المعركة من أجل أوراسيا (2/2) .. من العولمة إلى الجغرافيا السياسية .. بقلم بيرجيت ماهنكوبف .. تقديم وترجمة: فادية فضّة وحامد فضل الله

 


 

 

بقلم بيرجيت ماهنكوبف Birgit Mahnkopf
تقديم وترجمة: فادية فضّة وحامد فضل الله

مدخل:
إنّ البحث القيّم والهام، والذي نستعرضهُ الآن وقد صدر تواً في المجلة الشهريّة "أوراق للسياسة الألمانية
والدولية"، يُظهر حرب روسيا ضدّ أوكرانيا بوضوح: أن ليس أزمة المناخ فحسب، وبل النزاعات حول القوّة الإقليمية والوصول إلى المواد الخام، ستشتد بشكلٍ كبيرٍ في المستقبل أيضاً. تُدرك وتُشير ماهنكوبف أستاذ (متقاعد) للسياسة الاجتماعية الأوروبية في كلية برلين للاقتصاد والقانون، وعضو في المجلس الاستشاري العلمي في أتاك (Attac ) المانيا، بعودة سياسات القوة الجيوسياسية الكلاسيكية، خاصّة في المنطقة الأوروبيّة الآسيوية.
يبدو أنه منسي أيضاً، أن ممثلي الدول في مؤتمر المناخ العالمي في غلاسكو تعهدوا بعدم دعم أي مشاريع جديدة للفحم أو النفط أو الغاز بأموال عامة اعتباراً من عام 2023 فصاعداً. لكن في اجتماع مجموعة السبعة G7 في تموز/يوليو من هذا العام، أوضح المستشار أولاف شولتز أن الأموال العامة ستتدفق بالتأكيد من ألمانيا، على سبيل المثال إذا قامت السنغال - مع شركة بريتيش بتروليوم ومستثمرين آخرين - ببناء حقل غاز كبير على ساحلها في منتصف محمية طبيعية لإنتاج الغاز السائل وستعمل تدريجياً على توسيع طاقة محطات الغاز الطبيعي المضغوط لتصل إلى 10 مليارات متر مكعب. بالطبع، لا يتعلق هذا المشروع وغيره من المشاريع في إفريقيا أبداً بتوفير الطاقة لملايين الأفارقة الذين يفتقرون إلى الكهرباء لأبسط الأغراض مثل الطهي، ولكن دائماً يتعلق "بأمن الطاقة" للقوى خارج الحدود الإقليمية.
الصفقة الأوروبية الخضراء ستصبح ورقة مُهملة
لم تكد الحرب العدوانية الروسية في أوكرانيا والتحركات الجيوسياسية، التي لا تُعزى بأي حال من الأحوال إلى روسيا وحدها، حتى واجهتنا بالحاجة إلى الاكتفاء بطاقة أقل في الشتاء القادم، كانت جميع نقاط سياسة الطاقة تقريباً التي يجب أن تبدأ في صفقة خضراء أوروبية تم تفكيكها في لمح البصر. كانت الوعود التي قدمتها مفوضية الاتحاد الأوروبي "برنامج مناسب لـ 55" أكثر من مجرد "دخان شمعة" في عام 2021، إن لم تكن خداعاً كبيراً (للذات). لكن الحرب المالية والاقتصادية، التي تريد دول الناتو بها أن تجعل روسيا تجثو على ركبتيها، تجعل الآن من الصفقة الخضراء "برنامجًا مزيفًا" حقيقياً.
يعد برنامج (REPower) للاتحاد الاوروبي الذي تمّ تمريره في آذار/مارس فضيحة بالفعل في سياسة الطاقة، حيث يسمح باحتراق الفحم بنسبة 5٪ أكثر في الاتحاد الأوروبي لمدة 5-10 سنوات - أو 100 تيراوات (TWh) ساعة سنوياً (لتحويل تيراوات الى ميجاوات: كل 1 تيراوات يساوي 1000000 ميجاوات. على سبيل المثال، 100 تيراوات يساوي 100 * 1000000 = 100000000 ميجاوات وهكذا.)، وهو ما يتوافق تقريباً مع استهلاك الطاقة في بلجيكا. ومع ذلك، لم يعد يتم شراء الفحم من روسيا، ولكن سوف يتم جلبه عن طريق السفن من مناطق بعيدة، من أستراليا أو جنوب إفريقيا أو كولومبيا. سيعني التوسع الموازي للطاقة النووية في المجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وبلجيكا وفرنسا، أنه إذا كان هناك فائض في المعروض من الكهرباء في صيف عام 2030، فسيتعين التخلص من ملايين ميغاوات من الطاقة المتجددة من شبكة الطاقة الأوروبية - لأن محطات الطاقة النووية لا يمكن إيقاف تشغيلها في وقت قصير.
بطبيعة الحال، أدت "حرب الطاقة" التي بدأت مع الإغلاق الذي فرضته الولايات المتحدة على خط أنابيب نورد ستريم 2 إلى ارتفاع أسعار جميع أنواع الوقود الأحفوري، ومعها أسعار العديد من السلع الغذائية والصناعية التي تعتمد عليها. ومع ذلك، فإن هذا الارتباط يمكن أن يفاجئ فقط أولئك الذين لم يفكروا بعد في اعتماد الغذاء الرخيص على مصادر الطاقة الرخيصة. كما أنه ليس من المستغرب أن يتضاعف صافي الدخل لشركات الطاقة الكبرى في عام 2022 مقارنة بالعام السابق. يستخدم المساهمون في شل وبي بي وشركاه جزءاً كبيراً من "الأرباح المفاجئة" لتوزيعات الأرباح وإعادة شراء أسهمهم. ربما يعتمد هذا على افتراض أن الاستثمارات في البنية التحتية للوقود الأحفوري قد لا تكون مربحة على المدى الطويل أيضاً - إما نتيجة للركود العالمي أو لأنه لم يعد من الممكن تجاهل علامات انهيار الكوكب.
بطبيعة الحال، لا يزال غاز خطوط الأنابيب الروسي يتسرب من الأرض، وبما أن خطوط الأنابيب لا يمكن تحويلها في أي اتجاه آخر، يتم حرقها في الغالب، مما يتسبب في كميات كبيرة من الانبعاثات الضارة بالمناخ. تعمل في الوقت نفسه، الحكومة الفيدرالية على وجه الخصوص على زيادة الطلب على غاز التكسير الأكثر ضرراً بيئياً - بغض النظر عن مصدره وبغض النظر عن السعر. تحقيقا لهذه الغاية، يتم إجراء استثمارات ضخمة في البنية التحتية الجديدة لتسييل ونقل وإعادة تحويل الغاز المتصدع إلى غاز في خليج المكسيك لنقله للسواحل الأوروبية. ومع ذلك، فإن هذه الاستثمارات لن تؤتي ثمارها إلا إذا كانت البنى التحتية الجديدة للوقود الأحفوري ستظل مستخدمة في غضون 30 عاماً - أي في وقت أراد الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة أن يكون "محايداً مناخياً".
السيادة التكنولوجية والنضال من أجل المعادن و الفلزات (المركبات الصلبة)
يجب تحقيق أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي من خلال كهربة النقل والصناعة والإسكان. وهذا يتطلب توسعاً هائلاً في قدرة توليد الكهرباء من المصادر المتجددة - وبالتالي توسيع شبكات الطاقة الوطنية والعابرة للوطنية والعابرة للقارات أيضاً. ومثل خطوط الأنابيب، تربط شبكات الكهرباء السيادية سياسياً، وتخلق تبعيات متبادلة أيضاً. شبكات الطاقة هي "بنى تحتية حيوية" أيضاً، ويجب حمايتها من جميع التهديدات والتنازلات المحتملة، ليس أقلها مما يعرف الآن باسم "الحرب المختلطة أو الهجينة". ولكن على عكس خطوط أنابيب النفط والغاز، فإن القوة الجيوسياسية في شبكات الطاقة تنبع في المقام الأول من القدرة على وضع المعايير والقواعد التي يتم من خلالها تصميمها وربطها ببعضها البعض، ومن امتلاك التكنولوجيا التي يمكنها التحكم في تدفقات الكهرباء.
بالطبع، وضعت مفوضية الاتحاد الأوروبي هذا في الاعتبار عندما ادعت "السيادة التكنولوجية" أيضاً لأهم مشروعين مستقبليين في عام 2020 - لرقمنة الاقتصاد والمجتمع ولتوسيع البنية التحتية للطاقات المتجددة. وفقاً لنموذج الاتحاد الأوروبي المثبت لتوسيع السلطة من خلال نقل اللوائح والقواعد والمعايير في دوائر متحدة في المستقبل، يجب أن تكون شبكات الكهرباء عبر القارات في أيدي الشركات الأوروبية وأن تخضع للتنظيم والرقابة من قبل السلطات المحلية - و ثم تدريجياً في مجال السيادة على الدول غير الأوروبية. ولكن مرة أخرى من المتوقع أن تقوم الصين على طول طرق الحرير الجديدة بتصدير أنظمة لتوليد الطاقة اضافة لأنظمتها وقواعدها ومعاييرها.
عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية حول المعايير التكنولوجية، والتي تشمل التغطية بأحدث معايير الاتصالات المتنقلة مثل إتقان سلاسل القيمة المغلقة لإنتاج جميع التقنيات الجديدة، نجد أن الأوروبيين ليس في أيديهم أفضل البطاقات. حيث تشارك الشركات الصينية بالفعل في شبكات الكهرباء في اليونان وإيطاليا والبرتغال وتسعى في كل مكان لتحقيق هدف ضمان توصيل شبكة الكهرباء القادمة من الصين والموجهة نحو الصين. إنها ميزة كبيرة للجمهورية الشعبية أنها تنتج العديد من المواد الخام اللازمة لكهربة و رقمنة الأنشطة الاقتصادية والعسكرية في بلدها أو تستوردها بهدف تحويلها إلى منتجات وسيطة لاستخدامها لاحقاً في العمليات الصناعية. عادة ما يكون هذا عملاً قذراً إلى حدّ ما ، وقد انسحبت منه الشركات الأوروبية والأمريكية في السنوات الأخيرة من أجل التركيز على القيمة الأعلى (أي: أكثر ربحاً) لخطوات في خلق القيمة. ومع ذلك، لم تعد الصين اليوم ترغب في الاكتفاء باستخراج المواد الخام بكميات كبيرة وتحويلها إلى منتجات وسيطة، ولكنها تستخدم كلّ إمكانياتها لدمجها في منتجات نهائية عالية الجودة. حتى أكثر من الاضطرابات في سلاسل القيمة العالمية الناجمة عن الوباء، فإن هذا يؤدي بشكل متزايد إلى تعطيل نظام التقسيم العالمي السابق للعمل.
إعلان مفتوح للحرب على الأنظمة الفيزيائية الحيوية للأرض
"النقلات" الجيوسياسية التي منحنا إياها صيف 2022، لا تبعث على التفاؤل: كردّ فعل على حرب أوكرانيا، يتم الاستمرار في تشغيل محطات الفحم والطاقة النووية بل وتوسيعها، ليس في أوروبا فقط. ويتم إطلاق مشاريع جديدة للنفط والغاز في كلّ مكان. لا يمكن وصف هذا إلاّ بأنه إعلان مفتوح للحرب على الأنظمة الفيزيائية الحيوية للأرض. إذا لم يتم إيقاف هذه "الحرب على الكوكب" على الفور، فسوف نعود بأنفسنا بحلول نهاية القرن إلى درجات الحرارة التي شوهدت لآخر مرّة خلال العصر الأيوسيني منذ حوالي 50 مليون سنة، قبل وقت طويل من ظهور "البشر في الهولوسين" (ماكس فريش) .
من المتوقع أن تتعزز الهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية - على أساس "مجمعها الصناعي العسكري الرقمي" والسعي العنيد لمصالح القوى العظمى، ولكن مع الإهمال التام لأجندة السياسة البيئية. من المحتمل أن تُضعف روسيا اقتصادياً، على الأقل على المدى الطويل، وستتحول – جنوباً وشرقاً لتلعب دوراً ثانوياً مقارنة بالصين -. وبذلك، لن تضطر الدولة فقط إلى بيع المواد الخام للطاقة والعديد من الموارد الزراعية والمعدنية بأسعار الإغراق فقط، ولكن - مثل أوكرانيا - ستصبح جميع الالتزامات البيئية في مهب الريح أيضاً.
لا يزال هناك احتمال أن تصبح الصين القوة المسيطرة يوماً ما على "جزيرة العالم". لكن هذا يفترض أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع عسكري مع الصين في أقرب وقت ممكن - بينما لا يزال عدد قواتها البحرية يفوق عدد قوات الصين. علاوة على ذلك، لا يمكن للصين أن تصبح قوة مهيمنة جديدة إلا إذا وجدت حلاً مستداماً للعلاقة الشديدة التوتر بين إمدادات الطاقة والمياه والغذاء في بلدها. لا يعني مصير العالم "غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" أياً من اللاعبين الكبار على أي حال. لكن الصورة التي ترسمها أوروبا محزنة بشكل خاص. إنها مرتبطة بتحالف الأطلسي في "ولاء تابع مختار ذاتياً" وستخرج اقتصادياً ضعيفةً للغاية من التزامها العسكري والاقتصادي تجاه أوكرانيا - بسبب الانسحاب المتسرع وغير المدروس لإمدادات الطاقة من روسيا وإنفاقها المضلل على إعادة التسلح والذي إلى جانب التضخم ونقص العرض، مما يقلل بشكل كبير من القدرة التنافسية للصناعة الأوروبية.
بالإضافة إلى ذلك، قد يتسبب الركود العميق، في انخفاض اليورو أيضاً. تعتبر أوروبا في الواقع في وضع متميز نسبياً: فهي تقع في خطوط العرض الوسطى، والتي ستظل على الأقل صالحة للسكن إلى حد كبير حتى في ظل التطورات المتوقعة في المناخ العالمي؛ مجهزة بتنوع كبير في الإنتاج والمعرفة وهياكل التكنولوجيا، وشبكة لا تزال كثيفة من البنية التحتية الاجتماعية وسكان متعلمون نسبياً. أضف إلى ذلك معرفة تاريخ طويل من الحروب الرهيبة بين سكانها وتاريخ أكثر فظاعة من محاولات حل مشاكل أوروبا الداخلية من خلال التوسع الجيوسياسي.
في ظلّ هذه الخلفية، يجب أن يكون من الأسهل علينا أن نختار مساراً صلباً لمستقبل لا يزال يستحق العيش، مقارنة مع مستقبل الناس في القارات الأخرى. بالطبع، يجب أن يقطع هذا المبدأ المدمر المتمثل في الرغبة في زيادة إنتاج الطاقة لكل هكتار من الأرض على "السطح الكروي المحدود للأرض" (إيمانويل كانط). بدلاً من ذلك، يجب أن نبدأ فوراً - بالتدخل في تنظيم العقارات والسوق - لتقليل استهلاكنا للطاقة بشكل جذري وكذلك استهلاك المواد الخام لدينا - أولاً إلى مستوى السبعينيات، ثم خطوة بخطوة إلى مستوى الستينيات و أخيراً إلى خمسينيات القرن الماضي. من شأن ذلك أن يمنح "بقية العالم" على الأقل فرصة للبقاء على قيد الحياة، وبفضل التقدم التقني - كما نأمل - التقدم الاجتماعي والأخلاقي الذي تم إحرازه على مدار السبعين عاماً الماضية، لن نضطر إلى مواجهة اي تطور حضاري نحو الخلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال بالألمانية (von der Globalisierung zurück zur Geopolitik-Der Kampf um Eurasien) صدر في مجلة أوراق للسياسة الألمانية والدولية (Blätter für deutsche und internationale Politik) العدد رقم 10/ 22.)

hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء