المسار الذي يشق المقبرة: قصة قصيرة للكاتب ليونارد روس .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


تقديم: ليونارد روس هو الاسم (الفني) المستعار الذي اتخذه لنفسه ليو كلفن روستن (1908 – 1997م)، الكاتب اليهودي، والذي ولد في بولندا وهاجر مع  عائلته للولايات المتحدة وهو في الثالثة من عمره. تخرج في جامعة شيكاغو وعمل معلما للغة الانجليزية في مدرسة ليلية لتعليم الكبار، حيث كتب أشهر كتبه "تعليم هايمان كابلان" The Education of Hyman Kaplan  عن مصاعب وإحباطات وطرائف المهاجرين الذين يحاولون معرفة وإجادة لغة وثقافة وطنهم الجديد: أمريكا. نشر أيضا كتابا ساخرا مشهورا عن لغة اليهود المهاجرين (الأيديش) وتأثيرها على اللغة الانجليزية بعنوان The joys of Yiddish. كتب أيضا الكثير من سيناريوهات الأفلام والقصص الفكاهية والمقالات الساخرة في الصحف السيارة والمجلات الأدبية.
كان "ايفان" رجلا  ضئيلا جبانا- بلغ في الجبن غايته، واشتهر بالخوف لدرجة أن أهل قريته كانوا يطلقون عليه لقب "الحمامة" حينا، ويسمونه من باب السخرية والاستهزاء "ايفان الرهيب" حينا آخر! كان يغشى ليل كل يوم الحانة التي تقع في نهاية مقبرة القرية، لكنه لم يكن يجرؤ في آخر الليل على أن يسلك المسار الذي يشق المقبرة للرجوع لكوخه المنعزل في الجانب الآخر. كان رجوعه لداره من تلك الحانة عبر ذلك المسار سيوفر عليه كثيرا من الوقت...بيد أنه جبن عن أن يحاول ولو لمرة واحدة أن يشق المقبرة، حتى في الليالي المقمرة.
وفي ذات ليل شتوي بالغ البرودة، كانت فيه الريح تعصف والجليد ينهمر على مبنى الحانة، كان رجال القرية يتحلقون حول "ايفان" ويمارسون عليه هوايتهم المعتادة من سخرية لاذعة وتهكم جارح. صاح أحدهم أن والدة "ايفا" لابد أنها خافت من طائر كناري عندما كانت حاملا بإيفان! وكرر آخر اسم "ايفان"  متلاعبا بالألفاظ وقائلا إنه ليس ايفان الرهيب، بل ايفان الجبان! ولم تفلح محاولات ايفان البائسة الخجولة في الاحتجاج إلا في زيادة تهكمهم وسخريتهم منه. تعالى صياح الجميع عندما ألقي ملازم من القوقاز بتحد قاس بشع لإيفان : "أنت يا ايفان لست إلا حمامة! تدور دورة كاملة حول المقبرة ولا تجرؤ على أن تشق طريقك داخلها". رد ايفان مهمهما: "المقبرة أيها الملازم لا تخيفني. هي أرض كبقية أرض الله". صاح فيه الملازم: "إذن هذا تحدى! إن استطعت أن تدخل المقبرة وتقطعها هذه الليلة فسأعطيك خمس روبيات- خمس روبيات ذهبية".
لعلها الفودكا...أو لعل إغراء الخمس روبيات هو ما دفع ايفان ليرد فجأة وهو يبلل شفتيه: "نعم يا أيها الملازم. سأقوم بدخول المقبرة هذه الليلة واشق طريقي عبرها". عمت الدهشة وعدم التصديق جميع من كانوا  بالحانة. غمز الملازم بعينه للحاضرين وأخرج سيفه الصغير من غمده وناوله لإيفان وقال: " خذ هذا السيف يا ايفان، وعندما تصل لوسط المقبرة اغرسه في الأرض أمام أكبر قبر فيها. سأذهب للمقبرة عند الصباح، وإن وجدت السيف مغروسا في الأرض، فالخمس روبيات الذهبية هي من نصيبك".
ظل ايفان ينظر للسيف، بينما كان الجميع يشربون نخب تلك المناسبة وهم يقهقهون رافعين كؤوسهم ويصيحون: "إلى ايفان الرهيب"!
لفحت ريح باردة  تعوي وجه ايفان وهو يغلق خلفه باب الحانة. كان البرد قارسا وحادا كشفرة مدية جديدة. أحكم إغلاق أزرار معطفه الطويل، وعبر الطريق الترابي وصياح الملازم القوقازي يخترق أسماعه عاليا فوق صياح رجال الحانة: "خمس روبيات ذهبية أيتها الحمامة! هذا إن عشت"!
دفع ايفان باب مبنى المقبرة، وأسرعت خطواته داخلها وهو يتمتم:" هي أرض كغيرها.. أرض ليس إلا..."! كان الليل حالك السواد والظلمة مفزعة...مضى يتمتم: "خمس روبيات ذهبية...". كان الريح الباردة تزمجر، والسيف في يده كقطعة ثلج متجمد. كان جسده يرتعش بشدة تحت معطفه الطويل الثخين وهو يهرول عرجا.. تعرف على أكبر قبر في وسط المقبرة...لابد أنه بكى، بيد أن صوت بكاءه قد ضاع وسط عويل تلك الريح العاصفة. ركع ايفان على ركبتيه وهو يرتعش من البرد والخوف وغرس السيف في أديم الأرض، ومضى يدخل السيف عميقا داخل التربة بكل ما لديه من قوة...غرس السيف بكامله حتى لم يبق إلا المقبض. لقد أنجز المهمة! المقبرة...التحدي... الروبيات الخمس الذهبية.
بدأ ايفان في رفع جسده من وضع الركوع بيد أنه لم يستطع الحركة. شيء ما كان يمسك به...شيء قوي عنيد لم يدرك ما هو كنهه. حاول ايفان أن يتملص ويتخلص من تلك القبضة وهو يهتز وفي أقصى حالات الرعب والهلع العظيمين. ظل ذلك الشيء مطبقا علي ايفان. أطلق صرخة فزع رهيبة، ثم خرج منه صوت غرغرة عديم المعنى.
وجدوا ايفان عند الصباح ملقيا على الأرض أمام القبر الذي يتوسط المقبرة. كان جسده متجمدا تماما. لم تكن تعابير وجهه لرجل تجمد من الصقيع، بل لرجل قتله رعب مجهول. كان سيف الملازم على الأرض حيث غرسه ايفان- مخترقا طيات معطفه الثقيل.
نقلا عن "الأحداث"

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء