المسيح المحمدي في الأساطير والاديان القديمة والاديان الكتابية (4)
خالد الحاج عبد المحمود
21 September, 2022
21 September, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِى ظُلَلٍۢ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ)
الحلقة الرابعة
خالد الحاج عبدالمحمود
متى!!
الحلقة الرابعة
لقد ذكرنا في اخر الحلقة السابقة ان موضوع الرسالة الثانية كله يدور حول محمد (صلى الله عليه وسلم).. فهو الذي ختمت به النبوة واستقر كل ما أرادت السماء أن توحيه إلى الأرض بين دفتي المصحف، وبذلك انتهت وظيفة جبريل عليه السلام، كملك للوحي.. الرسالة الثانية، هي سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، التي عاشها في نفسه، هذا في حين أن الرسالة الأولى هي الشريعة للأمة في القرن السابع الميلادي.. الرسالة الأولى قامت على فروع القرآن، التي تنزلت للناس حسب حكم الوقت.. والرسالة الثانية تقوم على أصول القرآن، التي لم يعشها إلا النبي في خاصة نفسه.. وبين السنة والشريعة تداخل، وبينهما اختلاف.. وعندما يجيء محمد في مقام المسيح المحمدي، مقام الوسيلة، يتجسد القرآن كحياة في الأرض، وتختم الرسالة، بالرسالة الثانية، الرسالة الأحمدية.. وتختم الولاية بتجسيد المقام المحمود على الأرض، وهو الحقيقة المحمدية التي أشار إليها المعصوم بقوله: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).. ومحمد (صلى الله عليه وسلم) في حقيقته، هو بداية الخلق، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).. وهذا مقام في الملكوت، في عالم الروح.. وهو مقام بين الذات الإلهية في إطلاقها، وبين جميع الخلق.. فهو أول التنزل.. وهو أكمل الخلق.. هو الإنسان الكامل.. وهو سينزل بهذا المقام إلى عالم الملك، فيجسده في الأرض، وبذلك تتحقق الخلافة التي قال عنها تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً".. وبذلك تفتتح دورة جديدة، هي دورة الحياة الأخرى _ الحياة العليا.. حياة الإنسان.. فمنذ الهبوط إلى أسفل سافلين، وعبر كل التطور الذي تم، نحن حتى الآن نعيش في دورة الحياة الدنيا، حياة البشر، والتي وصلت إلى قمتها عند إنسان العصر الحاضر، وتوشك أن تفضي، قريباً (إن شاء الله)، إلى الحياة العليا _حياة الإنسان.. وذلك بظهور المسيح المحمدي على قمة هذه الحياة، وبظهوره تبدأ دورة (أمة المسلمين)، اخوان النبي (صلى الله عليه وسلم).. ويكون ذلك عند الساعة الصغرى، ساعة التعمير.. هذا في حين أن الساعة الكبرى هي ساعة التخريب.. يقول الأستاذ محمود: (والساعة ساعتان: ساعة التعمير، وساعة التخريب.. فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء إلى ربها، حسا ومعنى، وليملأ الأرض عدلا، كما ملئت جورا.. ويومئذ يظهر الإسلام على جميع الأديان.. ويتحقق موعود الله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ، وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.. وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا".. ويتأذن الله بالتطبيق، كما تاذن بالإنزال.. وذلك فيما يتعلق بقوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.." وهذه هي ساعة التجلي الكمالي..).. ويقول الاستاذ محمود: (والساعتان منضويتان، في بعضهما، في سياق القرآن.. فهو عندما يقول: (الساعة) إنما يعني: المعنى القريب للساعة، وهي ساعة التعمير، والمعنى البعيد للساعة، وهي ساعة التخريب.. وإنما يقع التمييز بينهما، عند القادرين عليه، بفضل الله، ثم بفضل التفريد في التوحيد.. وتلك هي المقدرة على إدراك مثاني القرآن وقد أشار إليها تبارك، وتعالى، في قوله: "اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا، مُتَشَابِهًا، مَثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ، وَقُلُوبُهُمْ، إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ.. وَمِنْ يُضْلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"..)..
لقد ذكرنا في نهاية الحلقة السابقة، إن موضوع الرسالة الثانية يدور حول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فهو به ختمت النبوة، وبه ستختم الولاية والرسالة.. وختم الولاية لا يعني قفل بابها، وإنما يعني تحقيق قمة الولاية، التي لا يتجاوزها أحد.
الدين كله، عبارة عن الرجوع إلى الله (إنا لله وإنا إليه راجعون).. (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ).. الآيات التي تتحدث عن هذا المعني في القرآن كثيرة جداً، بل إن القرآن كله يتحدث عن (الرُجعى) بصورة من الصور!! والرجوع إلى الله إنما يكون بإلتزام تكليفنا الأساسي، وهو (العبودية لله).. وبما أن الربوبية مطلقة، فكذلك العبودية مطلقة.. فالسير إلى الله سير سرمدي لا إنتهاء له.. وبما أن الله تعالى في ذاته ليس في الزمان ولا المكان، فالسير إليه عبارة عن تقريب الصفات من الصفات.. تقريب صفات العبد من صفات الرب.. السير تخلق بأخلاق الله، عن طريق إلتزام العبودية.. فعندما نلتزم بالعبودية لله، تفيض علينا الربوبية من صفاتها.. فعندما نلتزم التخلي عن دعوى الإرادة، تفيض علينا الربوبية إرادتها.. وهذا هو معنى الحديث القدسي: (يا داوؤد انك تريد وأريد.. وإنما يكون ما أريد.. فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد.. وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد).. قوله: (فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد)، يعني أصبحت إرادتك من إرادتي، وبذلك تكون نافذة.. وهذا معنى قوله تعالى في القرآن: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
السير في طريق الرجعى وسيلته العقل.. فالعقل، بين الإيمان والعلم يكون به السير السرمدي إلى الله.. وخارطة الطريق لهذه المسيرة هي القرآن.. ودليل السير في هذه الخرطة هو محمد (صلى الله عليه وسلم) في سنته، فهو القرآن الحي.. والبوصلة هي التوحيد، فهو الذي يعطي كلمات القرآن معانيها، فيحدد إتجاه المسيرة.. فمحمد (صلى الله عليه وسلم)، هو الدليل الذي لا يضل ولا يُضلل.. هو الأمان الوحيد في هذه المسيرة العظيمة، من أجل ذلك دعا الأستاذ محمود إلى (طريق محمد) - صلى الله عليه وسلم -.. من أجل ذلك قال الأستاذ محمود: (ثم أما بعد، فإن هذه دعوة إلى الله، داعيها مُحمّد، وهاديها مُحمّد.. وهي دعوة وجبت الاستجابة لها أمس وتجب الاستجابة لها اليوم، كما وجبت أمس، وبقدر أكبر، إذ الحجة بها اليوم ألزم منها بالأمس.. "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" وإلا فلا..).. ويقول: (إن مُحمّدا قد أخرج الناس، بفضل الله، من ظلام الجاهلية الأولى إلى نور الإيمان، وهو سيخرجهم، بفضل الله، من ظلام الجاهلية الثانية إلى ضياء الإسلام، وسيكون يومنا أفضل من أمسنا، وسيكون غدنا "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" إن غدنا هذا المأمول ـــ غد البشرية جميعها ـــ لا يعدنا له، ولا يرقينا فيه، مرشد أقل من مُحمّد المعصوم..).. اليوم، محمد (صلى الله عليه وسلم)، هو وحده الدليل الذي لا يضل ولا يضلل، ولا دليل غيره.. وغداً، محمد (صلى الله عليه وسلم) هو الوسيلة إلى الله، ولا وسيلة غيره.
متى!!:
بالطبع يتبادر إلى ذهن الجميع السؤال: متى يتم هذا الأمر؟ متى يظهر المسيح المحمدي؟ ومتى تأتي الساعة؟
جاء من إنجيل لوقا الإصحاح الحادي والعشرين، عن ظهور علامات المسيح قوله: (وتكون علاماتٌ في الشمس والقمر والنجوم. وعلى الارض كَرْبُ اممٍ بحيرةٍ. البحر والامواج تضجُّ. والناس يُغشَى عليهم من خوف وانتظار ما يأْتي على المسكونة لانَّ قوات السماوات تتزعزع. وحينئِذٍ يبصرون ابن الانسان آتيًا في سحابةٍ بقوَّةٍ ومجدٍ كثير..).. وجاء من إنجيل متى الإصحاح السادس والثلاثين: (أَمَّا ذلِكَ اليَوْمُ وتِلْكَ السَّاعَةُ فلا يَعْرِفُهُمَا أَحَد، ولا مَلائِكَةُ السَّمَاوَات، إِلاَّ الآبُ وَحْدَهُ، وَكَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي زَمَنِ نُوحٍ، كَذَلِكَ سَتَكُونُ عِنْدَ رُجُوعِ ابْنِ الإِنْسَانِ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الأَيَّامِ السَّابِقَةِ لِلطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، حَتَّى فَاجَأَهُمُ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ السَّفِينَةَ، وَنَزَلَ الطُّوفَانُ وَهُمْ لاهُونَ فَأَخَذَ الْجَمِيعَ. هَكَذَا سَتَكُونُ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِ ابْنِ الإِنْسَانِ..)..
اليهود ينتظرون المسيح كمخلص لهم دون الأمم، وكذلك المسيحيون يؤمنون أن المجيء هو لإنقاذ المؤمنين، وهذا هو معنى الاختطاف عنده.. يقول دكتور شهدي شاكر من كتابه (عودة المسيح وعلامات النهاية) ما نصه: (وكما عرفنا فإن مجيء المسيح على السحاب سيكون بعد ضيق، يعقبه المعركة النهائية مباشرة، وسيكون فجائيا بالنسبة للعالم.. وعند عودته تظهر علاماته في السحاب، ثم يظهر هو لكل العالم علانية، ومعه ملائكته القديسون، فيخطف المؤمنين إلى فوق حتى لا يقاسون من الغضب الذي سوف ينزل على الأشرار ثم ينزل هو ليضع المعصرة العظيمة على الجيوش المجتمعة.. ونحن هنا ننبه أنه ليس الغرض من مجيء المسيح هو إنقاذ إسرائيل فحسب، كما يعتقد بعض المفسرين، ولكن غرضه إنقاذ المؤمنين عموماً، وإنهاء المعارك، ووضع نهاية للعالم الحاضر، وهو يأتي بعد كل العلامات التي ذكرناها من قبل، أي بعد الحروب والمجاعات، ثم ظهور الوحش والنبي الكذاب والضيق..)..
وقت الظهور حسب الإسلام:
من الناحية الفلكية، دورة الحياة الدنيا من الفتق إلى الرتق.. وهذه هي دورة الأبد.. وبدايتها عندما كانت السماوات والأرض شيئاً واحداً، مرتتقاً (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا، فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ؟..).. الكون الخارجي، كون الشموس والمجرات، كان مرتتقا ففتق.. وكوننا الداخلي، كون المجموعة الشمسية، هو جيب صغير جداً، داخل الكون الخارجي.. كان هو أيضاً مرتتقاً، ففتق وظهرت الشمس والكواكب السيارة وتوابعها.. من الناحية المادية، مركز الكون الداخلي هو الشمس.. ولكن من الناحية الروحية مركزه الأرض، لأنها موطن الإنسان، سيد الأكوان.. والكون الداخلي هو بمثابة الرحم من الكون الخارجي.. في هذا الرحم تكونت الحياة _ حياة اللحم والدم.. في الأرض كما تكونت حياة الأحياء في أرحام الأمهات اليوم.. الكون الداخلي، باعتبار المادة صغير ومحدود.. أما الكون الخارجي فهو غير متناهٍ.. ولكن الكون الداخلي أهم من الخارجي.. الإنسان قاطن هذا الكون الداخلي، هو أهم من جميع الأكوان.. ولأهمية الكون الداخلي، فإن الدين في المرحلة يركز عليه كثيراً
الكون _ ونحن هنا نتحدث عن الكون الداخلي بالذات _ بعد الفتق سيعود إلى الرتق.. يقول تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).. فالحياة من الفتق إلى الرتق، من الناحية الفلكية هي الحياة الدنيا.. وإذا انتهت دورة الوجود هذه، وعادت إلى الرتق، بدأت دورة الحياة الأخرى.. وداخل هذه الدورة الأولى، هنالك حياة دنيا، وحياة أخرى، بالمعنى الاحيائي.. وهذه الحياة الأخرى، هي حياة (اليوم الآخر) على هذه الأرض، وهي موضوع البشارة التي نتحدث عنها، موضوع ظهور المسيح المحمدي.
نحن اليوم نعيش في الثلث الأخير من ليل الحياة الدنيا !! ونوشك أن ندخل (اليوم الآخر).. واليوم الآخر هو آخر أيام الحياة الدنيا، حياة البشر الحاليين- وأول أيام الحياة الأخرى، حياة الإنسان المقبل.. واليوم الآخر هذا، هو الذي من أجل تحقيقه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب وشرع الشرائع في جميع حقب هذه الحياة الدنيا.. فهذا اليوم هو خلاصة تطور الحياة على الأرض، في كل مجالاتها: المادي والروحي.. والبشرية الحالية هي الموعودة بأن تجيء منها إنسانية اليوم الآخر، ويجيء منها مجتمع الأخوان- مجتمع المسلمين.. ولمكانة اليوم الآخر هذه، جعل الإيمان به من أركان الإيمان، ووردت الإشارة إليه في القرآن كثيرا، ومن ذلك مثلا قوله تعالى:"إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"
الكثير من المسلمين يخلطون بين الآخرة، واليوم الآخر، كما يخلطون بين الساعة الصغرى والساعة الكبرى، وذلك بسبب الغفلة عندهم عن مثاني القرآن..
وقت ظهور المسيح، هو هذا اليوم الآخر الذي تحدثنا عنه.. وقد جاء عنه من أقوال الأستاذ محمود: (نحن نعيش في أخريات الثلث الأخير من ليل الوقت، وقد أذن الصبح بانبلاج .. والثلث الأخير من ليل الوقت، كالثلث الأخير من ليل اليوم، منصوص على مدحه وتفضيله.. فكما أن الثلث الأخير من ليل اليوم برزخ بين الليل والنهار، فكذلك الثلث الأخير من ليل الوقت، فإنه برزخ بين الدنيا والآخرة) ، كما جاء قوله "نحن، بشرية القرن العشرين!! نحن بشرية الثلث الأخير من ليل الدنيا!!" ومعلوم قيمة الثلث الأخير من ليل اليوم "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ".. بنفس هذا القدر يجب أن نعلم قيمة الثلث الأخير من ليل الدنيا، وقيمة البشرية التي تعيشه.. فهذه البشرية هي الموعودة بأن تملأ الأرض عدلا، في وقتها، كما ملئت جورا: وهي الموعودة بتحقيق جنة الأرض، في الأرض.. "وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ ".. هذه البشرية المعاصرة هي بشرية (اليوم الآخر).
عن كون أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، جاء من الحديث الذي يرويه سيدنا عمر بن الخطاب، عن سؤال جبريل للنبي "ثم قال فأخبرني عن الإيمان.. قال الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر.. قال صدقت".. "ثم قال: أخبرني متى الساعة؟ فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل!! قال فأخبرني عن علاماتها.. قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة، العراة، رعاة الشاة يتطاولون في البنيان.. قال صدقت".. فمن علامات الساعة، أن تلد الأمة ربتها.. يعني أن تكون البنت هي من يوجه الأم!! وهذا قد حدث منذ أمد طويل.. فقد أصبح الأبناء أكثر معرفة من الآباء والأمهات، وأصبحوا هم -الأبناء- من يوجهون الآباء والأمهات، في كل دروب الحياة العصرية المعقدة.. وهذا ظاهر جدا في تعامل الأطفال مع الأجهزة؛ مثل الكمبيوتر والموبايل، بصورة أكفأ من تعامل الكثير من الآباء والأمهات، و بأمد بعيد.. أما تطاول الحفاة العراة رعاة الشاه -يقصد بهم البدو- فهو الآخر قد حدث منذ وقت طويل، خصوصا في جزيرة العرب، حتى أنهم أصبحوا يفاخرون بأنهم أصحاب أعلى برج في العالم!! من الناحية العملية علامات ظهور المسيح كلها تتلخص في الحاجة إلى السلام والطاقة به.. وهذا ما تم بوقتنا الحاضر بصورة جلية، بفضل الله، ثم بفضل التطور الحضاري الذي أحدثته الحضارة الغربية.. فلأول مرة في التاريخ يتوحد الكوكب الأرضي بصورة تجعل قاطنيه، مهما تباعدت المسافات بينهم، وكأنهم جيران بالأبيات.. وهذا يحتم عليهم أن يعيشوا في سلام، بصورة تليق بعلاقات الجوار هذه.. ثم إن الحرب، منذ الحرب العالمية الثانية لم تعد تحل مشكلة.. وقد يصبح المنتصر في الحرب منهزما في السلام، كما حدث لبريطانيا التي أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية، دولة من الدرجة الثانية.. وإلى جانب ذلك كله تطور السلاح بالصورة التي أصبح استخدامه قد يعني فناء الحياة على الأرض.. فناء الحياة وليس فناء البشر فحسب!! وهذا ظهر بصورة خاصة بعد الأسلحة الذرية والهيدروجينية.. لكل ذلك أصبح السلام في وقتنا الحاضر حاجة حياة أو موت.. أصبحت المعادلة إما السلام أو الفناء!! ومن الجانب الفردي، أصبح كل الناس تقريبا في حيرة وجودية، تنغص عليهم حياتهم، مهما كانت صورة الوفرة المادية.. أصبح كل فرد بشري في حاجة ملحة للسلام مع نفسه ومع الآخرين، ومع الوجود- مع الله
وأوضح ما جاء في البشارة بالمسيح وتحقيق السلام الشامل، كما ذكرنا وكما أوردنا البشارات، وهو سلام يشمل البيئة كلها، وليس البشر فحسب.. وقد عبر الأستاذ محمود عن هذا السلام المبشر به تعبيراً رائعاً، فقال: حتى شجر الشوك يستغني عن شوكه، لعدم الحاجة إليه!! أما الجانب الثاني الذي ركزت عليه البشارة بظهور المسيح، هو جانب العدل: تملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجورا!! فملء الأرض ظلما وجوراً، من العلامات المهمة جداً.. وهي علامة قد اكتملت بصورة واضحة، بالنسبة لظلم البشر للبشر، في إطار النظام الرأسمالي السائد.. وأهم من ذلك، الشرك بالله، فهو أعظم ظلم.. يقول تعالى على لسان لقمان الحكيم: " وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".. وفي وقتنا الحاضر أصبح أكبر الموحدين، وأعني بهم المسلمين، على شرك عظيم بالله!! وهم قد استعبدتهم الدنيا، حتى أصبحوا عندما يخرجون من مساجدهم، ينسون الله، وأصبح معيارهم الوحيد في التعامل هو الدنيا، كبقية أهل الحضارة.
المهم ان جميع علامات الظهور قد تمت، ولم يبق إلا الإذن الإلهي للظهور، وهو يمكن أن يحدث في أي لحظة.. وقت الظهور أظلنا وأكتملت علاماته المادية.. والظهور لا يكون إلا فجأة.. ولحظة (الفجاءة) هذه، هي ما لا يعلمه إلا الله، فهي الساعة، قال تعالى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).. ولأن الموضوع أصبح في الجو، فقد إدعى العديد من الناس العيسوية، حتى أن الموضوع في السودان، قبل المهدية، وبعد المهدية أصبح ظاهرة!! سميت في التاريخ بـ (ظاهرة إدعاء العيسوية).. وأكبر من إدعى العيسوية، في الولايات المتحدة هو (الأب مون) وذُكر لي أنه تراجع عن دعواه، ولم أقف على دليل.. المقامات لا تدعى، والمسيح عندما يظهر يأتي بالبرهان الذي يجعل من المستحيل الخلاف حوله.
خلاصة الأمر، إن وقت الظهور قد آن، ومن أجل ذلك تأذن الله بأن تأتي دعوة الأستاذ محمود مبشرة بالمسيح المحمدي، وفاضة للكثير من أختام الغموض التي اكتنفت أمر ظهوره.
نحن هنا سنتحدث عن بعض جوانب الظهور، وبصورة خاصة تعنينا الكمالات الدينية التي ستصحبه، ووصول الصراع بين الخير والشر إلى نهايته في هذه المرحلة، وما يترتب على ذلك من صور الخير والكمال، الذي يتحقق بتحقيق جنة الأرض، في الأرض.. ونبدأ في الحلقة القادمة بالصراع بين الخير والشر، واندحار قوى الشر، وعلى رأسها الشيطان وأعوانه، والمسيح الدجال.
يتبع
خالد الحاج عبدالمحمود
رفاعة
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِى ظُلَلٍۢ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ)
الحلقة الرابعة
خالد الحاج عبدالمحمود
متى!!
الحلقة الرابعة
لقد ذكرنا في اخر الحلقة السابقة ان موضوع الرسالة الثانية كله يدور حول محمد (صلى الله عليه وسلم).. فهو الذي ختمت به النبوة واستقر كل ما أرادت السماء أن توحيه إلى الأرض بين دفتي المصحف، وبذلك انتهت وظيفة جبريل عليه السلام، كملك للوحي.. الرسالة الثانية، هي سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، التي عاشها في نفسه، هذا في حين أن الرسالة الأولى هي الشريعة للأمة في القرن السابع الميلادي.. الرسالة الأولى قامت على فروع القرآن، التي تنزلت للناس حسب حكم الوقت.. والرسالة الثانية تقوم على أصول القرآن، التي لم يعشها إلا النبي في خاصة نفسه.. وبين السنة والشريعة تداخل، وبينهما اختلاف.. وعندما يجيء محمد في مقام المسيح المحمدي، مقام الوسيلة، يتجسد القرآن كحياة في الأرض، وتختم الرسالة، بالرسالة الثانية، الرسالة الأحمدية.. وتختم الولاية بتجسيد المقام المحمود على الأرض، وهو الحقيقة المحمدية التي أشار إليها المعصوم بقوله: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).. ومحمد (صلى الله عليه وسلم) في حقيقته، هو بداية الخلق، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).. وهذا مقام في الملكوت، في عالم الروح.. وهو مقام بين الذات الإلهية في إطلاقها، وبين جميع الخلق.. فهو أول التنزل.. وهو أكمل الخلق.. هو الإنسان الكامل.. وهو سينزل بهذا المقام إلى عالم الملك، فيجسده في الأرض، وبذلك تتحقق الخلافة التي قال عنها تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً".. وبذلك تفتتح دورة جديدة، هي دورة الحياة الأخرى _ الحياة العليا.. حياة الإنسان.. فمنذ الهبوط إلى أسفل سافلين، وعبر كل التطور الذي تم، نحن حتى الآن نعيش في دورة الحياة الدنيا، حياة البشر، والتي وصلت إلى قمتها عند إنسان العصر الحاضر، وتوشك أن تفضي، قريباً (إن شاء الله)، إلى الحياة العليا _حياة الإنسان.. وذلك بظهور المسيح المحمدي على قمة هذه الحياة، وبظهوره تبدأ دورة (أمة المسلمين)، اخوان النبي (صلى الله عليه وسلم).. ويكون ذلك عند الساعة الصغرى، ساعة التعمير.. هذا في حين أن الساعة الكبرى هي ساعة التخريب.. يقول الأستاذ محمود: (والساعة ساعتان: ساعة التعمير، وساعة التخريب.. فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء إلى ربها، حسا ومعنى، وليملأ الأرض عدلا، كما ملئت جورا.. ويومئذ يظهر الإسلام على جميع الأديان.. ويتحقق موعود الله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ، وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.. وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا".. ويتأذن الله بالتطبيق، كما تاذن بالإنزال.. وذلك فيما يتعلق بقوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.." وهذه هي ساعة التجلي الكمالي..).. ويقول الاستاذ محمود: (والساعتان منضويتان، في بعضهما، في سياق القرآن.. فهو عندما يقول: (الساعة) إنما يعني: المعنى القريب للساعة، وهي ساعة التعمير، والمعنى البعيد للساعة، وهي ساعة التخريب.. وإنما يقع التمييز بينهما، عند القادرين عليه، بفضل الله، ثم بفضل التفريد في التوحيد.. وتلك هي المقدرة على إدراك مثاني القرآن وقد أشار إليها تبارك، وتعالى، في قوله: "اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا، مُتَشَابِهًا، مَثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ، وَقُلُوبُهُمْ، إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ.. وَمِنْ يُضْلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"..)..
لقد ذكرنا في نهاية الحلقة السابقة، إن موضوع الرسالة الثانية يدور حول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فهو به ختمت النبوة، وبه ستختم الولاية والرسالة.. وختم الولاية لا يعني قفل بابها، وإنما يعني تحقيق قمة الولاية، التي لا يتجاوزها أحد.
الدين كله، عبارة عن الرجوع إلى الله (إنا لله وإنا إليه راجعون).. (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ).. الآيات التي تتحدث عن هذا المعني في القرآن كثيرة جداً، بل إن القرآن كله يتحدث عن (الرُجعى) بصورة من الصور!! والرجوع إلى الله إنما يكون بإلتزام تكليفنا الأساسي، وهو (العبودية لله).. وبما أن الربوبية مطلقة، فكذلك العبودية مطلقة.. فالسير إلى الله سير سرمدي لا إنتهاء له.. وبما أن الله تعالى في ذاته ليس في الزمان ولا المكان، فالسير إليه عبارة عن تقريب الصفات من الصفات.. تقريب صفات العبد من صفات الرب.. السير تخلق بأخلاق الله، عن طريق إلتزام العبودية.. فعندما نلتزم بالعبودية لله، تفيض علينا الربوبية من صفاتها.. فعندما نلتزم التخلي عن دعوى الإرادة، تفيض علينا الربوبية إرادتها.. وهذا هو معنى الحديث القدسي: (يا داوؤد انك تريد وأريد.. وإنما يكون ما أريد.. فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد.. وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد).. قوله: (فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد)، يعني أصبحت إرادتك من إرادتي، وبذلك تكون نافذة.. وهذا معنى قوله تعالى في القرآن: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
السير في طريق الرجعى وسيلته العقل.. فالعقل، بين الإيمان والعلم يكون به السير السرمدي إلى الله.. وخارطة الطريق لهذه المسيرة هي القرآن.. ودليل السير في هذه الخرطة هو محمد (صلى الله عليه وسلم) في سنته، فهو القرآن الحي.. والبوصلة هي التوحيد، فهو الذي يعطي كلمات القرآن معانيها، فيحدد إتجاه المسيرة.. فمحمد (صلى الله عليه وسلم)، هو الدليل الذي لا يضل ولا يُضلل.. هو الأمان الوحيد في هذه المسيرة العظيمة، من أجل ذلك دعا الأستاذ محمود إلى (طريق محمد) - صلى الله عليه وسلم -.. من أجل ذلك قال الأستاذ محمود: (ثم أما بعد، فإن هذه دعوة إلى الله، داعيها مُحمّد، وهاديها مُحمّد.. وهي دعوة وجبت الاستجابة لها أمس وتجب الاستجابة لها اليوم، كما وجبت أمس، وبقدر أكبر، إذ الحجة بها اليوم ألزم منها بالأمس.. "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" وإلا فلا..).. ويقول: (إن مُحمّدا قد أخرج الناس، بفضل الله، من ظلام الجاهلية الأولى إلى نور الإيمان، وهو سيخرجهم، بفضل الله، من ظلام الجاهلية الثانية إلى ضياء الإسلام، وسيكون يومنا أفضل من أمسنا، وسيكون غدنا "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" إن غدنا هذا المأمول ـــ غد البشرية جميعها ـــ لا يعدنا له، ولا يرقينا فيه، مرشد أقل من مُحمّد المعصوم..).. اليوم، محمد (صلى الله عليه وسلم)، هو وحده الدليل الذي لا يضل ولا يضلل، ولا دليل غيره.. وغداً، محمد (صلى الله عليه وسلم) هو الوسيلة إلى الله، ولا وسيلة غيره.
متى!!:
بالطبع يتبادر إلى ذهن الجميع السؤال: متى يتم هذا الأمر؟ متى يظهر المسيح المحمدي؟ ومتى تأتي الساعة؟
جاء من إنجيل لوقا الإصحاح الحادي والعشرين، عن ظهور علامات المسيح قوله: (وتكون علاماتٌ في الشمس والقمر والنجوم. وعلى الارض كَرْبُ اممٍ بحيرةٍ. البحر والامواج تضجُّ. والناس يُغشَى عليهم من خوف وانتظار ما يأْتي على المسكونة لانَّ قوات السماوات تتزعزع. وحينئِذٍ يبصرون ابن الانسان آتيًا في سحابةٍ بقوَّةٍ ومجدٍ كثير..).. وجاء من إنجيل متى الإصحاح السادس والثلاثين: (أَمَّا ذلِكَ اليَوْمُ وتِلْكَ السَّاعَةُ فلا يَعْرِفُهُمَا أَحَد، ولا مَلائِكَةُ السَّمَاوَات، إِلاَّ الآبُ وَحْدَهُ، وَكَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي زَمَنِ نُوحٍ، كَذَلِكَ سَتَكُونُ عِنْدَ رُجُوعِ ابْنِ الإِنْسَانِ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الأَيَّامِ السَّابِقَةِ لِلطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، حَتَّى فَاجَأَهُمُ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ السَّفِينَةَ، وَنَزَلَ الطُّوفَانُ وَهُمْ لاهُونَ فَأَخَذَ الْجَمِيعَ. هَكَذَا سَتَكُونُ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِ ابْنِ الإِنْسَانِ..)..
اليهود ينتظرون المسيح كمخلص لهم دون الأمم، وكذلك المسيحيون يؤمنون أن المجيء هو لإنقاذ المؤمنين، وهذا هو معنى الاختطاف عنده.. يقول دكتور شهدي شاكر من كتابه (عودة المسيح وعلامات النهاية) ما نصه: (وكما عرفنا فإن مجيء المسيح على السحاب سيكون بعد ضيق، يعقبه المعركة النهائية مباشرة، وسيكون فجائيا بالنسبة للعالم.. وعند عودته تظهر علاماته في السحاب، ثم يظهر هو لكل العالم علانية، ومعه ملائكته القديسون، فيخطف المؤمنين إلى فوق حتى لا يقاسون من الغضب الذي سوف ينزل على الأشرار ثم ينزل هو ليضع المعصرة العظيمة على الجيوش المجتمعة.. ونحن هنا ننبه أنه ليس الغرض من مجيء المسيح هو إنقاذ إسرائيل فحسب، كما يعتقد بعض المفسرين، ولكن غرضه إنقاذ المؤمنين عموماً، وإنهاء المعارك، ووضع نهاية للعالم الحاضر، وهو يأتي بعد كل العلامات التي ذكرناها من قبل، أي بعد الحروب والمجاعات، ثم ظهور الوحش والنبي الكذاب والضيق..)..
وقت الظهور حسب الإسلام:
من الناحية الفلكية، دورة الحياة الدنيا من الفتق إلى الرتق.. وهذه هي دورة الأبد.. وبدايتها عندما كانت السماوات والأرض شيئاً واحداً، مرتتقاً (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا، فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ؟..).. الكون الخارجي، كون الشموس والمجرات، كان مرتتقا ففتق.. وكوننا الداخلي، كون المجموعة الشمسية، هو جيب صغير جداً، داخل الكون الخارجي.. كان هو أيضاً مرتتقاً، ففتق وظهرت الشمس والكواكب السيارة وتوابعها.. من الناحية المادية، مركز الكون الداخلي هو الشمس.. ولكن من الناحية الروحية مركزه الأرض، لأنها موطن الإنسان، سيد الأكوان.. والكون الداخلي هو بمثابة الرحم من الكون الخارجي.. في هذا الرحم تكونت الحياة _ حياة اللحم والدم.. في الأرض كما تكونت حياة الأحياء في أرحام الأمهات اليوم.. الكون الداخلي، باعتبار المادة صغير ومحدود.. أما الكون الخارجي فهو غير متناهٍ.. ولكن الكون الداخلي أهم من الخارجي.. الإنسان قاطن هذا الكون الداخلي، هو أهم من جميع الأكوان.. ولأهمية الكون الداخلي، فإن الدين في المرحلة يركز عليه كثيراً
الكون _ ونحن هنا نتحدث عن الكون الداخلي بالذات _ بعد الفتق سيعود إلى الرتق.. يقول تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).. فالحياة من الفتق إلى الرتق، من الناحية الفلكية هي الحياة الدنيا.. وإذا انتهت دورة الوجود هذه، وعادت إلى الرتق، بدأت دورة الحياة الأخرى.. وداخل هذه الدورة الأولى، هنالك حياة دنيا، وحياة أخرى، بالمعنى الاحيائي.. وهذه الحياة الأخرى، هي حياة (اليوم الآخر) على هذه الأرض، وهي موضوع البشارة التي نتحدث عنها، موضوع ظهور المسيح المحمدي.
نحن اليوم نعيش في الثلث الأخير من ليل الحياة الدنيا !! ونوشك أن ندخل (اليوم الآخر).. واليوم الآخر هو آخر أيام الحياة الدنيا، حياة البشر الحاليين- وأول أيام الحياة الأخرى، حياة الإنسان المقبل.. واليوم الآخر هذا، هو الذي من أجل تحقيقه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب وشرع الشرائع في جميع حقب هذه الحياة الدنيا.. فهذا اليوم هو خلاصة تطور الحياة على الأرض، في كل مجالاتها: المادي والروحي.. والبشرية الحالية هي الموعودة بأن تجيء منها إنسانية اليوم الآخر، ويجيء منها مجتمع الأخوان- مجتمع المسلمين.. ولمكانة اليوم الآخر هذه، جعل الإيمان به من أركان الإيمان، ووردت الإشارة إليه في القرآن كثيرا، ومن ذلك مثلا قوله تعالى:"إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"
الكثير من المسلمين يخلطون بين الآخرة، واليوم الآخر، كما يخلطون بين الساعة الصغرى والساعة الكبرى، وذلك بسبب الغفلة عندهم عن مثاني القرآن..
وقت ظهور المسيح، هو هذا اليوم الآخر الذي تحدثنا عنه.. وقد جاء عنه من أقوال الأستاذ محمود: (نحن نعيش في أخريات الثلث الأخير من ليل الوقت، وقد أذن الصبح بانبلاج .. والثلث الأخير من ليل الوقت، كالثلث الأخير من ليل اليوم، منصوص على مدحه وتفضيله.. فكما أن الثلث الأخير من ليل اليوم برزخ بين الليل والنهار، فكذلك الثلث الأخير من ليل الوقت، فإنه برزخ بين الدنيا والآخرة) ، كما جاء قوله "نحن، بشرية القرن العشرين!! نحن بشرية الثلث الأخير من ليل الدنيا!!" ومعلوم قيمة الثلث الأخير من ليل اليوم "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ".. بنفس هذا القدر يجب أن نعلم قيمة الثلث الأخير من ليل الدنيا، وقيمة البشرية التي تعيشه.. فهذه البشرية هي الموعودة بأن تملأ الأرض عدلا، في وقتها، كما ملئت جورا: وهي الموعودة بتحقيق جنة الأرض، في الأرض.. "وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ ".. هذه البشرية المعاصرة هي بشرية (اليوم الآخر).
عن كون أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، جاء من الحديث الذي يرويه سيدنا عمر بن الخطاب، عن سؤال جبريل للنبي "ثم قال فأخبرني عن الإيمان.. قال الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر.. قال صدقت".. "ثم قال: أخبرني متى الساعة؟ فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل!! قال فأخبرني عن علاماتها.. قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة، العراة، رعاة الشاة يتطاولون في البنيان.. قال صدقت".. فمن علامات الساعة، أن تلد الأمة ربتها.. يعني أن تكون البنت هي من يوجه الأم!! وهذا قد حدث منذ أمد طويل.. فقد أصبح الأبناء أكثر معرفة من الآباء والأمهات، وأصبحوا هم -الأبناء- من يوجهون الآباء والأمهات، في كل دروب الحياة العصرية المعقدة.. وهذا ظاهر جدا في تعامل الأطفال مع الأجهزة؛ مثل الكمبيوتر والموبايل، بصورة أكفأ من تعامل الكثير من الآباء والأمهات، و بأمد بعيد.. أما تطاول الحفاة العراة رعاة الشاه -يقصد بهم البدو- فهو الآخر قد حدث منذ وقت طويل، خصوصا في جزيرة العرب، حتى أنهم أصبحوا يفاخرون بأنهم أصحاب أعلى برج في العالم!! من الناحية العملية علامات ظهور المسيح كلها تتلخص في الحاجة إلى السلام والطاقة به.. وهذا ما تم بوقتنا الحاضر بصورة جلية، بفضل الله، ثم بفضل التطور الحضاري الذي أحدثته الحضارة الغربية.. فلأول مرة في التاريخ يتوحد الكوكب الأرضي بصورة تجعل قاطنيه، مهما تباعدت المسافات بينهم، وكأنهم جيران بالأبيات.. وهذا يحتم عليهم أن يعيشوا في سلام، بصورة تليق بعلاقات الجوار هذه.. ثم إن الحرب، منذ الحرب العالمية الثانية لم تعد تحل مشكلة.. وقد يصبح المنتصر في الحرب منهزما في السلام، كما حدث لبريطانيا التي أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية، دولة من الدرجة الثانية.. وإلى جانب ذلك كله تطور السلاح بالصورة التي أصبح استخدامه قد يعني فناء الحياة على الأرض.. فناء الحياة وليس فناء البشر فحسب!! وهذا ظهر بصورة خاصة بعد الأسلحة الذرية والهيدروجينية.. لكل ذلك أصبح السلام في وقتنا الحاضر حاجة حياة أو موت.. أصبحت المعادلة إما السلام أو الفناء!! ومن الجانب الفردي، أصبح كل الناس تقريبا في حيرة وجودية، تنغص عليهم حياتهم، مهما كانت صورة الوفرة المادية.. أصبح كل فرد بشري في حاجة ملحة للسلام مع نفسه ومع الآخرين، ومع الوجود- مع الله
وأوضح ما جاء في البشارة بالمسيح وتحقيق السلام الشامل، كما ذكرنا وكما أوردنا البشارات، وهو سلام يشمل البيئة كلها، وليس البشر فحسب.. وقد عبر الأستاذ محمود عن هذا السلام المبشر به تعبيراً رائعاً، فقال: حتى شجر الشوك يستغني عن شوكه، لعدم الحاجة إليه!! أما الجانب الثاني الذي ركزت عليه البشارة بظهور المسيح، هو جانب العدل: تملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجورا!! فملء الأرض ظلما وجوراً، من العلامات المهمة جداً.. وهي علامة قد اكتملت بصورة واضحة، بالنسبة لظلم البشر للبشر، في إطار النظام الرأسمالي السائد.. وأهم من ذلك، الشرك بالله، فهو أعظم ظلم.. يقول تعالى على لسان لقمان الحكيم: " وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".. وفي وقتنا الحاضر أصبح أكبر الموحدين، وأعني بهم المسلمين، على شرك عظيم بالله!! وهم قد استعبدتهم الدنيا، حتى أصبحوا عندما يخرجون من مساجدهم، ينسون الله، وأصبح معيارهم الوحيد في التعامل هو الدنيا، كبقية أهل الحضارة.
المهم ان جميع علامات الظهور قد تمت، ولم يبق إلا الإذن الإلهي للظهور، وهو يمكن أن يحدث في أي لحظة.. وقت الظهور أظلنا وأكتملت علاماته المادية.. والظهور لا يكون إلا فجأة.. ولحظة (الفجاءة) هذه، هي ما لا يعلمه إلا الله، فهي الساعة، قال تعالى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).. ولأن الموضوع أصبح في الجو، فقد إدعى العديد من الناس العيسوية، حتى أن الموضوع في السودان، قبل المهدية، وبعد المهدية أصبح ظاهرة!! سميت في التاريخ بـ (ظاهرة إدعاء العيسوية).. وأكبر من إدعى العيسوية، في الولايات المتحدة هو (الأب مون) وذُكر لي أنه تراجع عن دعواه، ولم أقف على دليل.. المقامات لا تدعى، والمسيح عندما يظهر يأتي بالبرهان الذي يجعل من المستحيل الخلاف حوله.
خلاصة الأمر، إن وقت الظهور قد آن، ومن أجل ذلك تأذن الله بأن تأتي دعوة الأستاذ محمود مبشرة بالمسيح المحمدي، وفاضة للكثير من أختام الغموض التي اكتنفت أمر ظهوره.
نحن هنا سنتحدث عن بعض جوانب الظهور، وبصورة خاصة تعنينا الكمالات الدينية التي ستصحبه، ووصول الصراع بين الخير والشر إلى نهايته في هذه المرحلة، وما يترتب على ذلك من صور الخير والكمال، الذي يتحقق بتحقيق جنة الأرض، في الأرض.. ونبدأ في الحلقة القادمة بالصراع بين الخير والشر، واندحار قوى الشر، وعلى رأسها الشيطان وأعوانه، والمسيح الدجال.
يتبع
خالد الحاج عبدالمحمود
رفاعة