“المصفوفة” .. العودة إلى تسوية الخطوة خطوة .. بقلم/ خالد التيجاني النور

 


 

 

khalidtigani@gmail.com


من الحكايات المتداولة في الأوساط الدبلوماسية بالخرطوم أن سفيراً غربياً لامعاً ابتعث لتمثيل بلاده في السودان, وما أن انقضت بضعة أشهر حتى ألح على نقله ولو اقتضى الأمر إحالته للتقاعد, كانت شكوى السفير العتيد أنه لن يغامر بفقدان مصداقيته التي بناها بعد خبرة طويلة في بلد تناقض الأحداث فيه بعضها البعض, إذ ما أن يجتهد في تقديم تحليل لعاصمة بلاده يحسبه عميقاً لحدث ما حتى يفاجئه تطور ينقض كل حيثياته.

ولو أن كل الدبلوماسيين العاملين في الخرطوم اقتدوا بهذه الدبلوماسي الحريص على نصاعة سجل مصداقيته لما بقي سفير واحد يعمل في الخرطوم. وحال المحللين السياسيين لا يبعد كثيراً عن الوقوع في الفخ نفسه, حتى أن أحدهم اقترح على من يطلب تحليلاً أن يذهب إلى "ضاربات الودع" ليسألهن عن مستقبل الأوضاع السياسية في السودان وفق ما تنبئ به رميات ودعاتهن, لا أن ينتظر تحليلاً وفق قواعد المنطق والموضوعية.

مناسبة هذا الحديث التوقيع المفاجئ بين ممثلي دولتي السودان في أديس أبابا على حزمة مصفوفة تنفيذ اتفاقيات "قديمة – جديدة", لتفعيل وتنفيذ اتفاقيات سابقة, وفق مصفوفات تحل محل مصفوفات سابقات, ولعل التاريخ سيكتب أن أطول مفاوضات مارثوانية شهدها العالم, وأكثر عدد من الاتفاقيات تم التوقيع عليها بين فريقين, تلك التي جرت على مدار نحو ربع قرن من الزمان في السودان, والله وحده أعلم إلى متى تستمر تلك الملهاة التي يدفع ثمنها غمار الناس لا حكامهم.

وعلى كثرة الاتفاقات الموقعة والمجهضة لم يجد اتفاقاً بينهما تجاهلاً وعدم اكثرات من الرأي العام مثل ما وجده اتفاق أديس أبابا الأخير, الذي يحمل الرقم كم؟؟ الله أعلم, على الرغم من أهميته القصوى للشعبين, بالطبع إذا تم الإلتزام به وتنفيذ تعهداته إلى نهاية الشوط, لا أن تعود الأمور مرة آخرى إلى نقطة الصفر لهذا السبب أو ذاك. والناس معذرون في انصرافهم وتشكيكهم في جدوى الاتفاق الأخير, لا لسبب إلا أن المنطق يفترض ألا يدغ المؤمن من جحر واحد مرتين, وها هم شعبا السودان في الشمال والجنوب لدغوا من المرات عدداً يكاد يخرجهم من دائرة حصافة المؤمن.

إذاً السؤال المنطقى, عفواً تقول ماذا؟ سؤال منطقي؟, ومن الذي قال لك إن ما يحدث في شأن العلاقة بين الشمال والجنوب يحكمها أي منطق؟, ومع ذلك نسأل ما الذي استجد؟. فقد كان قمة ما يمكن أن يتوصله إليها الطرفين لتصفية تركة "السودان الكبير" بسلام حققاه بالفعل في اتفاقية التعاون الشامل بين البلدين التي وقعها الرئيسان بعد تدخلها مباشرة لأول مرة في مفاوضات ماراثوانية, وانتهت بذلك التوقيع الشهير في أديس أبابا في خواتيم سبتمبر الماضي؟. ومع ذلك تعرقل.

ما الذي عطل تطبيق ذلك الاتفاق لنحو نصف عام, وبدا الآن مختلفاً. بالطبع سيحاول كل طرف الدفع بأن الآخر هو من قدم تنازلات مهمة أدت إلى هذا التوقيع الاخير.

في الواقع ليس هناك جديداً يمكن ان يضاف على صعيد الدوافع التي بررت حينها في رأي المراقبين توفر الفرص الكبيرة أمام تنفيذ اتفاق التعاون, فالأوضاع الاقتصادية المتردية في البلدين أصلاً كانت حاضرة وإن كانت بدرجة تأثير متفاوتة في حدتها على الطرفين على خلفية طبيعة العملية الاقتصادية وإدارتها في كل بلد. صحيح أن الضغوط إزدادت سوءاً على الشعبين, بعد مرور ستة أشهر, ولكن مع ذلك لا يبدو أنها أفرزت تأثيراً خطيراً على سلطة الطبقة الحاكمة في كلا البلدين, ولذلك كانت هناك فسحة من الوقت لممارسة لعبة عض الأصابع  للحصول على مكاسب أكبر عند التنفيذ حتى بعد توقيع ذلك الاتفاق الرئاسي.

أما الأوضاع العسكرية والأمنية فلم تشهد أيضاً أية تطورات درامية خلال الفترة الماضية بين البلدين, وظل الوضع إلى درجة ما في حالة توازن انعكس في الهدوء الحذر والنسبي الذي تشهده جبهتا جنوب كردفان والنيل الازرق, وأبيي وبقية المناطق على امتداد الحدود, الا من بعض المناوشات المحدودة دون أن يغير في المعادلة والتوازن الراهن في حسابات الطرفين.

إذاً ما الذي حدث؟ لفت نظر المراقبين في الآونة الاخيرة تصريحين مُهمين للرئيسين البشير وسلفا كير بشأن الأوضاع العالقة والجمود الذي ران على تنفيذ اتفاقية التعاون. كان التصريح الأول للبشير أمام اجتماع مجلس شورى حزبه, المؤتمر الوطني, أطلق فيه عدة "لاءات" مؤكداً عدم العودة للتفاوض مجدداً مع حكومة الجنوب, وأن الحل الوحيد هو تنفيذ ما تم الاتفاق عليه سلفاً وأنه لم يعد عنده ما يقدمه لهم.

بينما أعرب سلفا كير لزعماء دول البحيرات العظمى عقب اجتماع لهم لبحث الأزمة الكنغولية في أديس أبابا, عن تبرمه من الحلقة المفرغة التي تدور فيها المفاوضات بين جوبا والخرطوم بشأن قضايا ما بعد التقسيم, حيث طالب القادة الإفارقة بإتخاذ موقف أكثر جدية بهذا الشأن بدلاً عن استمرار دعمهم لمفاوضات بلا نهاية. واعتبر وزير خارجيته أن الحل هو تنفيذ اتفاق التعاون أيضاً

من الواضح أن الضغوط الدولية المتزايدة على الطرفين بطرق مختلفة كانت هي العامل الجديد, وأيضاً الحاسم في التوقيع الأخير على مصفوفة التنفيذ بلا إبطاء في محادثات فارقت نهج المطاولات السابق الذي كان يخيم عادة على أروقة المفاوضات. والمهم في التحرك الدولي الجديد ليس إعادة إنتاج نموذج الاتفاقات السابقة التي سرعان ما تنتكس بسبب ربط جداول التنفيذ الواجبة بأجندة لا تزال عالقة, مما يؤدي إلى إحباط عملية التسوية بكاملها.

ويبدو أن هناك سيناريو كان يجري طبخه على نار هادئة في كواليس المجتمع الدولي بشان حلحلة عُقد العلاقة بين دولتي السودان, فعندما سألتُ البروفسور أليكس دي وال الخبير المعروف في الشؤون السودانية, والمستشار في فريق الوساطة الإفريقي الذي يقوده الرئيس ثابو إمبيكي, عن مستقبل الوساطة الإفريقية على ضوء "لاءات البشير" بعدم العودة للتفاوض, رد بابتسامة غامضة, وبدا واثقاً من أن الخرطوم ستعود مرة آخرى إلى قاعات التفاوض, واكتفى بالقول بدبلوماسية ذات مغزى "إن الرئيس البشير ظل يؤكد دائماً للرئيس إمبيكي استعداده للتفاوض, وإنه على الرغم من أن المفاوضات تكون أحياناً صعبة, إلا أن باب الوصول إلى الرئيس البشير من أجل التفاوض ظل دائماً مفتوحاً".

ويبدو التعويل على الرئيس البشير في بعض الأوساط الغربية على كسر جمود التفاوض واضحاً كما ذهب إلى ذلك المبعوث الاميركي السابق للسودان أندرو ناتسيوس في آخر مقال له, حيث اتهم جنرالات متشددين في الجيش السوداني بالإجهاض المتكرر للاتفاقيات التي تتم مع الجنوب, معولاً على الرئيس عمر البشيرالذي أثبت في رأيه قدرته في الأوقات الحرجة على تحييد  المتشددين ودعم المعتدلين  في الخرطوم على التفاوض مع المعارضين في الجنوب والشمال, داعياً واشنطن لتدعم توجهات البشير نحو الاعتدال. ولكن يبدو ان ناتسيوس ذهب بعيداً في تقييمه لموازين القوى في الخرطوم حيث اعتبر أن البشير لم يعد هو من يُدير الدولة ، وأن جنرالات متشددين يمسكون بزمام الامور.

ويتبنى ناتسيوس النظرية نفسها في الجانب الجنوبي عند تحليل أسباب تعثر تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين, معتبراً أن إقالة الرئيس سلفا كير الشهر الماضي لعدد كبير من جنرالات الجيش الشعبي المؤثرين الذين اتهمهم بإعاقة تنفيذ اتفاق التعاون الذي وقعه مع البشير تأتي من أجل تهيئة المناخ لللسلام على الرغم من أنه اعتبر خطوة سلفا كير"محفوفة بالمخاطر". ما يعني ان الأجواء لم تخلو تماماً للزعيم الجنوبي وأن تطورات ما كرد فعل قد تقود إلى خطوة الأوراق في الدولة الوليدة.

والمثير في نظرية ناتسيوس هذه بشأن تحرك الرئيسين البشير وسلفا كير بإتجاه تشديد قبضيتهما في المؤسستين العسكريتين في البلدين, تشير إلى تطابق ما بإتجاه إعادة تشكيل موازين القوى في البلدين. من ذلك اعتقال مجموعة ضباط "المحاولة التخريبية" في الخرطوم المعروفون بأدوارهم العميقة, والإطاحة بجنرالات الجيش الشعبي المؤثرين لتعبيد الطريق إلى سلام مستدام. وهي قراءة قد لا تصح بالضرورة قي قرائنها, لكن إن صمد اتفاق مصفوفة أديس الأخير, ووجد طريقه إلى التنفيذ فقد تعطي وجاهة لما ذهب إليه ناتسيوس.

من المؤكد أن للاعبين المحللين في الطرفين دورهم سواء في تسريع أو عرقلة عملية السلام بين الطرفين, إلا أن دور اللاعبين الرئيسين في المجتمع الدولي يبدو أكثر حسماً في إتجاه سير الأمور بشكل أكثر فعالية. يذكر الناس القرار الأممي 2046  بكل توقيتاته وإنذاراته بالعقوبات على الأطراف المعرقلة للتسوية, كان أغلب الظن أن المجتمع الدولي يتجه بسرعة إلى حسم عاجل لحالة اللاحرب واللا سلم السائدة بين الخرطوم وجوبا, ولكن تقترب الآن ذكرى مرور عام كامل على ذلك القرار, ولم يحدث شئ مما هدد به في مواقيت معلومة, ويبدو أن هذا التراخي مقصود لذاته لإحداث حالة "إرهاق خلاق" عند الطرفين مع بقاء سيف العقوبات مسلطاً, حتى لحظة معينة تجعل ما كان مرفوضاً بشدة مقبولاً تحت طائلة ظروف مختلفة.

ومن الواضح كذلك أن المجتمع الدولي مارس ضغوطاً محسوبة على الطرفين بحيث لا تؤدي إلى حد التسبب في انهيار أي من النظامين, فقد تفادى فرض عقوبات على الخرطوم تزيد من معاناتها على الرغم من كل المخاوف التي ساقتها الحكومة السودانية ضد القرار 2046, لكن المجتمع الدولي في المقابل لم يعمل على إنقاذ جوبا من أوضاعها الاقتصادية الخانقة بسبب توقف تصدير النفط شريان حياتها الرئيس, وقدم مساعدات محدودة تبقيها على قيد الحياة. الغرض من تلك السياسة إيصال البلدين إلى قناعة أن البديل الوحيد المتاح أمامهما هو التعايش المشترك, وليس مساعدة أي طرف لإلغاء الطرف الآخر.

ما حدث في أديس أبابا هو محاولة قد يُكتب لها النجاح هذه المرة لإقناع الطرفين بسياسة "الخطوة خطوة" في معالجة المسائل العالقة, بتفكيك القضايا الخلافية عن بعضها البعض وإعادة ترتيبها في مسارات مختلفة لكنها متوافقة نحو هدف واحد.

وفي الواقع فإن هذه السياسة "التفكيك والفرز بين المسارات" ليست جديدة, وكانت دائماً النهج المفضل عند لاعبي المجتمع الدولي الكبار لتفكيك قنابل الأزمة السودانية الموقوتة,  ولكنها كانت تواجه دائماً بمقاومة عنيفة لا سيما من الخرطوم, وبدرجة أقل من جوبا, فالخرطوم التي ذاقت مرارة خسارة أهم ورقة ضغط لديها, تسهيل انفصال الجنوب دون عراقيل دون أن تحصل على عائد يحقق لها معادلة التقسيم مقابل السلام والاستقرار, قادها للتشدد بعد فوات الآوان في ربط مسارات التفاوض حول القضايا العالقة حتى لا تستمر في دفع الفواتير بلا مقابل, خاصة بعد إعادة إنتاج الأزمة في الجنوب الجديد على امتداد هلال التمرد المتحالف من دارفور إلى النيل الأزرق.

ولذلك كان إصرار الخرطوم على ربط الترتيبات الأمنية ب"فك الإرتباط" مع متمردي الجنوب الجديد هو الثمن المناسب الذي تتوقعه لتمرير اتفاقية التعاون, غير ان جوبا تطالب أيضاً بثمن آخر لتمرير الصفقة بما يضمن لها حسم مسالة أبيي لصالحها. ومن الواضخ أن كسر هذه الدائرة المفرغة هو الذي كان موضع ضغوط المجتمع الدولي.

لقد أصبح اتفاق التعاون الموقع في سبتمبر الماضي ممكناً بعدما تم تحييد مسألتي أبيي والحدود المتنازع عليها المدعاة وترحيل تسويتهما إلى وقت لاحق, وأصبح اتفاق تنفيذ المصفوفة الموقع في أديس أبابا هذا الأسبوع ممكناً بعد تفكيك مطلب "فك الأرتباط" الذي كانت تتمسك به الخرطوم, وترحيله ليناقش ضمن أجندة الشكاوى والاهتمامات, وليس بحسبانه شرطاً مسبقاً مستقلاً للنفاذ إلى تطبيق الترتيبات الأمنية, ومن ثم تمرير اتفاقيات التعاون الاقتصادية على وجه الخصوص لا سيما فتح المعابر, وتدفق النفط, والتبادل التجاري, وحصلت الخرطوم مقابل غض الطرف عن مطلبها القديم ب"فك الارتباط أولاً" وأن تترك مهمة التأكد من تنفيذ ذلك التعهد لآليات المراقبة التي يجب أن تعمل للتحقق , حصلت على تأجيل التفاوض مع قطاع الشمال بشأن التمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى وقت لاحق.

تلك كانت هي خريطة طريق المبعوث الأمريكي برنستون لايمان التي ما فتئ يبشر بها منذ تسلمه منصبه دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ, تفكيك القضايا الخلافية وفك ارتباطها, إقامة المنطقة العازلة لمنع الاشتباكات المسلحة, ومحاولة تطبيع العلاقات عبر تدفق النفط وفتح المعابر والمبادلات التجارية, وتعزيز المصالح الاقتصادية كمدخل لحلحلة القضايا المعقدة. وهي أقرب لفترة انتقالية لبناء الثقة ريثما تتوفر فرصة أفضل للدخول في ترتيبات تسوية نهائية.

ولذلك فإن اتفاق أديس أبابا الأخير هو بمثابة, استراحة محاربين وهدنة مفاوضين, في انتظار استحقاقات التفاوض النهائي, حول قضايا الجنوب الجديد وهو ما يطلب التفاوض بالضرورة مع قطاع الشمال مع الحاجة الملحة لاستدعاء اتفاق نافع/عقار من ثلاجة التجميد, إذ لا بديل له على الطاولة, كما ان ابيي ستظل كعب أخيل التسوية إذ لا يمكن أن تظل بلا حل لمأزقها, ثم يتصور ان يكون هناك سلاماً دائماً.

وتبقى مسالة مهمة أن تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية وتأسيس المنطقة العازلة لا يعني بالضرورة أنه سيقود لتغيير المعادلة الراهنة في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, فالأزمة في المنطقتين سياسية وليست امنية, والنزاع المسلح تجلي لتلك الأزمة وليس سبباً لها وما لم يتم مخاطبة جذور أسبابها فلن تنتهي من تلقاء نفسها لمجرد تحسن العلاقة بين دولتي السودان.

وهناك نموذج تطبيع العلاقات السودانية التشادية التي كان صناع القرار في الخرطوم يراهنون على أنه ستقضي على التمرد في دارفور, ولكن ما حدث أنه على الرغم من صمود الاتفاقات الأمنية الخاضعة لمراقبة الطرفين إلا أن الأوضاع الأمنية في دارفور تشهد على الرغم من ذلك تدهوراً وانفلاتاً غير مسبوق, مما يسقط نظرية الاحتواء الأمني, والصفقات الجزئية, وفي غياب تسوية سياسية شاملة تعالج الأزمة الوطنية السودانية بكاملها ستبقى الأمور في تدور في الخلقة النفرغة ذاتها من الاضطراب وعدم الاستقرار واستمرار الصراع.


عن صحيفة إيلاف السودانية

 

آراء