المطالبة بإعادة هيكلة الجيش السوداني ودس السم في الدسم

 


 

 

جاء تصنيف الجيش السوداني في المرتبة رقم 69 على قائمة أقوى جيوش العالم، وهذا وفقاً لإحصائيات موقع "غلوبال فير بور" الأمريكي لعام 2019، وضم التصنيف 137 دولة حول العالم، اما على مستوى القارة الأفريقية فقد جاء باعتباره ضمن أقوى عشرة جيوش فيها.
في خضم الاحداث المتلاحقة التي اعقبت الاطاحة بحكم البشير واعلنت انتهاء عهد الانقاذ؛ برزت الى السطح دعوى تفكيك القوات المسلحة السودانية واعادة بنائها على اسس جديدة او ما يسمى بإعادة هيكلة القوات المسلحة، وهي التسمية الودودة لمخطط خبيث، وتنادي بكلمات لطيفة بإبعاد (الجيش عن التدخل في الشؤون السياسية للبلاد أو مشاركته في عمل الأحزاب والقوى السياسية وعليه التفرغ الكامل لعمله المنصوص عليه حسب تعريف الوثيقة الدستورية والاتفاقيات والدساتير السابقة ذات العلاقة بتحديد وحصر مهام واجبات العسكر)، ثم تمددت هذه الدعوى لتشمل كافة القوات النظامية واجهزة الأمن.
حاول من يتبنى هذه الدعوى جهده في تغليفها بهذا المظهر الخادع والبسها ثوب البراءة، وان الهدف منها هو ابعاد الجيش على وجه التحديد عن السياسة، وجعله يلتفت الى تطوير ذاته والتفرغ لهدفه الرئيسي وهو الدفاع عن البلاد،
لكن باطن الامر والهدف غير المعلن هو ان هذه الدعوى تقع في صميم الصراع على النفوذ والهيمنة ونهب موارد دول العالم الثالث من قبل القوى الغربية، هذه القوى التي تسعى لبناء رفاهية مواطنيها على حسب مواطني العالم الثالث، ولا يهمها بؤس هؤلاء ولا مرضهم ولا جهلهم، ومن ثم تسعى لضرب اهم منطقة دفاع في البلاد وهي القوات المسلحة وتفكيكها، وفي حالة العجز عن ذلك تحاول تدجينها او شراء ذمة قادتها؛ لتخلو الساحة لهذه الدول وشركاتها فتنفرد بموارد البلاد وتعيث فيها فسادا ونهباً.
الامثلة التي تقدم في هذا الشأن لا تحصى ولا تعد، ويكفي ما تقوم به الشركات الفرنسية والغربية عموماً في زائير ودول غرب افريقيا وافريقيا الوسطى ومالي وغيرها من بلاد القارة السمراء؛ حيث تسيطر الشركات الغربية على الموارد الطبيعية لهذه البلاد من ماس وذهب ونحاس ويورانيوم وغير ذلك من ثروات، وتتحكم في الحكومات؛ وتنفذ الانقلابات العسكرية متى ما تعرضت مصالحها للخطر. ويجري ذلك تحت ستار الشعارات الغربية المعروفة المستهلكة والتي ما عاد يصدقها طائر من طيور الحواشات من نوع استعادة الديمقراطية، أو حماية حقوق الإنسان، أو حماية حقوق الأقليات، أو الشعار المفضل للتدخل في شؤون الآخرين الا وهو مكافحة الارهاب.
حين قامت اثيوبيا ببناء منظومة عسكرية اخذت تكتسب صفة القوة، واقامت سد النهضة وبدأت الدخول في تنمية حقيقية اشعلوا حرب اقليم التقراي، مما يشي بأن أي بلد افريقي يحاول النهوض والتوجه نحو البحث عن رفاهية مواطنيه فهو موعود بهذه الحروب والصراعات العرقية والتمزق السياسي، علماً بان رئيس وزراء اثيوبيا منتخب ديمقراطياً ولم يأت للحكم بانقلاب عسكري، ومع ذلك فقد وظفت الآلة الإعلامية الغربية كل امكاناتها ضده.
في المنطقة العربية فان هدف هذه القوى الغربية اضافة للنهب والسلب تحقيق ما يسمى بأمن اسرائيل وفي سبيل الوصول لهذا الهدف دمرت هذه القوى الجيش العراقي واشعلت نيران الحرب في سوريا وليبيا واليمن، وتتجه الانظار نحو الجيش الايراني بغرض تكرار السيناريو نفسه.
لذا ليس مستغربا في خضم هذا الصراع اعلان الحرب الباردة على الجيش السوداني والسعي لإضعافه، وهم في هذا الاتجاه يستخدمون عدة وسائل منها الوسيلة المحلية أي تحريض بعض الجهات على الجيش ودفعها للتآمر عليه، والثانية شغله بحروب مستمرة فما ان تطوى صفحة جبهة حتى تفتح اخرى، فعندما اوشكت حرب الجنوب على الانتهاء بادروا بفتح صفحة حرب دارفور، وعندما كادت نيران دارفور أن تنطفي اشعلوا الجبهة الشرقية بغرض توسع القتال ليتحول الى حرب اقليمية، ولا تزال محاولاتهم في هذا الشأن مستمرة.
وتتمثل الثالثة في منع وصول الاسلحة الحديثة للجيش السوداني ومنعه من القيام ببناء صناعاته العسكرية المتطورة. والرابعة هي شن حملة دعائية ضده ووصمه بانه منبع الدكتاتوريين وصانع الانقلابات العسكرية، وانه يقوم بقتل شعبه.
وجدت القوى الغربية ومن واقع تجربتها في العراق وافغانستان ان الدخول المباشر في الصراعات من أجل الهيمنة والنفوذ ونهب الثروات سيكلفها الكثير من الخسائر المادية والمعنوية؛ فقامت بتغيير التكتيك وابقت على الاستراتيجية، والتكتيك الجديد الحالي هو ادارة المعركة عن بعد واتخاذ ابناء البلد كأدوات تكفيهم شر القتال، وهذا التكتيك يخدم لهم عدة اغراض:
اولاً الوصول السريع للهدف الرئيسي وهو ضرب مكامن القوة للبلد المستهدف.
ثانياً انجاز هذا الهدف باقل قدر من الخسائر.
ثالثاً اضعاف جميع القوى في البلد واستنزافها بمن فيهم عملائها والمتعاونين معها حتى لا يتمردوا عليها يوما ما.
المطالبون بإعادة هيكلة الجيش يخدمون مصالح القوى الغربية في المدى الطويل حتى وإن بدا لهم أنهم يخدمون مصالحهم الحزبية أو الجهوية، فهؤلاء يقع تفكيرهم دائماً ضمن نطاق المدى القصير والمكاسب الوقتية؛ ولا يضعون حساباً للأضرار التي تصيب البلاد الناجمة عن افعالهم، وابرز هؤلاء هم الاحزاب اليسارية بصفة عامة، والحركات المسلحة والتي تنشط في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق.
لإنجاز لمهمة كهذه لا بد من ايجاد مبررات ومسوغات يتم عبرها تنفيذ هذا المخطط ويتم تسويق ذلك بواسطة آلة إعلامية ضخمة من مهامها جعل فكرة التفكيك واعادة الهيكلة تبدو مقبولة لدى عامة الشعب ومن ثم للعسكريين انفسهم، واصطناع شعارات مثل (معليش ما عندنا جيش)، و(كنداكة جاء بوليس جرى)، وغيرها من وسائل غسل المخ ثم اعادة شحنه بهذه الترهات، والحجج أو الاتهامات التي يسوقونها هي:
1- عدم قومية الجيش من الناحية العرقية.
2- تسيس الجيش على يد النظام السابق وتبني الكثير من عناصره لأيدولوجيته الاسلامية.
3- ان الجيش بوضعه الحالي تحول الى عصابات وميليشات لا علاقة لها بالمهنية العسكرية.
4- دخول الجيش المجال الاقتصادي عبر مظلة شركات ومصانع لا رقابة عليها.
وسنستعرض في الاسطر القادمة موقف بعض القوى السياسية التي تطالب بهيكلة الجيش:

الحركات المسلحة:
العزف على وتر عدم قومية الجيش أمر تطرب له الحركات المسلحة، ونقتطف هنا بعضاً مما كتبه موسى بشرى محمود في موقع سودانيز اون لاين بتاريخ30/09/2020، حيث انه يلخص بصورة أو بأخرى النظرة العنصرية التي تروج لها بعض الجهات لتمرير مخططها الرامي لتفكيك الجيش السوداني عبر بوابة عدم قومية الجيش.
يقول الكاتب: (سنتجول اليوم في أخر محطة من المحطات التي سنسدل فيها الستار عن أطول وأكثر الابعاد الرئيسة من أجزاء المقال الذى استصحبناه فى سفرنا الطويل عن قضية مهمة تشغل بال كل السودانيين الا وهى مسألة «إعادة هيكلة الجيش السوداني وكافة القوات النظامية الأخرى فى البلاد» حتى يتحرر عقول المتهيمنين والمستعمرين الجدد أي «المتوركين لا الأتراك» كما جاء فى المثل «التركي ولا المتورك» وأصحاب الشركات العسكرية القابضة من الذين يديرون هذه المؤسسة العسكرية العريقة حسب مزاجهم وتكتلاتهم الجهوية والجغرافية وليعلموا حقا " أن السودان ملك للجميع على السواء"
ومن حق أي سوداني المشاركة في العمل مع القوات النظامية بدون تحديده أو تصنيفه حسب سلوك ومعايير مدرسه النظام المدحور المتعارف عليها سلفاً، ومنهجية الحكومات السابقة التي جاءت للوجود قبل الكيزان منذ الاستقلال واثناءه وبعده، بل من حقه أن يتبوأ أعلى الرتب العسكرية بناءً على الأهلية، الكفاءة، الجدارة والمهنية لا على أساس التمايز الطبقي، العرقي أو على أساس اللون، الجنس، الدين أو الانتماء السياسي للنظام الحاكم فى البلاد
بالإضافة إلى ذلك يجب أن لا تخصص رتب الجنود أي «البندقجية»! لأبناء إقليم بعينه والرتب الوسيطة من الضباط لإقليم أخر ونصيب الأسد من الرتب القيادية العليا لشرذمة قليلة من أبناء الشعب السوداني ينحدرون جلهم من بقعة جغرافية بعينها وكأن الأرض السودانية خلقها الله لهم لوحدهم للعيش فيها من دون بقية بنى البشر)
هذا الكاتب نظر للموضوع من وجهة نظر جهوية وظن ان الجيش محتكر لجهة واحدة. وأن الرتب العليا مخصصة لأقاليم ومجموعات عرقية معينة، وهو قول لا تسانده الوقائع باي حال من الاحوال، وانما اقوال مرسلة وانطباعات لا تستند على وثائق او احصائيات يجرى بثها هكذا وعرضها وكأنها حقائق.

الحركة الشعبية:
ترى واحدة من الحركات المتمردة وهي الجيش الشعبي لتحرير السودان (أن يكون هَم ضرورة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية هدف جميع القوي المدنية الفاعلة ولجان المقاومة الثورية، وليس هَم الحركة الشعبية لتحرير السودان فحسب، لان مَؤسَسَة الجيش وتحقيق السيطرة المدنية عليها أولوية قصوي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الثورة السودانية، وبمأسَسَة كل الخطوات والإجراءات التي يتم ولا سيما المتعلقة بميزانية الجيش وخطط الدفاع، وعلاقة الجيش بالأجهزة الأمنية والاستخبارات والقضاء والرقابة المدنية علي كل هذه المستويات والعمليات، وإبعاد الجيش عن إدارة القطاع العام واي مشاريع تجارية ،وإعادة هيكلة كل برنامج التعليم العسكرية). فهنا خطاب غربي صريح يريد الوصول حتى لميزانية الجيش، وميزانية الجيش في الغالبية الساحقة من بلاد العالم إنما هي من اسرار الدولة ولا يطلع عليها الا فئة قليلة للغاية، وحتى الارقام التي تعلن في ميزانيات الدول لا تشكل الرقم الحقيقي لما يصرف على الجيوش، لأن لهذه الجيوش مصادر دخل اخرى ذاتية لا تدرج في ميزانية الدولة للدفاع. وانظر للجيش الامريكي او الاسرائيلي وغيره من الجيوش التي تمتلك الشركات ومصادر الدخل الاخرى.
وليس من الغريب ان تطالب الحركة الشعبية بتفكيك الجيش وهي التي تجرعت الهزائم المرة على يده، فهذه الحركة تريد ان تنفذ على الارض وبالخداع ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح.
الحزب الشيوعي والاحزاب اليسارية عموماً.
انضمام الحزب الشيوعي والاحزاب اليسارية عموماً للمطالبين بإعادة هيكلة القوات المسلحة ليس فيه أي مفاجأة، فهذه الاحزاب (اليسارية) اصبحت ادوات في خدمة القوى (اليمينية) الغربية، وتتبنى لغتها ومواقفها ومن هذه ما قاله السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني:
(قطع الزميل محمد مختار الخطيب السكرتير السياسي للحزب الشيوعي بأن عدم إعادة هيكلة القوات النظامية من جيش وشرطة وأمن، سوف يدفع بتكرار ما حدث في جبرة والأزهري من الخلايا الداعشية، وأنه سوف يستمر التكرار طالما ذلك لم يتم.
وأضاف الخطيب لـ(الميدان) أن هيكلة القوات النظامية يجب أن يصحبه أيضاً إلغاء القوانين المقيدة للحريات التي ما زالت سارية حتى الآن، مبيناً أن أي أخطاء سوف تتكرر أثارها مستقبلاً).
مسألة داعش والخلايا الداعشية خطاب غربي لا جدال فيه، وقد وقعت احداث كثيرة من الدواعش في مناطق مختلفة من العالم؛ وبعضها في قلب عواصم العالم الغربي نفسه كما حدث مرات عديدة في باريس؛ ولم نسمع احداً يطالب بهيكلة الجيش أو القوات النظامية في فرنسا أو في تلك الدول التي وقعت بها الهجمات الداعشية.

من الذي سيس الجيش؟
تتصدر مقولة أن الجيش جرى تسيسه على يد النظام السابق الموقف وأن الكثير من عناصر الجيش تتبنى أيدولوجية اسلامية، لكننا سنرى في الاسطر القادمة ان اول من سيس الجيش هم الشيوعيون انفسهم، فمنذ استقلال السودان لم تكن العلاقة بين اليسار والجيش سمناً على عسل الا في الفترة من مايو 1969 والى يوليو 1971 عدا هذه الفترة القصيرة فان العلاقة بين الطرفين كانت سيئة. والسبب في ذلك هو أن عقيدة الاحزاب السياسية اليسارية تنظر للجيش باعتباره ممثلاً للبرجوازية ومدافعاً عنها.
والشيوعيون الذين ينادون بقومية الجيش وابعاده عن السياسة كانوا اول من ادخل كوادره للجيش، وقامت كوادرهم بانقلاب مايو 1969 ثم نفذت بعد ذلك ما يسمونه في ادبياتهم بالحركة التصحيحية التي قادها هاشم العطا في 1971م لتصحيح الانحراف عن انقلاب مايو، ونقتطف هنا بعضاً من اقوال احد المؤلفين الشيوعيين وهو محمد على خوجلي مؤلف كتاب (عملية يوليو الكبرى في السودان)، يقول الكاتب في صفحة 161:
(في ابريل 1969 اجتمعت قيادات تنظيم الضباط الاحرار، ومرة أخرى اعترض الضباط الشيوعيون على مبدأ الانقلاب وكان اتجاههم هو الغالب حتى اجتماع الثلاثة عشر، وغني عن القول ان قوة التنظيم العسكري للشيوعيين كان من اهم اسباب سعي المجموعة الانقلابية لمشاركتهم).
حاول الكاتب نفي ان انقلاب مايو قام به الشيوعيون ولكن في محاولته للنفي أكد تهمة تسيس القوات المسلحة واختراقها من قبل الشيوعيين. ويؤكد ذلك أيضاً في صفحة 211 حين تساءل: (لماذا اقام الحزب الشيوعي السوداني تنظيمات للعسكريين داخل القوات المسلحة؟ هل بسبب ان مبادئ الاممية الشيوعية فرضت على الاحزاب الشيوعية مبدا "الدعاية في الجيش" ام انه كان في الاصل حزبا انقلابياً كما روجت بعضا من قياداته واعدائه؟).
ويؤكد مرة أخرى في صفحة 219 الجهد الشيوعي في اختراق القوات المسلحة، حيث يقول: (عمل الحزب على تكوين تنظيم شيوعي بين القوات المسلحة واستطاع اقناع رابطة الطلاب الشيوعيين بالانخراط في الكلية الحربية رغم الصعوبات التي كانت توضع في وجه قبول الطلاب في وقت كانت تسود فيه الاتجاهات الثورية حركة الطلبة).
المشكلة مع نظرة الشيوعيين السودانيين للجيش انها تتسم بالتناقض، فهم لا يتناولون الامر وفق رؤية واحدة موحدة، فالجيش جيشهم متى ما كان لعناصرهم وخلاياهم مركز قوة فيه؛ وهم ضده متى ما فقدوا هذه الخلايا. ويتأكد هذه الاتهام من خلال ما خطه الكاتب عن نظرة الشيوعيين للجيش بعد ثورة اكتوبر عام 1964، إذ كانوا ينظرون لجيش ما بعد الثورة بعين الرضا؛ واشار الكاتب الى وثيقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في اجتماع نوفمبر 1964 وقال: ( وخلصت اللجنة المركزية الى ان استكمال ثورة اكتوبر يحتاج الى ثورة ثانية تلعب فيها القوات المسلحة دوراً حاسماً).
لكن قبل ثورة اكتوبر كانت نظرتهم للجيش سلبية للغاية حسبما جاء في صفحة 217: (الجيش ليس طبقة او فئة اجتماعية واحدة كما انه ليس معزولاً عن عمليات الصراع الطبقي، فهناك كبار الجنرالات الرجعيين الذين برهن حكمهم الديكتاتوري في اعوام 1058-1964 على أنه جزء من البرجوازية المرتبطة بالاستعمار).
ولفض هذا التناقض بين الموقفين اضطروا للتمييز بين كبار الضباط من ناحية وبين صغارهم وضباط الصف والجنود من ناحية أخرى، وبعد ان تمكنوا من ادخالهم بعض عناصرهم داخل الجيش تغير التقييم السابق شديد العداء للجيش والذي يصم الجيش بانه (جزء من البرجوازية المرتبطة بالاستعمار) الى وصف آخر لين، فقد جاء في مؤتمر الكادر الشيوعي عام 1970 وفي تقييمه للقوات المسلحة: (اغلبية الجنود والصف والضباط يخرجون من بين الطبقات الكادحة لهذا فهم معادون للاستعمار ومصلحتهم في دفع البلد للتقدم وان اغلبية الضباط من فئة البرجوازية الصغيرة المتعلمة) ص 219 . فهنا تغير وضع الجيش من برجوازية مرتبطة بالاستعمار الى ان اغلبية الجنود وضباط الصف والضباط معادون للاستعمار.
الخلل في هذا الفهم ان صغار الضباط سيصبحون في مرحلة لاحقة ضباطاً كبار لا محالة وهذا بحكم الترقي وسنوات الخدمة وما الى ذلك، وسيكون السؤال هل سيتحول هؤلاء الضباط من (معادون للاستعمار) حينما كانوا صغاراً إلى (جزء من البرجوازية المرتبطة بالاستعمار) لمجرد ترقيهم؟، وهذا كله يثبت أن هذه التنظيرات الفطيرة محض اوهام ترتدي ثوب العلمية، ولا تصمد أمام أي نقد موضوعي.
يورد صلاح الدين كرار بالتفصيل والاسماء محاولات الحزب الشيوعي اختراق القوات المسلحة حيث يقول:
(استمرت خطط الحزب الشيوعي في ادخال كوادره في المدارس الثانوية الي الكلية الحربية ، منهم المرحوم المقدم محمد عبد المجيد جريس الدفعة 13 والذي نعاه الحزب الشيوعي بصحيفة الحزب الميدان بتاريخ 2 ديسمبر 2021 كما ذكرت . تواصل جهد الحزب الشيوعي في كل الدفع نذكر منهم من شارك في انقلاب البعثين رمصان 1991 . لكن اكبر دفعه ادخلها الحزب الشيوعي الي الجيش كانت الدفعة 20 كليه حربيه، وكان اغلبهم من مدرسة خور طقت الثانوية ومدرسه المؤتمر الثانوية بأم درمان وبعضهم من مدرسه وادي سيدنا، واذكر منهم ( لقاءات معهم وكتب نشروها تجدونها في المكتبات و علي اليوتيوب تحت عنوان انقلاب الحزب الشيوعي يوليو 1971 ) منهم :- صلاح بشير عبد الرحمن الدفعة 20 كادر شيوعي؛ نقل بعد مايو 69 من المشاة الي المدرعات وشارك في انقلاب هاشم العطا . الرائد احمد الحسين الحسن عثمان الدفعة 20 كادر شيوعي . الرائد احمد جباره والرائد الحاردلو الدفعة 20 الذين نفذا مذبحة بيت الضيافة في يوم 22 يوليو 1971 . عدد اخر كبير من عضوية الحزب الشيوعي بالجيش منهم :- عبد العظيم عوض سرور الدفعة 19 . الرائد عمر احمد وقيع الله الدفعة 20 . الرائد عبد الله ابراهيم الصافي الدفعة 21 . الرائد عبد المتعال ابراهيم شمعون الدفعة 20 . الملازم زهير قاسم الدفعة 23 . وعدد اخر كبير من كوادر الحزب الشيوعي الذين شاركوا في انقلاب 19يوليو 1971 وعدد اخر لم يتمكن من المشاركة اما لوجودهم في الجنوب او في دورات خارجيه).
البعثيون:
تاريخ حزب البعث في تجربتيه العراقية والسورية تثبت ان تسيس الجيش والاستيلاء على السلطة بالانقلابات العسكرية امر مؤسس وراسخ لديهم، ولا يمكن ان نتصور ان تجربتهم في السودان ستكون مختلفة عن تجاربهم السابقة، وكانت اشهر فصول عملهم في السودان ومحاولتهم اختراق الجيش هي محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 1990، والتي راح ضحيتها ثمانية وعشرين ضابطاً منهم جرى اعدامهم نتيجة لذلك.
ولم تكن محاولة الانقلاب عام 1990 هي الاولى؛ فقد سبقت ذلك محاولة عام 1985 ضد الفريق سوار الذهب، ويذكر صلاح الدين كرار أن (اول قرارين اتخذهما الفريق بحري فتحي احمد علي القائد العام الجديد تعيين عبد الرحمن الصادق المهدي ضابطا بالقوات المسلحة؛ وكان القرار الثاني اعاده عشرة من ضباط حزب البعث الذين احالهم المشير سوار الذهب للمعاش في منتصف الفترة الانتقالية 1985م؛ بعد اكتشاف ان خليتهم تخطط لانقلاب).
التنظيمات الاسلامية
التنظيمات الاسلامية هي الاخرى ليست بريئة من تهمة اختراق الجيش وتسيسه حيث نفذت انقلابا ناجحاً في يونيو عام 1989، بما يؤكد ان الفكر الانقلابي في السودان ليس حكراً على أحد.
الاحزاب الطائفية
هذه الاحزاب التي تنادي بإبعاد الجيش عن السياسة ساهمت مساهمة فعالة في تسليم السلطة للجيش في نوفمبر عم 1958، وارسل السيدان عبد الرحمن المهدي والسيد على الميرغني برقيات تأييد للانقلاب. وكانت احد اهم اسباب دعوة الجيش في عام 1958 لاستلام السلطة هو قطع الطريق امام السيد اسماعيل الازهري، وكان وقتها متمرداً على السيادة الطائفية لكل من السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي، مما دعاهما في سابقة تاريخية للائتلاف ضده واسقاطه بكل الوسائل الممكنة؛ ما كان منها ديمقراطياً بتشكيل تحالفات ضده؛ وغير ديمقراطي وهي الاستعانة بالجيش.
موقف القوى الاقليمية
تبدو خطط بعض الدول الاقليمية والمجاورة تجاه الجيش السوداني منقسمة، فبعض منها يرى أن من مصلحتها ومصلحة امنها القومي عدم وجود جيش سوداني قوى، بينما ترى دول اخرى مجاورة ان وجود جيش قوى بدرجة معقولة لديها سيحمي المنطقة عموماً من الفوضى؛ ولكنها لا تريد جيشاً قوياً على اطلاقه؛ بما يهدد نفوذ هذه الدول على الساحة السودانية أو الساحة الخارجية، وهي بالتالي تؤيد فكرة الهيكلة لكن وفق ضوابطها ورؤاها وبما يحفظ امنها القومي، دون النظر للمصلحة السودانية.
الهيكلة من وجهة نظر الجيش نفسه
المطالب بالهيكلة من داخل المؤسسة العسكرية أمر طبيعي وصحي فهنا يجري النظر للموضوع من ناحية مهنية بحتة، أي أنه يجب ان يحدث ولكن وفق التطور الطبيعي الذي يحدث لأي جيش في العالم، وأن يحدث بتدرج ووفق خطة مدروسة، وهو المسار السليم.
اتضح من السرد اعلاه أن القوى السياسية في السودان قد اخترقت في الماضي او حاولت اختراق القوات المسلحة، وأن المطالبة من جانبها بإعادة هيكلة الجيش والقوات النظامية والأمنية الأخرى، ليس حباً منها في الشعار نفسه ولا اقتناعا به ولا وطنية منها ولا هياما وحباً لتراب السودان، بل هو قول بمثابة سلاح ترفعه هذه القوى الحزبية بشقيها العقائدي والطائفي ضد بعضها البعض، وهذا متى ما احست بتمركز لخصم من خصومها داخل القوات المسلحة، فهو صراع بين خصوم وجماعات سياسية ادمنت الشقاق والاختلاف، يستخدمون فيه الجيش درعاً دونما نظر الى خطورة هذا الأمر على مستقبل البلاد، ودونما تبصر وتمعن في اطماع القوى الخارجية وصراع النفوذ والهيمنة، وسياسة تفتيت الدول التي تتبعها الدول الغربية وشغلها بالحروب والنزاعات من اجل سرقة ثرواتها ونهب خيراتها.
هذه القوى الحزبية بشقيها العقائدي والطائفي فشلت في تقديم نموذج مشرف للديمقراطية داخلها، وفشلت في ضبط ادائها وكثرت فيها الانقسامات، ولم تعد تبالي بإلصاق صفة العمالة بها؛ فكيف تؤتمن احزاب مثل هذه على احد اهم مكامن القوة في البلاد؟ ولنفترض ان مطالبها بإعادة الهيكلة قد تحققت هل سنضمن انها ستكف بعد ذلك عن محاولات اختراق الجيش وتسيسه؟
كلا.. فمن شب على شيء شاب عليه.

nakhla@hotmail.com
/////////////////////////////////////

 

آراء