشاعة مناخ من المخاوف والخطورة المزعومة، التي تستهدف (الأخلاق والعقيدة والوطن)؛ وهللوا وكبروا (للانقلاب الكيزاني المصري) وتعايشوا معه، بزعم أنه يحفظ البلاد من "التحلل والتفسخ الأخلاقي والاحتراب الأهلي والأعداء الخارجيين".
متناسين بهذا الزعم الذي لا يقف على ساقين، أن الفلول هم من ظل يوفر مناخ هذا التحلل والاحتراب.. وهم من سعوا للتطبيع مع إسرائيل.. وهم من أغرقوا المجتمعات السودانية بالمخدرات.. وهم من أطلقوا عصابات (تسعة طويلة و النيغرز)، وأنشأوا الميليشيات؛ ونشروا خطاب الكراهية والفتن القبلية!
صحيح أن الكثيرون من هؤلاء المواطنين البسطاء، وقعوا ضحية خطابات (زعماء إدارة أهلية) جهلاء فاسدين كالمدعو "محمد الأمين ترك وشيبة ضرار وأبو الخرطوم المزعوم". كما وقعوا ضحية دعاية رجال دين فاسدين كالطيب الجد، وأئمة مساجد منافقين وجماعات السلفيين الانتهازيين والطفيليين. هؤلاء الأنبياء الكذبة الذين ظلوا ينتحبون على المنابر، وهم يشتمون (المدنية) التي تهدد (بيضة الدين)، في تماهي تام مع خُطط الفلول.
هؤلاء وأولئك ظلوا يؤدون بوعي أو دونه، دور (المغفل النافع) بدعمهم (الانقلاب على الثورة) والتمهيد للحرب، التي لم يظنوا أنهم في —التحليل النهائي— إنما يمثلون أحد الأطراف الأساسية، التي مهدت لها و أشعلت نيرانها، منذ اصطفوا في (حلف الموز) الكارّثي؛ الذي جمعهم بكل "هوام الأرض من (الأرادلة)، وبغاث الطير من التيار الإسلامي المريض!"..
وأنهم هم وليس غيرهم؛ من أذكى نيران الحرب، منذ اشرعوا حلاقيمهم ضد (مدنية الدولة)، وتدخلوا بصورة سافرة في "تغيير مناهج التعليم" و(الاتفاقيات الدولية!)، وشوهوا عمداً كل شئ وحرفوه عن مقاصده الحقيقية.
الحقيقة التي لا تنتطح حولها عنزتين، أن هؤلاء هم من اتخذوا قرار هذه الحرب اللعينة، وعبأوا البسطاء في سبيلها.. بل نفس الأصوات التي كانت تستخدم (منابر المساجد) كمنصات للدعاية (ضد حكومة الثورة)، هي نفسها التي ظلت —ومن نفس المساجد— أثناء الحرب؛ تستنفر الشباب للقتال!
وللمفارقة الأصوات نفسها هي التي —تستخدم ميكرفونات المساجد نفسها— طلبا للتبرع بالدّم لإنقاذ (جرحى الفلول) المتكدسين في (مستشفى النو)، والعون لحفر (قبور القتلى) في حرب وصفها طرفيها (المعلنين) منذ اندلاعها "أنها حرب عبثية!".
***
في ظل دولة (أقلية استعمارية فاشلة) كالدولة السودانية، التي لا ترتكز على أي (نظام قانوني أو سياسي)، بل تعتمد بصورة رئيسية؛ على ما أرساه الاستعمار من نظم وقواعد (أمنية عسكرية وإدارية) غاشمة ١٨٩٨—١٩٢٥، كدولة لا تتكئ على أي (نظام دستوري) يمثل خيارات الشعب! من المستحيل في ظل مثل هذه الدولة؛ التي نهض جيشها على هذا (الأساس الاستعماري)، دون أن تهدمه بعد خروج المستعمر، وتعيد بنائه وبناء نفسها كأمة وكدولة وطنية مستقلة من علاقات الاستعمار والتبعية، على أسس وطنية تحترم (التنوع والمواطنة)..
من المستحيل في دولة بهذه المواصفات، أن تكون هناك وظيفة بمسمى (التداول السلمي للسلطة)، وذلك لأن الدولة باقتصادها المختطف ومؤسساتها الفاسدة، ومواردها المنهوبة. وأجهزتها العسكرية والأمنية والشرطية، وُجهت منذ لحظة التأسيس الاستعمارية الأولى، لتحقيق "غاية واحدة: هي قطع الطريق على التداول السلمي للسلطة"، وبالتالي القضاء على أي فرصة، تساعد على نشوء معارضة حقيقية (ليست مخترقة أو ملوثة) عن طريق (شبكات المصالح المعقدة) التي تربط قوى المعارضة المحتملة، بهذه الدولة الفاسدة.
والحال كذلك؛ لا يمكن الزعم، أن في مثل هذه البيئة العطنة، بالإمكان أن تنمو الأحزاب والتنظيمات السياسية والتحالفات، بصورة معافاة. أوتزدهر بصورة نزيهة. وقد رأينا كيف صِيغت (الوثيقة الدستورية) —في الحقيقة للحفاظ على الدولة العميقة وليس تقويضها— ولفتح ثغرات الإفلات من العقاب لمجرمين النظام البائد، وليس محاكمتهم.
وفي الواقع (الوثيقة الدستورية) كانت بمثابة أوضح تعبير عن "فساد النظام العدلي والقانوني" بكامله في هذه الدولة الفاسدة، التي تم إرساء دعائمها من قبل (قوى الاستعمار المحلي)؛ خلال عقود طويلة. وهي ثمرة من ثمار (تعميم وظيفة الأمن) على حساب (الحرية والعدالة)، بالتالي على حساب وظائف الاقتصاد والسياسة و(السلام المجتمعي).
ومن زاوية أخرى، بدلاً من أن تُصمم (الوثيقة الدستورية) على قيمة (العدالة والعقاب والمحاسبة)، أفضت (ثغراتها المدروسة)؛ إلى (تنمية أدوات العنف و أجهزة القمع والاستبداد)، ولذلك شهد عصابات تسعة طويلة والنيغرز وكارتيلات المخدرات و(الدعم السريع) نمواً مضطرداً في كنفها.
كما أن هذه (الثُغرات الدستورية)، أفضت من الجهة الأخرى إلى (انشقاقات) في (تحالف قوى الثورة) الرئيسي، ومن هنا تحوّلت بعض القوى إلى "محض مجموعات منشقين" —بلغة الروائي نيكوس كازنتزاكس؛ في رائعته الجسورة (الحرية أو الموت)، أو كما كان يسميها الرفاق الشيوعيين، قبل أن يعطيهم التاريخ قفاه، عندما كانوا يمسحون عرق الجباه الشُّم، في كراكيرهم السرية تحت الأرض، المسوغات لإنتاج مفردات (التخوين) لخصومهم!
فالمنشق حسب (الكتب المقدسة) للرفاق، هم الخارجين على "الماركسية التقليدية والوطن معاً"، وبالتالي يتوجب أن يصبحوا أهدافاً تحت (طائلة التخوين)؛ والضغط المتواصل بأدوات وآليات القمع السياسي "الشعاراتي الهتافي"، و الاتهام والتشهير والتشويه، حتى يمكن عزلهم ك(بصل فاسد) عن (شوالات الرأي العام)، وتخويف هذا (الرأي العام) من الاقتراب منهم، وإلا سيتم استهدافه هو الآخر، ويصبح بذلك الشعب كله مشتبهاً فيه؛ أو متهماً كمنشق وبالتالي عرضة للقمع، رُغم أنف التغزل الشعاري فيه بـ(يا شعبنا الجسور والعظيم والأبي.. ووو!) في البيانات والمناشير.
وهكذا حوّل الرفاق من كراكيرهم السرية المعنوية، حتى في (زمن الحريات)، كل من ينظرون إلى المشهد من زاوية مختلفة عن زاوية نظرهم، إلى خونة لدم الشهداء والوطن والمؤمنين بكتبهم المقدسة؛ أو الضالين عن الديالكتيك والمغضوب عليهم من جماهير الشغيلة، الذين هم النواة الصلبة للثورة نفسها.
وفي الواقع كانت تلك أكبر خدمة يقدمها الرفاق (للدولة العميقة) أو (الموازية) في تسهيل عمل خططها، لإجهاض أي محاولة ممكنة للتحول المدني الديمقراطي، وتحويل شعارات الثورة إلى واقع ملموس، بل وإشعال الحرب للقضاء نهائياً؛ على التحول المدني الديمقراطي.
والحال كذلك؛ لا يمكن أن يكون لدى قوى المعارضة الأخرى؛ أي أمل بالتطور والتحوّل إلى (قوى اجتماعية فاعلة ووطنية) قادرة على أن تنافس القوى المتحكمة في (مركز السلطة)، أو أن تحلم يوماً ما، بأن تكون في "مركز المسؤولية الوطنية العامة"، و تبلور وهي تحت وطأة هذا الضغط من التخوين المستمرة والدائم، أي "رؤية أو إستراتيجية وطنية شاملة"، تمنع اندلاع الحرب من أساسها.
وبالتالي ليس بإمكانها أن تطمح إلى أن تصبح "مركز استقطاب لجماهير الشغيلة الناقمين على الفلول" أو قوى الثورة المنظمة، بما في ذلك حزب الرفاق المبرئين من كل عيب ذات نفسه! وكذلك لجان المقاومة المستاءة من (قوى مركز السلطة)، في معركتها السياسية الفكرية الأخلاقية (لإحلال نظام جديد) محل (النظام الحاكم)، الذي يقر الجميع بما في ذلك "طوب الأرض"، بفساده واحتكاريته وطفيليته و عجزه وفشله، واعتماده على أدوات ووسائل العنف لتسيير الحيّاة.
وفي الواقع لم يكن النظام الإسلاموطائفي المتحكم في (مركز السلطة)؛ بحاجة لأحد لتقديم دليل؛ على أن استقراره واستمراره لثلاث عقود؛ نهض في الواقع على عاتق ابتزاز الرأي العام؛ بأن من المستحيل تحقيق (أي تغيير) بالطرق السياسية، وأن من يريد التغيير ليس لديه وسيلة أخرى، غير (اللجوء إلى القوة)؛ وبالتالي التحوّل من (ثوري ومناضل) إلى (مجرم حرب أو إرهابي)، وهي سُنة سنها رئيس النظام البائد وحزبه المتورط في هذه الحرب؛ بتأكيده لقوى المعارضة "أن من أراد السلطة فليحمل السلاح". يداعب بذلك أشواق حزب الأمة الذي درج على صناعة المليشيات، وأحلام الرفاق الجيفاريين يتقدمهم (حميد)، الذين لطالما زعمت كوادرهم الخطابية؛ أن الحزب الذي (دفن دقنه)، دفن مع هذا الدقن السلاح في أمبدة: غلطان الحزب الجمّ سلاحو وخيلو تناهد.. ماك غلطان!
غلطان زمنكْ واصلاً وطنكْ ياها جراحو وعندك شاهدْ رَفْضَك.. سَجَنَكْ.. شان الكادح
***
لم تتردد بعض (النُخب المصرية) المتعاونة مع المخابرات، في عقابيل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في ٢٠١٨ في بذل النُصح لإقناع بعض "قوى الثورة السودانية" بالكف عن المطالبة بـ(التحول الديمقراطي المدني)، مرددين مزاعم القوى المتحكمة في (مركز السلطة)، بأن هذه القوى؛ لن تسلم بالطرق السلمية سلطة استولت عليها بقوّة السلاح.
وبالتالي ظلت الدعوة المباشرة وغير المباشرة (للتغيير بالقوة)، ماثلة وحاضرة في كل الأوقات؛ منذ ما يسميه الرفاق بمتراس الحركة الوطنية —أي حركة ١٩ يوليو ١٩٧١— وتصاعدت أكثر منذ ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وهو ما قاد لانتشار الحركات المسلحة في هوامش السودان. و قاد كذلك في النهاية إلى اندلاع هذه الحرب اللعينة.
***
إن استقرار أي نظام؛ رهن لنجاحه في فرض معادلة صعبة جداً على أي (قوى ثورية ديمقراطية) مناهضة له.. معادلة تنهض في تحويل "ساحة التنافس السياسي" إلى "ساحة مواجهة عسكرية" فحسب!.. مثلما فعل نظام ٣٠ يونيو ١٩٨٩ ضد التجمع الوطني الديمقراطي، فنشأت "قوات التحالف السودانية"، كاقوى فصائل جبهة الشرق! ولذلك ليس من المستغرب؛ أن يفشل الفلول في استقطاب كل جماهير الشعب؛ الناقم على تردي الاقتصاد وانهيار القطاعات الخدمية، والتي تدرك أن كل مؤسسات النظام وممارساته، قائمة على الحيلولة دون نشوء قوى سياسية؛ قادرة على تحقيق التداول السلمي، أو جعل وجود مثل هذه القوى احتمالاً قائماً!
وهذا بطبيعة الحال لا يشمل الحركات المسلحة، التي اعتمدت في مواجهتها لمركز السلطة، على الحرب في الأطراف، خصوصاً بعد فشل محاولتها اليتيمة في ٢٠٠٨ لاحتلال مركز السلطة عبر (غزوة أم درمان)؛ التي قام بها خليل ابراهيم.
***
أبرز مفاصل المشهد الذي رسمته الحرب بين قوات الدعم السريع وميليشيا الحركة الإسلاموطائفية، داخل الجيش يتجلى في: الفريق الأمني الاستخباراتي؛ الذي يشرف على (كتائب الظل والقوات النظامية).. والفريق الثاني (قوى الثورة الحقيقية)؛ الراغبة في تحقيق مطلب التغيير والتحول المدني الديمقراطي، وهي شئنا أم أبينا، تشمل قوات الدعم السريع.. والفريق الثالث يتمثل في القوى الإقليمية والدولية؛ التي ظلت تتدخل منذ لحظة اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، أو المستعدة للتدخل الآن عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً.
***
هذا الوضع الهش والقلق لقوى الثورة؛ التي لا تستند إلى وظيفة بنيوية في النظام، ولا إلى قاعدة اجتماعية ثابتة —كما أثبتت هذه الحرب، التي ضمن مفارقاتها انضمام أبرز الميليشيات الجهوية، التي أسسها الفلول (درع الشمال) إلى قوات الدعم السريع— وهذا يفسر إلى جانب هشاشة الوضع، ضعف قوى الثورة (البنيوي السياسي والفكري والتنظيمي مجتمعاً)، وبالتالي تشتتها وتفتتها، والفراغ الكبير الذي فشلت في ملئه، لافتقارها إلى رؤية وإستراتيجية مستقلتين.
كما يفسر المأزق الذي تعيشه الآن؛ وتناقض اختياراتها أو الإحراجات التي تجد نفسها حبيستها؛ في الاختيار بين "الانصياع لإرادة المخابرات المصرية وقوى إقليمية"، للقبول بأن تكون الحركة الإسلاموطائفية وواجهاتها، جزءاً من (الحوار الواسع) المتوقع؛ أو التدخل الأجنبي المباشر.. وهما أمران أحلاهما مر!
فهي إما أن تقبل —قوى الثورة— على نفسها بأن تظل هامشية ومهمشة، لا وزن ولا مكان ولا قيمّة حقيقية لها، أو أن تطور من موقفها من "قوات الدعم السريع"، بدلاً عن ترك ميليشيات وواجهات الفلول تحتوي هذه القوات، وتضرب في مقتل نواتها الصلبة ك(قوى ريف مهمشة) صاحبة مصلحة في التغيير.
وبطبيعة الحال مثل هذا التوجه في التفكير، يقتضي أولاً أن ترأب قوى الثورة ما لحق بها من تصدعات في الرؤية وكأجسام ثورية، وبالتالي يسهم ذلك في تخفيف حدة الانقسامات المجتمعية، بحيث يصبح ممكناً النظر إلى الدعم السريع ك"قوى إجتماعية حقيقية تمد جذورها في الريف" أصلية وفاعلة أو ماسكة داخلية أو خارجية، في سياق كتلة السودان التاريخية.
ومن هنا يجب أن لا تغفل (قوى الثورة)؛ السعي الجاد لإيجاد أو تدعيم "التيار الثوري"، الذي يحمل ذات توجهاتها: "الداعية لمدنية الدولة"؛ داخل قوات الدعم السريع؛ بدلاً عن ترك تيار الإسلاموطائفيين يعبث داخل هذه القوات!.. أو الرهان على تدعيم ومنهجة (إرادة التغيير) لدى قيادة الدعم السريع المخترقة؛ من قبل بقايا الحركة الإسلاموطائفية.
***
في نظام تُلغى فيه، أو تكاد تُلغى جميع (الحريات الفردية)؛ وتحرّم وتُمنع (التكتلات والتجمعات والحِراكات الجماهيرية) وتفرض فيه السلطة سيطرتها على (النقابات) ووصايتها على (المنظمات المدنية و الأهلية)، في مثل هذا النظام —النظام البائد— من الصعب أن تنشأ (قوى حرية وتغيير)؛ ذات دعوة ورؤية وممارسة ديمقراطية ومدنية و وطنية.
وفي الحقيقة؛ إن ما عرفه السودان طوال تاريخه، أشبه بـ(مجموعات الرأي أو المصالح) أو (مجموعات الضغط)؛ المتعددة والمتغيرة والمتبدلة. وليس (قوى سياسية) بالمعنى العلمي للكلمة، وهو ما يفسر الانقسامات داخل "القوى السياسية" و الانشطارات الأميبية داخل "الحركات المسلحة"، والتناسل الطفيلي لظواهر لطالما عرفت بـ(تنظيمات التوالي) أو (أحزاب الفكة).. عشرات أو مئات القوى: تنظيمات سياسية وحركات مسلحة؛ في بلد ظل يعاني تاريخياً من (الأمية الأبجدية والسياسية)؛ والسيولة الأمنية والهشاشة. خصوصاً في الأطراف.
وكل هذه التنظيمات سواء المدنية أو المسلحة فعلاً، أو الوهمية.. هي في الحقيقة —بما في ذلك القوى الأساسية وروافدها— ليست قوى منظمة ومؤهلة؛ أو لديها الإمكانيات الفكرية والمعرفية المعاصرة وكذلك لا تمتلك المعرفة السياسية الضرورية، كي تتحول إلى (فاعل حقيقي مستقل)؛ في الحياة السياسية والاجتماعية للسودان، ولا هي جاهزة كي تحل بعد الحرب، محل النخب التي كانت تتحكم في (مركز السلطة)؛ الذي يقود (كامل الدولة)؛ ويسير شؤون المجتمعات؛ على قاعدة المواطنة بلا تمييز.
إن النظم الاسلاموطائفية السودانية المتعاقبة منذ ١٩٥٦، ظلت تعمل باستمرار تعمل على منع تطور وازدهار (القوى الثورية المدنية)؛ بحيث تصبح (قوى جماهيرية حيّة)؛ وقوية قادرة على أن تصبح منافساً، أو تُشكل بديلاً فعلياً للقوى الإسلاموطائفية، التي ظلت تتحكم في (مركز السلطة). لأن وجود مثل هذا المنافس يلغي بالضرورة —سواءاً أحصل التداول السلمي على السلطة، أو لم يحصل— هيمنة الأقلية، وبالتالي التسلط على الحكم، والانفراد المستمر بالإنابة عن الشعب ضد مصالحه الحقيقية.
***
القوى الإسلاموطائفية ظلت في كل العهود (الديمقراطية والعسكرية) تستخدم (غياب البديل)؛ كذريعة لرفض التغيير والتداول معاً. وتعمل في الوقت نفسه، على أن لا يكون هناك بديلاً لها، وفي سياق ذلك شوّهت في وعي البسطاء المفاهيم النبيلة، التي تنادي بها قوى التنوير والتحديث والثورة، كمفاهيم "المدنية والعلمانية والديمقراطية"، وعلاقة الدين بالدولة، بل في إضعافها لهذه القوى، أفرغت حتى الشعارات العزيزة على الشعب، كمفهوم الفدرالية من مضمونه النبيل.
لذلك كان من المستحيل أن تكون هناك (قيادات سياسية حقيقية متجددة)؛ مع امتناع أي شكل من أشكال التفاعل والتواصل بين "النخب الثورية" في (كراكيرها) النفسية السرية، أو في منافيها داخل وخارج الوطن، أو في (جخانين) مسارح "حروب الغوريلا"، وبين جماهير الشعب. مع اشتداد قمع أجهزة الأمن لسبعة عقود، وخوف غالبية جماهير الشعب، من الانخراط في أي عمل سياسي أو جماعي، ما يفسر العجز في تحقيق شعار "الإضراب السياسي، العصيان المدني والانتفاضة الشعبية الشاملة" الذي ظل مرفوعا منذ ٢١ أكتوبر ١٩٨٩ في عقابيل التوقيع على ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي، كأكبر تحالف سياسي نقابي لإسقاط نظام ٣٠ يونيو ١٩٨٩. بل والمثال القريب، فشل هذا الشعار في إسقاط انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، الذي انتهى بالسودان إلى هذه الحرب!
وبهذا المعنى؛ نجد أن ضعف غالبية قوى الثورة، ونقص قدراتها السياسية والفكرية والمعرفية المعاصرة، يُشكل إدانة فادحة لنُظم الحكم المتعاقبة، قبل أن يكون إدانة لقوى الثورة، وكذلك إدانة لأسلوب ممارسة هذه الأنظمة (الديمقراطية والعسكرية) للسلطة، بالتالي وقوع انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ما هو إلا نتيجة لهذا الفشل المتراكم لشعار "الاضراب السياسي، والعصيان المدني والانتفاضة الشعبية الشاملة" في التحقق، باعتبار أن ضعف قوى الثورة نفسها ليس سبباً من الأسباب، وإنما نتيجة من نتائج الاستبداد والفساد الإسلاموطائفي المستمر منذ ١٩٥٦.
وهنا لا ينبغي أن يُفهم من محاولتنا تفسير "ضعف قوى الثورة" وتشتتها النظري والتنظيمي والسياسي، كسعي لتبرئتها من المسؤولية، أو تبرير العجز والقصور، خصوصاً في فترة (حكومة حمدوك)، فـ(التفسير لا يعني التبرير). والواقع المادي والتاريخي؛ ليس قدراً لا مفر منه! فهو (مجال مفتوح) للتغيير والتعديل وإعادة التشكيل.
وعلى هذا الأساس نقترح في خواتيم هذه السلسلة من المقالات، أن تطور قوى الثورة موقفها من قوات الدعم السريع. وبطبيعة الحال ذلك يفترض الوعي النظري الدقيق والموضوعي؛ بتعقيدات الحالة السودانية. وأفضل الطرق لتفادي "تمزق الدولة والاحتراب الأهلي".
***
رُبما أن من أسباب ضعف قوى الثورة، وعجزها في (تفكيك مركز السلطة الإسلاموطائفي)، وكسر حلقة العجز؛ التي تجلت بوضوح في العجز عن الحفاظ على "استمرارية لجنة تفكيك التمكين واسترداد الأموال العامة". هو التقاعس في ميدان "الاجتهاد النظري والعملي الثوري"، أو نقص الجهود المبذولة في هذا الإطار، على نحو يُغلب مصلحة الوطن؛ على مصلحة الحزب! ومصلحة الشعب على المحاصصات بين الأحزاب.
ويبدو لي أنه لو كانت (قوى الثورة) قد استغلت (فترّة حمدوك)؛ في ترتيب صفوفها؛ وتعزيز موقعها كقوى ثورة حقيقية، وتمكين نفسها بمساعدة (حكومة حمدوك) وقتها؛ من التحول تدريجياً إلى (مركز استقطاب لقوى التغيير الاجتماعية)، بتوفير الحكومة للموارد البشرية والمادية خلال:
١. الانفتاح المتبادل بين (قوى الثورة المختلفة)؛ لتكوين (قطب ديمقراطي) قوي وواسع، يتسع لجميع قطاعات الرأي العام الديمقراطي الوطني، ويوحدها في معركة تغيير المناهج، والتداول السلمي للسلطة ومدنية الدولة.
٢. العمل بشكل مستمر، على تمييز موقف هذا (القطب الديمقراطي)، عن مواقف القوى الإسلاموطائفية، التي تخوض صراعها ضده، سواء أكانت القوى (الطائفية القديمة) أو قوى (الإسلام السياسي) والقوى (السلفية) المعادية بطبيعتها للتحول المدني الديمقراطي. إذ بينما ترى فيه الأولى شراً يتنافى مع الإسلام الطائفي، ترى فيه الثانية كفراً بواحاً وخطراً يتهدد بيضة الدين!
وبطبيعة الحال —في الوقت نفسه— قوى الثورة مطالبة بالتصدي للنفوذ (المخابراتي المصري)؛ المضاد للثورة السودانية، و بالقدر نفسه مطالبة بإفشال مخططات الهيمنة والسيطرة (الاقليمية والدولية)، ورفض الالتحاق بها، مهما كان الثمن من حيث الخسارة أو الربح.
وفي الحقيقة، قوى الثورة لا تستطيع تعزيز اتجاهات الوحدة، بين مكوناتها الأساسية و تياراتها وروافدها، وفئاتها المختلفة. ولا أن تميز موقفها؛ أو تبني موقفاً مستقلاً ومتميزاً؛ من دون أن "تطور رؤية نظرية فكرية وسياسية متكاملة" للتغيير خاصة بها، وكذلك من دون أن يكون لها جدول أعمالها الخاص، الذي يرد على حاجات تحقيق برنامجها.
***
قوى الثورّة وبسبب الظروف القاسية، التي ظلت تعمل فيها، و أيضاً بسبب "الإحجام السياسي" لقسم كبير من (الرأي العام المثقف والسياسي)، لم تنجح في تجاوز التصورات القديمّة، التي يعود تاريخ صلاحيتها إلى انتفاضات ١٩٢٤ و ١٩٦٤ و١٩٨٥ وأساليب عمل القوى السياسية، التي أثرت فيها فترات (النضال السري) المزمن؛ وجعلتها متقوقعة على ذاتها، عاجزة عن (الإصلاح الحزبي)؛ وتأهيل نفسها بعقل وقلب مفتوحين؛ للانخراط في (تحالف واسع) يضم قوى عديدة ومتعددة، قادرة على تقديم تنازلات لبعضها البعض، وبلورة برنامج وطني فعلي، قابل للإنجاز والتحقق على أرض الواقع.
***
أن أدق توصيف للقوى السياسية السودانية، هو ما أشرنا إليه فيما سبق، بأنها أشبه بـ"مجموعات مصالح" ذات (برامج خاصة)، أو ذات (برامج وطنية نظرية)؛ لا طاقة لها على تحقيقها، ما جعل هذه القوى تبدو وكأنها "قوى تعبير" عن (نوايا) لا (قوى صراع سياسي) فعلي لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي.
كما أن مواقف الاستقطاب و التبعية، التي أبداها البعض في (قوى الثورة)، بما في ذلك بعض المنسوبين (للتنظيمات السياسية) و(لجان المقاومة) إبان حكومة حمدوك، وكذلك المواقف التي تم إبداؤها الآن —خلال هذه الحرب— وما رافق ذلك من انحياز بعض هؤلاء وأولئك للدعم السريع، أو التيار الرافض للحرب و للطرفين معاً، وتحول البعض الآخر، لدعم القوى الساعية لعزل الشعب عن الثورة والتغيير —الفلول وواجهاتهم— كل ذلك أثر بشكل كبير، في مصداقية (قوى الثورة). وحدّ من فرص نموها، وبالقدر نفسه أظهر هشاشة موقفها، وكرّس تشتتها وضعفها، وأوحى بأنها بعيدة عن التشكل الفاعل المستقل، الذي يمتلك جدول أعماله وإستراتيجيته الخاصين به، للتأثير في الأحداث الآن ومستقبلاً، إذا مضت هذه القوى التي تخوض الحرب في طريقها على هذا النحو الماثل!
***
بدت قوى الثورة خلال الصدمة الأولى للحرب، وكأنها لا تفكر بالفعل كقوى (مسؤولة ومؤهلة) (لخلافة) النظام الإسلاموطائفي المستبد، رُغم الدعوات التي وجهتها لها قوات الدعم السريع!
في الحقيقة بدت مشتتة ملتبسة التوجهات؛ في مشروع التغيير. فلم تبادر باستلام زمام المبادرة؛ لمنع أي (انقسامات مجتمعية) يُحدثها الفلول. وبدت —كما كانت دائماً— منذ اندلاع ثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة: كل ما تصبو إليه هو مجرد "مشاركة محدودة في السلطة"، أو (التأثير الثانوي) فيها؛ إما عن طريق (الحوار مع النظام الإسلاموطائفي)، أو التفاهم مع (القوى المخابراتية الاستعمارية) في الإقليم والعالم! دون أن تدرك أن اندلاع الحرب بحد ذاته، وتبني أحد طرفيها لمشروع قوى الثورة، يقتضي إنتاج موقف جديد، أو تطوير المواقف القديمّة وبلورتها، بحيث تستوعب حجم هذا الحدث وطبيعته، والتعامل معه بجسارة وشجاعة وجرأة غير مسبوقة.
فالحقيقة هي أنه ليس بإمكان (القوى الثورية).. أن تطمح لقيادة "التحول الديمقراطي المدني"، والقضاء على نظام التبعية والاستبداد، دون أن تُعرض نفسها —مهما كان الأمر— لشُبهة التعاون أو التفاهم مع الدعم السريع، الذي زعم أنه يتبني مشروع التغيير والتحول المدني الديمقراطي، وبالتالي تصطف معه ضد (القوى الإسلاموطائفية) وتدفعه لتطوير مواقفه من التيارات الإسلاموطائفية داخله، ومن القوى الاستعمارية الإقليمية والدولية، التي يُشاع تعاونه معها.
وفي كل الأحوال ليس بإمكان أي (قوة ثورية)، تريد بالفعل إنقاذ السودان من براثن الاستعمار الداخلي والإقليمي والدولي، أن تنجو من تشوه صورتها بالاتهامات الجاهزة، التي برع (الرفاق) أكثر من غيرهم، في إنتاجها وصياغتها شعراً ونثراً وشائعات! وليس بإمكان أي قوة ثورية، تراهن ضمنياً في تغيير أوضاع السودان البائسة، أو الوصول إلى (عقد اجتماعي جديد) بمصالحة وطنية، وهي ترجح الحوار مع فلول النظام الإسلاموطائفي، الذي أشعل هذه الحرب المدمرة، وحشد لها في سبيل العودة للسلطة واجهاته، واستجدى الإقليم والعالم بالإغراءات والعروض الخانعة لمساعدته على العودة!
فيما لا تولي تطوير مواقفها من الدعم السريع أي أهمية!! فاذا كنت تفكر مجرد تفكير في الحوار مع الفلول، الأجدى والأجدر —وبحسابات السياسة نفسها وموازين القوى العسكرية على الأرض— أن تفكر بدلاً عن ذلك في الحوار مع الدعم السريع!
ربما أن هذا الاضطراب في ردود أفعال قوى الثورة، يعود ابتداءاً إلى عدم الاعتراف بفشلها كقوى ثورة في (التكون) كفاعل مستقل وأصيل، بمعزل عن اختراقات القوى الاسلاموطائفية واليسار العقائدي الأممي والقومي (الشيوعي والبعث)، وكذلك نتيجة لفقر الإيمان بالذات وبالمستقبل، وضعف القدرة على قبول الآخرين المختلفين، الذين يشتركون مع هذه القوى؛ في "المبادئ العامة للتغيير، والتحول المدني الديمقراطي".
كل ذلك من الجهة الأخرى، يكشف إن الطريق لا يزال طويلاً لإعادة بناء قوى ثورية (قوى السودان الجديد)، القادرة على إعادة بناء السودان بعد الحرب، وتحقيق التحول المدني الديمقراطي، كيما تكون بالفعل بديلاً محتملاً وممكناً للقوى الإسلاموطائفية، التي حكمت (مركز السلطة) لعقود طويلة، ويتوقف ذلك أيضاً على النجاح في "خوض المعركة المزدوجة"، التي كنا قد اشرنا إليها في مقالنا السابق، ومن دون مهاودة ولا تردد ولا خوف، فهي معركة بقدر ما هي ضد "القوى العقائدية والشمولية في اليمين واليسار والطائفية"، فهي أيضا ضد الاستبداد الإسلاموطائفي والسلفية السياسية، وضد الاستعمار والتدخلات الإقليمية والدولية.
ويستدعي هذا الموقف رفض السير وراء اعلام الفلول وواجهاتهم، مهما بدت بعض هذه الواجهات في نواياها وخططها وطنية، أو مرتبطة بمصالح وطنية ورفضت القبول بالتدخلات الإقليمية والدولية. ومهما كانت أهدافها والمنافع الظاهرية، التي يمكن أن تحصدها القوى الراغبة في هذه التدخلات الأجنبية. وبصرف النظر عن تأييد جزء من (الرأي العام السوداني) الذي لوعه العنف والاستبداد لعقود طويلة، وروعته الحرب الجنونية الراهنة. وهذا يعني أنه لا يمكن إعادة بناء (قوى الثورة) من دون (مشروع مجتمعي) واضح وجامع لهذه القوى.
***
الراغبين في التدخل (الإقليمي والدولي)، كشر لا بد منه، ربما أن قبولهم يعود إلى افتقارهم للحس الوطني، أو هو قبول للتضحية على مضض بـ(سيادة السودان واستقلاله)، كما أشرت في مقالي السابق.
وفي ظني أن نظام الاستبداد والوصاية على الشعب الإسلاموطائفي البائد، بقدر ما كان مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بنظام السيطرة العالمية، و وكلائه في الإقليم ورهن اشارته —باعتراف صلاح قوش أن جهاز المخابرات الاسلاموطائفي الذي ترأسه، مرتبط ب ٥٥ جهاز مخابرات حول العالم ضمن ذلك سي آي إيه والموساد— بقدر ما ذلك يشكك في القوى التي تتصدر المشهد اليوم، نظراً لتعقيدات علاقاتها الاقليمية والدولية، وتشارك هذه العلاقات التي تنعكس بطبيعة الحال على (قوى الثورة) الداعية للتحول المدني الديمقراطي واستقلالية وسيادة السودان.
وفي سياق هذا الإرث، إذا ظهر أن هناك تناقضاً بين هذه القوى المختلفة، وقوى الهيمنة العالمية ووكلائها الإقليميين، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا تناقضاً مؤقتاً وجزئياً، وممكن حله بـ(تسوية جديدة) سواءاً عبر (المبادرة السعودية الأمريكية المشتركة)، أو الاتحاد الأفريقي والإيغاد أو أي مبادرة داخلية أو إقليمية أو دولية تُقترح في مقبل الأيام.
***
لقد ألحقت الحرب أضراراً بالغة، تعدت تدمير البنى التحتية، إلى تدمير البنى الاجتماعية نفسها. الامر الذي يقترح لاعادة البناء "خطط وإجراءات استثنائية"، قد تضع أسئلة كالديمقراطية والفدرالية على المحك.
وهنا لا أعني بالديمقراطية مثلاً التعددية الفارغة من المعنى، التي يستطيع أي نظام استبدادي باسم التغيير والثورة والتحول المدني، أن يركبها على مقاسه من دون أن تهدده بشيء، لذلك ما أعنيه أن يكون النظام القادم، مستمداً لشرعيته من (التفويض الشعبي)، وقائم على مبدأ (سيادة الشعب)، و(رفض الوصاية) من أي نوع سواء كانت دينية أو حزبية أو أيدولوجية أو سياسية عليه.
الوطنية لم تلتق في أي حقبة بالديمقراطية كما هي اليوم، ولم تتحول الديمقراطية إلى ضمانة استقلال الإرادة والقرار الوطنيين كما هي عليه اليوم، في مواجهة التدخلات السافرة للقوى الكبرى ووكلائها الإقليميين، في حياة شعب السودان واقتصاده المنهار.
باختصار لم يعد هناك مجال لسيادة وطنية مستقلة أو منفصلة عن سيادة الشعب، وكل سيادة قائمة على عكس ذلك، تغطي لا محالة انصياعاً قائماً أو كامناً من قبل (النخب) الذليلة، التي تعمل على إعداد نفسها للحكم، وهي في الغالب نخب مرتبطة بدرجة من الدرجات بسادة في الخارج، وهنا يطرح نموذج (الكتلة الديمقراطية) و(الحزب الاتحادي الأصل) أوضح أمثلة العمالة، إذ يعتقد هؤلاء أن سادتهم في مصر يضمنون لهم الوجود والبقاء والاستمرار لعقود قادمة، فيما يشبه إعادة إنتاج تجربة سودان الجمهورية الأولى البائدة.
أحمد ضحية
٩/٨/٢٠٢٣
لانسينغ، ميتشيغان
١.
https://sudanile.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%88%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%a8%d8%b9%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1/
٢. https://sudanile.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%88%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%a8%d8%b9%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1-2/
٣. https://sudanile.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%88%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%a8%d8%b9%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1-3/
ahmeddhahia@gmail.com
كيف رأت وترى قوى الثورة نفسها، وكيف رأت —خاصةً التنظيمات السياسية والمهنية— حلفائها وكيف ينظر هؤلاء وأولئك إلى أحلام هذا الشعب، الذي لعقود طويلة لم يهنأ يوماً واحداً؟
وهل هؤلاء وأولئك؛ صادقين فعلاً في تحقيق تطلعات وآمال وأشواق وطموحات هذا الشعب، أم أنهم يسعون باسمه لتحقيق أحلامهم الذاتية، كما كان الحال دوماً منذ ١٩٥٦، ظلوا ينسون واجباتهم ويتجاهلون مسؤولياتهم تجاه الشعب، بمجرد وصولهم على أكتافه المنهكة، إلى السلطة، بعد أن انحنى ظهره لطول ما حملهم عليه؟!
***
في ظل الاستنفار الجهوي، والتحشيد القبلي المستمر، من المستحيل وضع "سقف زمني" لنهاية الحرب. فهي لن تنتهي ما لم يتغير توازن القوى، وتتغير بذلك حدود وقيمّة مناطق النفوذ والسيطرة!
وبلغة أخرى الحرب لن تنتهي في أفضل الحالات، ما لم يهزم طرف الطرف الآخر؛ ويبسط سيطرته ونفوذه على مناطقه. و —بعد أن يحدث ذلك— أيا كان الطرف المنتصر، سيعمل على إحداث (تغيير ديمُغرافي) في مركز السلطة لصالحه، رُبما يكون مماثلاً لاستجلاب الخليفة عبد الله التعايشي لقبائل الغرب، أو مماثلاً للزحف الذي تم بعد سقوط المهدية؛ من قبل قبائل الشمال إلى الوسط. لتحقيق (توازن سكاني) موالي، مقابل مجموعات الغرب!
لضمان استقرار السلطة بيد الطرف المنتصر، سيكون التغيير الديمغرافي هذه المرّة، أكبر بكثير، وأكثر عمقاً وتأثيراً وفاعلية في مستقبل الدولة، والعلاقات التي تحكم مؤسساتها من جهة، وتربطها بالمواطنين من جهة أخرى، وقد يؤدي هذا (التغيير الديمغرافي) في (مركز السلطة)؛ إلى (خريطة سكانية جديدة) في الغرب والشرق والشمال والجنوب، وفقا لمنطق تحالفات (مركز السلطة) مع قوى الثورة والقبائل في هذه المناطق.
***
في يقيني أن أولئك الذين كانوا يخططون لهذه الحرب، ويقرعون لها (نقارة الورل)، لم يخطر على بالهم سؤال الاحتمالات العديدة للنتائج؛ التي قد تترتب عليها!
وفي الحقيقة واهم من ظن أن هذه الحرب؛ المسؤول الأول والأخير عنها (الفلول فقط)، فالحقيقة هي؛ أنها (صناعة الجميع) بدرجات متفاوتة. ووزرها يتحمله كذلك الجميع، بدءاً بـ(المواطنين البسطاء)؛ الذين كانوا يتذمرون من حِراكات الثوار ومسيراتهم السلمية، بدعوى أنها عطلت حياتهم! مع أنهم لم يحظوا ولا يوماً واحداً بحيّاة حقيقية (تليق بمواطن في وطنه!).
فهؤلاء ليسوا مسؤولين فقط لتذمرهم من (الثورة)؛ بل مسؤولين أيضاً لأنهم ظلوا يتفرجون على قتل الثوار اليافعين، برصاص "كتائب الظل واستخبارات الجيش وجهاز الأمن والمخابرات". ودعموا التحريض ضد (حكومة حمدوك) والتشويه المتعمد لسياساتها، وإشاعة مناخ من المخاوف والخطورة المزعومة، التي تستهدف (الأخلاق والعقيدة والوطن)؛ وهللوا وكبروا (للانقلاب الكيزاني المصري) وتعايشوا معه، بزعم أنه يحفظ البلاد من "التحلل والتفسخ الأخلاقي والاحتراب الأهلي والأعداء الخارجيين".
متناسين بهذا الزعم الذي لا يقف على ساقين، أن الفلول هم من ظل يوفر مناخ هذا التحلل والاحتراب.. وهم من سعوا للتطبيع مع إسرائيل.. وهم من أغرقوا المجتمعات السودانية بالمخدرات.. وهم من أطلقوا عصابات (تسعة طويلة و النيغرز)، وأنشأوا الميليشيات؛ ونشروا خطاب الكراهية والفتن القبلية!
صحيح أن الكثيرون من هؤلاء المواطنين البسطاء، وقعوا ضحية خطابات (زعماء إدارة أهلية) جهلاء فاسدين كالمدعو "محمد الأمين ترك وشيبة ضرار وأبو الخرطوم المزعوم". كما وقعوا ضحية دعاية رجال دين فاسدين كالطيب الجد، وأئمة مساجد منافقين وجماعات السلفيين الانتهازيين والطفيليين. هؤلاء الأنبياء الكذبة الذين ظلوا ينتحبون على المنابر، وهم يشتمون (المدنية) التي تهدد (بيضة الدين)، في تماهي تام مع خُطط الفلول.
هؤلاء وأولئك ظلوا يؤدون بوعي أو دونه، دور (المغفل النافع) بدعمهم (الانقلاب على الثورة) والتمهيد للحرب، التي لم يظنوا أنهم في —التحليل النهائي— إنما يمثلون أحد الأطراف الأساسية، التي مهدت لها و أشعلت نيرانها، منذ اصطفوا في (حلف الموز) الكارّثي؛ الذي جمعهم بكل "هوام الأرض من (الأرادلة)، وبغاث الطير من التيار الإسلامي المريض!"..
وأنهم هم وليس غيرهم؛ من أذكى نيران الحرب، منذ اشرعوا حلاقيمهم ضد (مدنية الدولة)، وتدخلوا بصورة سافرة في "تغيير مناهج التعليم" و(الاتفاقيات الدولية!)، وشوهوا عمداً كل شئ وحرفوه عن مقاصده الحقيقية.
الحقيقة التي لا تنتطح حولها عنزتين، أن هؤلاء هم من اتخذوا قرار هذه الحرب اللعينة، وعبأوا البسطاء في سبيلها.. بل نفس الأصوات التي كانت تستخدم (منابر المساجد) كمنصات للدعاية (ضد حكومة الثورة)، هي نفسها التي ظلت —ومن نفس المساجد— أثناء الحرب؛ تستنفر الشباب للقتال!
وللمفارقة الأصوات نفسها هي التي —تستخدم ميكرفونات المساجد نفسها— طلبا للتبرع بالدّم لإنقاذ (جرحى الفلول) المتكدسين في (مستشفى النو)، والعون لحفر (قبور القتلى) في حرب وصفها طرفيها (المعلنين) منذ اندلاعها "أنها حرب عبثية!".
***
في ظل دولة (أقلية استعمارية فاشلة) كالدولة السودانية، التي لا ترتكز على أي (نظام قانوني أو سياسي)، بل تعتمد بصورة رئيسية؛ على ما أرساه الاستعمار من نظم وقواعد (أمنية عسكرية وإدارية) غاشمة ١٨٩٨—١٩٢٥، كدولة لا تتكئ على أي (نظام دستوري) يمثل خيارات الشعب! من المستحيل في ظل مثل هذه الدولة؛ التي نهض جيشها على هذا (الأساس الاستعماري)، دون أن تهدمه بعد خروج المستعمر، وتعيد بنائه وبناء نفسها كأمة وكدولة وطنية مستقلة من علاقات الاستعمار والتبعية، على أسس وطنية تحترم (التنوع والمواطنة)..
من المستحيل في دولة بهذه المواصفات، أن تكون هناك وظيفة بمسمى (التداول السلمي للسلطة)، وذلك لأن الدولة باقتصادها المختطف ومؤسساتها الفاسدة، ومواردها المنهوبة. وأجهزتها العسكرية والأمنية والشرطية، وُجهت منذ لحظة التأسيس الاستعمارية الأولى، لتحقيق "غاية واحدة: هي قطع الطريق على التداول السلمي للسلطة"، وبالتالي القضاء على أي فرصة، تساعد على نشوء معارضة حقيقية (ليست مخترقة أو ملوثة) عن طريق (شبكات المصالح المعقدة) التي تربط قوى المعارضة المحتملة، بهذه الدولة الفاسدة.
والحال كذلك؛ لا يمكن الزعم، أن في مثل هذه البيئة العطنة، بالإمكان أن تنمو الأحزاب والتنظيمات السياسية والتحالفات، بصورة معافاة. أوتزدهر بصورة نزيهة. وقد رأينا كيف صِيغت (الوثيقة الدستورية) —في الحقيقة للحفاظ على الدولة العميقة وليس تقويضها— ولفتح ثغرات الإفلات من العقاب لمجرمين النظام البائد، وليس محاكمتهم.
وفي الواقع (الوثيقة الدستورية) كانت بمثابة أوضح تعبير عن "فساد النظام العدلي والقانوني" بكامله في هذه الدولة الفاسدة، التي تم إرساء دعائمها من قبل (قوى الاستعمار المحلي)؛ خلال عقود طويلة. وهي ثمرة من ثمار (تعميم وظيفة الأمن) على حساب (الحرية والعدالة)، بالتالي على حساب وظائف الاقتصاد والسياسة و(السلام المجتمعي).
ومن زاوية أخرى، بدلاً من أن تُصمم (الوثيقة الدستورية) على قيمة (العدالة والعقاب والمحاسبة)، أفضت (ثغراتها المدروسة)؛ إلى (تنمية أدوات العنف و أجهزة القمع والاستبداد)، ولذلك شهد عصابات تسعة طويلة والنيغرز وكارتيلات المخدرات و(الدعم السريع) نمواً مضطرداً في كنفها.
كما أن هذه (الثُغرات الدستورية)، أفضت من الجهة الأخرى إلى (انشقاقات) في (تحالف قوى الثورة) الرئيسي، ومن هنا تحوّلت بعض القوى إلى "محض مجموعات منشقين" —بلغة الروائي نيكوس كازنتزاكس؛ في رائعته الجسورة (الحرية أو الموت)، أو كما كان يسميها الرفاق الشيوعيين، قبل أن يعطيهم التاريخ قفاه، عندما كانوا يمسحون عرق الجباه الشُّم، في كراكيرهم السرية تحت الأرض، المسوغات لإنتاج مفردات (التخوين) لخصومهم!
فالمنشق حسب (الكتب المقدسة) للرفاق، هم الخارجين على "الماركسية التقليدية والوطن معاً"، وبالتالي يتوجب أن يصبحوا أهدافاً تحت (طائلة التخوين)؛ والضغط المتواصل بأدوات وآليات القمع السياسي "الشعاراتي الهتافي"، و الاتهام والتشهير والتشويه، حتى يمكن عزلهم ك(بصل فاسد) عن (شوالات الرأي العام)، وتخويف هذا (الرأي العام) من الاقتراب منهم، وإلا سيتم استهدافه هو الآخر، ويصبح بذلك الشعب كله مشتبهاً فيه؛ أو متهماً كمنشق وبالتالي عرضة للقمع، رُغم أنف التغزل الشعاري فيه بـ(يا شعبنا الجسور والعظيم والأبي.. ووو!) في البيانات والمناشير.
وهكذا حوّل الرفاق من كراكيرهم السرية المعنوية، حتى في (زمن الحريات)، كل من ينظرون إلى المشهد من زاوية مختلفة عن زاوية نظرهم، إلى خونة لدم الشهداء والوطن والمؤمنين بكتبهم المقدسة؛ أو الضالين عن الديالكتيك والمغضوب عليهم من جماهير الشغيلة، الذين هم النواة الصلبة للثورة نفسها.
وفي الواقع كانت تلك أكبر خدمة يقدمها الرفاق (للدولة العميقة) أو (الموازية) في تسهيل عمل خططها، لإجهاض أي محاولة ممكنة للتحول المدني الديمقراطي، وتحويل شعارات الثورة إلى واقع ملموس، بل وإشعال الحرب للقضاء نهائياً؛ على التحول المدني الديمقراطي.
والحال كذلك؛ لا يمكن أن يكون لدى قوى المعارضة الأخرى؛ أي أمل بالتطور والتحوّل إلى (قوى اجتماعية فاعلة ووطنية) قادرة على أن تنافس القوى المتحكمة في (مركز السلطة)، أو أن تحلم يوماً ما، بأن تكون في "مركز المسؤولية الوطنية العامة"، و تبلور وهي تحت وطأة هذا الضغط من التخوين المستمرة والدائم، أي "رؤية أو إستراتيجية وطنية شاملة"، تمنع اندلاع الحرب من أساسها.
وبالتالي ليس بإمكانها أن تطمح إلى أن تصبح "مركز استقطاب لجماهير الشغيلة الناقمين على الفلول" أو قوى الثورة المنظمة، بما في ذلك حزب الرفاق المبرئين من كل عيب ذات نفسه! وكذلك لجان المقاومة المستاءة من (قوى مركز السلطة)، في معركتها السياسية الفكرية الأخلاقية (لإحلال نظام جديد) محل (النظام الحاكم)، الذي يقر الجميع بما في ذلك "طوب الأرض"، بفساده واحتكاريته وطفيليته و عجزه وفشله، واعتماده على أدوات ووسائل العنف لتسيير الحيّاة.
وفي الواقع لم يكن النظام الإسلاموطائفي المتحكم في (مركز السلطة)؛ بحاجة لأحد لتقديم دليل؛ على أن استقراره واستمراره لثلاث عقود؛ نهض في الواقع على عاتق ابتزاز الرأي العام؛ بأن من المستحيل تحقيق (أي تغيير) بالطرق السياسية، وأن من يريد التغيير ليس لديه وسيلة أخرى، غير (اللجوء إلى القوة)؛ وبالتالي التحوّل من (ثوري ومناضل) إلى (مجرم حرب أو إرهابي)، وهي سُنة سنها رئيس النظام البائد وحزبه المتورط في هذه الحرب؛ بتأكيده لقوى المعارضة "أن من أراد السلطة فليحمل السلاح". يداعب بذلك أشواق حزب الأمة الذي درج على صناعة المليشيات، وأحلام الرفاق الجيفاريين يتقدمهم (حميد)، الذين لطالما زعمت كوادرهم الخطابية؛ أن الحزب الذي (دفن دقنه)، دفن مع هذا الدقن السلاح في أمبدة: غلطان الحزب الجمّ سلاحو وخيلو تناهد.. ماك غلطان!
غلطان زمنكْ واصلاً وطنكْ ياها جراحو وعندك شاهدْ رَفْضَك.. سَجَنَكْ.. شان الكادح
***
لم تتردد بعض (النُخب المصرية) المتعاونة مع المخابرات، في عقابيل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في ٢٠١٨ في بذل النُصح لإقناع بعض "قوى الثورة السودانية" بالكف عن المطالبة بـ(التحول الديمقراطي المدني)، مرددين مزاعم القوى المتحكمة في (مركز السلطة)، بأن هذه القوى؛ لن تسلم بالطرق السلمية سلطة استولت عليها بقوّة السلاح.
وبالتالي ظلت الدعوة المباشرة وغير المباشرة (للتغيير بالقوة)، ماثلة وحاضرة في كل الأوقات؛ منذ ما يسميه الرفاق بمتراس الحركة الوطنية —أي حركة ١٩ يوليو ١٩٧١— وتصاعدت أكثر منذ ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وهو ما قاد لانتشار الحركات المسلحة في هوامش السودان. و قاد كذلك في النهاية إلى اندلاع هذه الحرب اللعينة.
***
إن استقرار أي نظام؛ رهن لنجاحه في فرض معادلة صعبة جداً على أي (قوى ثورية ديمقراطية) مناهضة له.. معادلة تنهض في تحويل "ساحة التنافس السياسي" إلى "ساحة مواجهة عسكرية" فحسب!.. مثلما فعل نظام ٣٠ يونيو ١٩٨٩ ضد التجمع الوطني الديمقراطي، فنشأت "قوات التحالف السودانية"، كاقوى فصائل جبهة الشرق! ولذلك ليس من المستغرب؛ أن يفشل الفلول في استقطاب كل جماهير الشعب؛ الناقم على تردي الاقتصاد وانهيار القطاعات الخدمية، والتي تدرك أن كل مؤسسات النظام وممارساته، قائمة على الحيلولة دون نشوء قوى سياسية؛ قادرة على تحقيق التداول السلمي، أو جعل وجود مثل هذه القوى احتمالاً قائماً!
وهذا بطبيعة الحال لا يشمل الحركات المسلحة، التي اعتمدت في مواجهتها لمركز السلطة، على الحرب في الأطراف، خصوصاً بعد فشل محاولتها اليتيمة في ٢٠٠٨ لاحتلال مركز السلطة عبر (غزوة أم درمان)؛ التي قام بها خليل ابراهيم.
***
أبرز مفاصل المشهد الذي رسمته الحرب بين قوات الدعم السريع وميليشيا الحركة الإسلاموطائفية، داخل الجيش يتجلى في: الفريق الأمني الاستخباراتي؛ الذي يشرف على (كتائب الظل والقوات النظامية).. والفريق الثاني (قوى الثورة الحقيقية)؛ الراغبة في تحقيق مطلب التغيير والتحول المدني الديمقراطي، وهي شئنا أم أبينا، تشمل قوات الدعم السريع.. والفريق الثالث يتمثل في القوى الإقليمية والدولية؛ التي ظلت تتدخل منذ لحظة اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، أو المستعدة للتدخل الآن عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً.
***
هذا الوضع الهش والقلق لقوى الثورة؛ التي لا تستند إلى وظيفة بنيوية في النظام، ولا إلى قاعدة اجتماعية ثابتة —كما أثبتت هذه الحرب، التي ضمن مفارقاتها انضمام أبرز الميليشيات الجهوية، التي أسسها الفلول (درع الشمال) إلى قوات الدعم السريع— وهذا يفسر إلى جانب هشاشة الوضع، ضعف قوى الثورة (البنيوي السياسي والفكري والتنظيمي مجتمعاً)، وبالتالي تشتتها وتفتتها، والفراغ الكبير الذي فشلت في ملئه، لافتقارها إلى رؤية وإستراتيجية مستقلتين.
كما يفسر المأزق الذي تعيشه الآن؛ وتناقض اختياراتها أو الإحراجات التي تجد نفسها حبيستها؛ في الاختيار بين "الانصياع لإرادة المخابرات المصرية وقوى إقليمية"، للقبول بأن تكون الحركة الإسلاموطائفية وواجهاتها، جزءاً من (الحوار الواسع) المتوقع؛ أو التدخل الأجنبي المباشر.. وهما أمران أحلاهما مر!
فهي إما أن تقبل —قوى الثورة— على نفسها بأن تظل هامشية ومهمشة، لا وزن ولا مكان ولا قيمّة حقيقية لها، أو أن تطور من موقفها من "قوات الدعم السريع"، بدلاً عن ترك ميليشيات وواجهات الفلول تحتوي هذه القوات، وتضرب في مقتل نواتها الصلبة ك(قوى ريف مهمشة) صاحبة مصلحة في التغيير.
وبطبيعة الحال مثل هذا التوجه في التفكير، يقتضي أولاً أن ترأب قوى الثورة ما لحق بها من تصدعات في الرؤية وكأجسام ثورية، وبالتالي يسهم ذلك في تخفيف حدة الانقسامات المجتمعية، بحيث يصبح ممكناً النظر إلى الدعم السريع ك"قوى إجتماعية حقيقية تمد جذورها في الريف" أصلية وفاعلة أو ماسكة داخلية أو خارجية، في سياق كتلة السودان التاريخية.
ومن هنا يجب أن لا تغفل (قوى الثورة)؛ السعي الجاد لإيجاد أو تدعيم "التيار الثوري"، الذي يحمل ذات توجهاتها: "الداعية لمدنية الدولة"؛ داخل قوات الدعم السريع؛ بدلاً عن ترك تيار الإسلاموطائفيين يعبث داخل هذه القوات!.. أو الرهان على تدعيم ومنهجة (إرادة التغيير) لدى قيادة الدعم السريع المخترقة؛ من قبل بقايا الحركة الإسلاموطائفية.
***
في نظام تُلغى فيه، أو تكاد تُلغى جميع (الحريات الفردية)؛ وتحرّم وتُمنع (التكتلات والتجمعات والحِراكات الجماهيرية) وتفرض فيه السلطة سيطرتها على (النقابات) ووصايتها على (المنظمات المدنية و الأهلية)، في مثل هذا النظام —النظام البائد— من الصعب أن تنشأ (قوى حرية وتغيير)؛ ذات دعوة ورؤية وممارسة ديمقراطية ومدنية و وطنية.
وفي الحقيقة؛ إن ما عرفه السودان طوال تاريخه، أشبه بـ(مجموعات الرأي أو المصالح) أو (مجموعات الضغط)؛ المتعددة والمتغيرة والمتبدلة. وليس (قوى سياسية) بالمعنى العلمي للكلمة، وهو ما يفسر الانقسامات داخل "القوى السياسية" و الانشطارات الأميبية داخل "الحركات المسلحة"، والتناسل الطفيلي لظواهر لطالما عرفت بـ(تنظيمات التوالي) أو (أحزاب الفكة).. عشرات أو مئات القوى: تنظيمات سياسية وحركات مسلحة؛ في بلد ظل يعاني تاريخياً من (الأمية الأبجدية والسياسية)؛ والسيولة الأمنية والهشاشة. خصوصاً في الأطراف.
وكل هذه التنظيمات سواء المدنية أو المسلحة فعلاً، أو الوهمية.. هي في الحقيقة —بما في ذلك القوى الأساسية وروافدها— ليست قوى منظمة ومؤهلة؛ أو لديها الإمكانيات الفكرية والمعرفية المعاصرة وكذلك لا تمتلك المعرفة السياسية الضرورية، كي تتحول إلى (فاعل حقيقي مستقل)؛ في الحياة السياسية والاجتماعية للسودان، ولا هي جاهزة كي تحل بعد الحرب، محل النخب التي كانت تتحكم في (مركز السلطة)؛ الذي يقود (كامل الدولة)؛ ويسير شؤون المجتمعات؛ على قاعدة المواطنة بلا تمييز.
إن النظم الاسلاموطائفية السودانية المتعاقبة منذ ١٩٥٦، ظلت تعمل باستمرار تعمل على منع تطور وازدهار (القوى الثورية المدنية)؛ بحيث تصبح (قوى جماهيرية حيّة)؛ وقوية قادرة على أن تصبح منافساً، أو تُشكل بديلاً فعلياً للقوى الإسلاموطائفية، التي ظلت تتحكم في (مركز السلطة). لأن وجود مثل هذا المنافس يلغي بالضرورة —سواءاً أحصل التداول السلمي على السلطة، أو لم يحصل— هيمنة الأقلية، وبالتالي التسلط على الحكم، والانفراد المستمر بالإنابة عن الشعب ضد مصالحه الحقيقية.
***
القوى الإسلاموطائفية ظلت في كل العهود (الديمقراطية والعسكرية) تستخدم (غياب البديل)؛ كذريعة لرفض التغيير والتداول معاً. وتعمل في الوقت نفسه، على أن لا يكون هناك بديلاً لها، وفي سياق ذلك شوّهت في وعي البسطاء المفاهيم النبيلة، التي تنادي بها قوى التنوير والتحديث والثورة، كمفاهيم "المدنية والعلمانية والديمقراطية"، وعلاقة الدين بالدولة، بل في إضعافها لهذه القوى، أفرغت حتى الشعارات العزيزة على الشعب، كمفهوم الفدرالية من مضمونه النبيل.
لذلك كان من المستحيل أن تكون هناك (قيادات سياسية حقيقية متجددة)؛ مع امتناع أي شكل من أشكال التفاعل والتواصل بين "النخب الثورية" في (كراكيرها) النفسية السرية، أو في منافيها داخل وخارج الوطن، أو في (جخانين) مسارح "حروب الغوريلا"، وبين جماهير الشعب. مع اشتداد قمع أجهزة الأمن لسبعة عقود، وخوف غالبية جماهير الشعب، من الانخراط في أي عمل سياسي أو جماعي، ما يفسر العجز في تحقيق شعار "الإضراب السياسي، العصيان المدني والانتفاضة الشعبية الشاملة" الذي ظل مرفوعا منذ ٢١ أكتوبر ١٩٨٩ في عقابيل التوقيع على ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي، كأكبر تحالف سياسي نقابي لإسقاط نظام ٣٠ يونيو ١٩٨٩. بل والمثال القريب، فشل هذا الشعار في إسقاط انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، الذي انتهى بالسودان إلى هذه الحرب!
وبهذا المعنى؛ نجد أن ضعف غالبية قوى الثورة، ونقص قدراتها السياسية والفكرية والمعرفية المعاصرة، يُشكل إدانة فادحة لنُظم الحكم المتعاقبة، قبل أن يكون إدانة لقوى الثورة، وكذلك إدانة لأسلوب ممارسة هذه الأنظمة (الديمقراطية والعسكرية) للسلطة، بالتالي وقوع انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ما هو إلا نتيجة لهذا الفشل المتراكم لشعار "الاضراب السياسي، والعصيان المدني والانتفاضة الشعبية الشاملة" في التحقق، باعتبار أن ضعف قوى الثورة نفسها ليس سبباً من الأسباب، وإنما نتيجة من نتائج الاستبداد والفساد الإسلاموطائفي المستمر منذ ١٩٥٦.
وهنا لا ينبغي أن يُفهم من محاولتنا تفسير "ضعف قوى الثورة" وتشتتها النظري والتنظيمي والسياسي، كسعي لتبرئتها من المسؤولية، أو تبرير العجز والقصور، خصوصاً في فترة (حكومة حمدوك)، فـ(التفسير لا يعني التبرير). والواقع المادي والتاريخي؛ ليس قدراً لا مفر منه! فهو (مجال مفتوح) للتغيير والتعديل وإعادة التشكيل.
وعلى هذا الأساس نقترح في خواتيم هذه السلسلة من المقالات، أن تطور قوى الثورة موقفها من قوات الدعم السريع. وبطبيعة الحال ذلك يفترض الوعي النظري الدقيق والموضوعي؛ بتعقيدات الحالة السودانية. وأفضل الطرق لتفادي "تمزق الدولة والاحتراب الأهلي".
***
رُبما أن من أسباب ضعف قوى الثورة، وعجزها في (تفكيك مركز السلطة الإسلاموطائفي)، وكسر حلقة العجز؛ التي تجلت بوضوح في العجز عن الحفاظ على "استمرارية لجنة تفكيك التمكين واسترداد الأموال العامة". هو التقاعس في ميدان "الاجتهاد النظري والعملي الثوري"، أو نقص الجهود المبذولة في هذا الإطار، على نحو يُغلب مصلحة الوطن؛ على مصلحة الحزب! ومصلحة الشعب على المحاصصات بين الأحزاب.
ويبدو لي أنه لو كانت (قوى الثورة) قد استغلت (فترّة حمدوك)؛ في ترتيب صفوفها؛ وتعزيز موقعها كقوى ثورة حقيقية، وتمكين نفسها بمساعدة (حكومة حمدوك) وقتها؛ من التحول تدريجياً إلى (مركز استقطاب لقوى التغيير الاجتماعية)، بتوفير الحكومة للموارد البشرية والمادية خلال:
١. الانفتاح المتبادل بين (قوى الثورة المختلفة)؛ لتكوين (قطب ديمقراطي) قوي وواسع، يتسع لجميع قطاعات الرأي العام الديمقراطي الوطني، ويوحدها في معركة تغيير المناهج، والتداول السلمي للسلطة ومدنية الدولة.
٢. العمل بشكل مستمر، على تمييز موقف هذا (القطب الديمقراطي)، عن مواقف القوى الإسلاموطائفية، التي تخوض صراعها ضده، سواء أكانت القوى (الطائفية القديمة) أو قوى (الإسلام السياسي) والقوى (السلفية) المعادية بطبيعتها للتحول المدني الديمقراطي. إذ بينما ترى فيه الأولى شراً يتنافى مع الإسلام الطائفي، ترى فيه الثانية كفراً بواحاً وخطراً يتهدد بيضة الدين!
وبطبيعة الحال —في الوقت نفسه— قوى الثورة مطالبة بالتصدي للنفوذ (المخابراتي المصري)؛ المضاد للثورة السودانية، و بالقدر نفسه مطالبة بإفشال مخططات الهيمنة والسيطرة (الاقليمية والدولية)، ورفض الالتحاق بها، مهما كان الثمن من حيث الخسارة أو الربح.
وفي الحقيقة، قوى الثورة لا تستطيع تعزيز اتجاهات الوحدة، بين مكوناتها الأساسية و تياراتها وروافدها، وفئاتها المختلفة. ولا أن تميز موقفها؛ أو تبني موقفاً مستقلاً ومتميزاً؛ من دون أن "تطور رؤية نظرية فكرية وسياسية متكاملة" للتغيير خاصة بها، وكذلك من دون أن يكون لها جدول أعمالها الخاص، الذي يرد على حاجات تحقيق برنامجها.
***
قوى الثورّة وبسبب الظروف القاسية، التي ظلت تعمل فيها، و أيضاً بسبب "الإحجام السياسي" لقسم كبير من (الرأي العام المثقف والسياسي)، لم تنجح في تجاوز التصورات القديمّة، التي يعود تاريخ صلاحيتها إلى انتفاضات ١٩٢٤ و ١٩٦٤ و١٩٨٥ وأساليب عمل القوى السياسية، التي أثرت فيها فترات (النضال السري) المزمن؛ وجعلتها متقوقعة على ذاتها، عاجزة عن (الإصلاح الحزبي)؛ وتأهيل نفسها بعقل وقلب مفتوحين؛ للانخراط في (تحالف واسع) يضم قوى عديدة ومتعددة، قادرة على تقديم تنازلات لبعضها البعض، وبلورة برنامج وطني فعلي، قابل للإنجاز والتحقق على أرض الواقع.
***
أن أدق توصيف للقوى السياسية السودانية، هو ما أشرنا إليه فيما سبق، بأنها أشبه بـ"مجموعات مصالح" ذات (برامج خاصة)، أو ذات (برامج وطنية نظرية)؛ لا طاقة لها على تحقيقها، ما جعل هذه القوى تبدو وكأنها "قوى تعبير" عن (نوايا) لا (قوى صراع سياسي) فعلي لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي.
كما أن مواقف الاستقطاب و التبعية، التي أبداها البعض في (قوى الثورة)، بما في ذلك بعض المنسوبين (للتنظيمات السياسية) و(لجان المقاومة) إبان حكومة حمدوك، وكذلك المواقف التي تم إبداؤها الآن —خلال هذه الحرب— وما رافق ذلك من انحياز بعض هؤلاء وأولئك للدعم السريع، أو التيار الرافض للحرب و للطرفين معاً، وتحول البعض الآخر، لدعم القوى الساعية لعزل الشعب عن الثورة والتغيير —الفلول وواجهاتهم— كل ذلك أثر بشكل كبير، في مصداقية (قوى الثورة). وحدّ من فرص نموها، وبالقدر نفسه أظهر هشاشة موقفها، وكرّس تشتتها وضعفها، وأوحى بأنها بعيدة عن التشكل الفاعل المستقل، الذي يمتلك جدول أعماله وإستراتيجيته الخاصين به، للتأثير في الأحداث الآن ومستقبلاً، إذا مضت هذه القوى التي تخوض الحرب في طريقها على هذا النحو الماثل!
***
بدت قوى الثورة خلال الصدمة الأولى للحرب، وكأنها لا تفكر بالفعل كقوى (مسؤولة ومؤهلة) (لخلافة) النظام الإسلاموطائفي المستبد، رُغم الدعوات التي وجهتها لها قوات الدعم السريع!
في الحقيقة بدت مشتتة ملتبسة التوجهات؛ في مشروع التغيير. فلم تبادر باستلام زمام المبادرة؛ لمنع أي (انقسامات مجتمعية) يُحدثها الفلول. وبدت —كما كانت دائماً— منذ اندلاع ثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة: كل ما تصبو إليه هو مجرد "مشاركة محدودة في السلطة"، أو (التأثير الثانوي) فيها؛ إما عن طريق (الحوار مع النظام الإسلاموطائفي)، أو التفاهم مع (القوى المخابراتية الاستعمارية) في الإقليم والعالم! دون أن تدرك أن اندلاع الحرب بحد ذاته، وتبني أحد طرفيها لمشروع قوى الثورة، يقتضي إنتاج موقف جديد، أو تطوير المواقف القديمّة وبلورتها، بحيث تستوعب حجم هذا الحدث وطبيعته، والتعامل معه بجسارة وشجاعة وجرأة غير مسبوقة.
فالحقيقة هي أنه ليس بإمكان (القوى الثورية).. أن تطمح لقيادة "التحول الديمقراطي المدني"، والقضاء على نظام التبعية والاستبداد، دون أن تُعرض نفسها —مهما كان الأمر— لشُبهة التعاون أو التفاهم مع الدعم السريع، الذي زعم أنه يتبني مشروع التغيير والتحول المدني الديمقراطي، وبالتالي تصطف معه ضد (القوى الإسلاموطائفية) وتدفعه لتطوير مواقفه من التيارات الإسلاموطائفية داخله، ومن القوى الاستعمارية الإقليمية والدولية، التي يُشاع تعاونه معها.
وفي كل الأحوال ليس بإمكان أي (قوة ثورية)، تريد بالفعل إنقاذ السودان من براثن الاستعمار الداخلي والإقليمي والدولي، أن تنجو من تشوه صورتها بالاتهامات الجاهزة، التي برع (الرفاق) أكثر من غيرهم، في إنتاجها وصياغتها شعراً ونثراً وشائعات! وليس بإمكان أي قوة ثورية، تراهن ضمنياً في تغيير أوضاع السودان البائسة، أو الوصول إلى (عقد اجتماعي جديد) بمصالحة وطنية، وهي ترجح الحوار مع فلول النظام الإسلاموطائفي، الذي أشعل هذه الحرب المدمرة، وحشد لها في سبيل العودة للسلطة واجهاته، واستجدى الإقليم والعالم بالإغراءات والعروض الخانعة لمساعدته على العودة!
فيما لا تولي تطوير مواقفها من الدعم السريع أي أهمية!! فاذا كنت تفكر مجرد تفكير في الحوار مع الفلول، الأجدى والأجدر —وبحسابات السياسة نفسها وموازين القوى العسكرية على الأرض— أن تفكر بدلاً عن ذلك في الحوار مع الدعم السريع!
ربما أن هذا الاضطراب في ردود أفعال قوى الثورة، يعود ابتداءاً إلى عدم الاعتراف بفشلها كقوى ثورة في (التكون) كفاعل مستقل وأصيل، بمعزل عن اختراقات القوى الاسلاموطائفية واليسار العقائدي الأممي والقومي (الشيوعي والبعث)، وكذلك نتيجة لفقر الإيمان بالذات وبالمستقبل، وضعف القدرة على قبول الآخرين المختلفين، الذين يشتركون مع هذه القوى؛ في "المبادئ العامة للتغيير، والتحول المدني الديمقراطي".
كل ذلك من الجهة الأخرى، يكشف إن الطريق لا يزال طويلاً لإعادة بناء قوى ثورية (قوى السودان الجديد)، القادرة على إعادة بناء السودان بعد الحرب، وتحقيق التحول المدني الديمقراطي، كيما تكون بالفعل بديلاً محتملاً وممكناً للقوى الإسلاموطائفية، التي حكمت (مركز السلطة) لعقود طويلة، ويتوقف ذلك أيضاً على النجاح في "خوض المعركة المزدوجة"، التي كنا قد اشرنا إليها في مقالنا السابق، ومن دون مهاودة ولا تردد ولا خوف، فهي معركة بقدر ما هي ضد "القوى العقائدية والشمولية في اليمين واليسار والطائفية"، فهي أيضا ضد الاستبداد الإسلاموطائفي والسلفية السياسية، وضد الاستعمار والتدخلات الإقليمية والدولية.
ويستدعي هذا الموقف رفض السير وراء اعلام الفلول وواجهاتهم، مهما بدت بعض هذه الواجهات في نواياها وخططها وطنية، أو مرتبطة بمصالح وطنية ورفضت القبول بالتدخلات الإقليمية والدولية. ومهما كانت أهدافها والمنافع الظاهرية، التي يمكن أن تحصدها القوى الراغبة في هذه التدخلات الأجنبية. وبصرف النظر عن تأييد جزء من (الرأي العام السوداني) الذي لوعه العنف والاستبداد لعقود طويلة، وروعته الحرب الجنونية الراهنة. وهذا يعني أنه لا يمكن إعادة بناء (قوى الثورة) من دون (مشروع مجتمعي) واضح وجامع لهذه القوى.
***
الراغبين في التدخل (الإقليمي والدولي)، كشر لا بد منه، ربما أن قبولهم يعود إلى افتقارهم للحس الوطني، أو هو قبول للتضحية على مضض بـ(سيادة السودان واستقلاله)، كما أشرت في مقالي السابق.
وفي ظني أن نظام الاستبداد والوصاية على الشعب الإسلاموطائفي البائد، بقدر ما كان مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بنظام السيطرة العالمية، و وكلائه في الإقليم ورهن اشارته —باعتراف صلاح قوش أن جهاز المخابرات الاسلاموطائفي الذي ترأسه، مرتبط ب ٥٥ جهاز مخابرات حول العالم ضمن ذلك سي آي إيه والموساد— بقدر ما ذلك يشكك في القوى التي تتصدر المشهد اليوم، نظراً لتعقيدات علاقاتها الاقليمية والدولية، وتشارك هذه العلاقات التي تنعكس بطبيعة الحال على (قوى الثورة) الداعية للتحول المدني الديمقراطي واستقلالية وسيادة السودان.
وفي سياق هذا الإرث، إذا ظهر أن هناك تناقضاً بين هذه القوى المختلفة، وقوى الهيمنة العالمية ووكلائها الإقليميين، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا تناقضاً مؤقتاً وجزئياً، وممكن حله بـ(تسوية جديدة) سواءاً عبر (المبادرة السعودية الأمريكية المشتركة)، أو الاتحاد الأفريقي والإيغاد أو أي مبادرة داخلية أو إقليمية أو دولية تُقترح في مقبل الأيام.
***
لقد ألحقت الحرب أضراراً بالغة، تعدت تدمير البنى التحتية، إلى تدمير البنى الاجتماعية نفسها. الامر الذي يقترح لاعادة البناء "خطط وإجراءات استثنائية"، قد تضع أسئلة كالديمقراطية والفدرالية على المحك.
وهنا لا أعني بالديمقراطية مثلاً التعددية الفارغة من المعنى، التي يستطيع أي نظام استبدادي باسم التغيير والثورة والتحول المدني، أن يركبها على مقاسه من دون أن تهدده بشيء، لذلك ما أعنيه أن يكون النظام القادم، مستمداً لشرعيته من (التفويض الشعبي)، وقائم على مبدأ (سيادة الشعب)، و(رفض الوصاية) من أي نوع سواء كانت دينية أو حزبية أو أيدولوجية أو سياسية عليه.
الوطنية لم تلتق في أي حقبة بالديمقراطية كما هي اليوم، ولم تتحول الديمقراطية إلى ضمانة استقلال الإرادة والقرار الوطنيين كما هي عليه اليوم، في مواجهة التدخلات السافرة للقوى الكبرى ووكلائها الإقليميين، في حياة شعب السودان واقتصاده المنهار.
باختصار لم يعد هناك مجال لسيادة وطنية مستقلة أو منفصلة عن سيادة الشعب، وكل سيادة قائمة على عكس ذلك، تغطي لا محالة انصياعاً قائماً أو كامناً من قبل (النخب) الذليلة، التي تعمل على إعداد نفسها للحكم، وهي في الغالب نخب مرتبطة بدرجة من الدرجات بسادة في الخارج، وهنا يطرح نموذج (الكتلة الديمقراطية) و(الحزب الاتحادي الأصل) أوضح أمثلة العمالة، إذ يعتقد هؤلاء أن سادتهم في مصر يضمنون لهم الوجود والبقاء والاستمرار لعقود قادمة، فيما يشبه إعادة إنتاج تجربة سودان الجمهورية الأولى البائدة.
أحمد ضحية
٩/٨/٢٠٢٣
لانسينغ، ميتشيغان
١.
https://sudanile.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%88%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%a8%d8%b9%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1/
٢. https://sudanile.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%88%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%a8%d8%b9%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1-2/
٣. https://sudanile.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%88%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%a8%d8%b9%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1-3/
ahmeddhahia@gmail.com