المك آدم أم دبالو كما كتبت عنه جانت إيوالد
د. يوسف محمد أحمد إدريس
19 January, 2023
19 January, 2023
المك آدم أم دبالو كما كتبت عنه جانت إيوالدJanet Ewald
د. يوسف محمد أحمد إدريس
yousifidris@yahoo.com
يتناول هذا المقال بعض ما كتبت جانت إيوالد الباحثة والمؤرخة الاسترالية عن المك آدم أم دبالو في كتابها عن مملكة تقلي ضمن بحثها الذى حصلت به على الدكتوراه فى جامعة وسكنسون بالولايات المتحدة الأمريكية ونشر في 1990 بعنوان :
Soldiers, Traders and Slaves: State Formation and Economic Transformation in the Greater Nile Valley, 1700-1885.
الجنود والتجار والرقيق: بناء الدولة والتحول الاقتصادي في وادى النيل الكبير 1700- 1885.
كنت مهتماً بقراءة هذا الكتاب الذى يعد مرجعاً مهماً عن مملكة تقلي، فبحثت عنه فى مظان كثيرة إلى أن عثر ابني ناظم مؤخراً (بمساعدة أحد أصدقائه) على نسخة منه في متجر أمازون بكندا وأهدانى إياها فى منتصف ديسمبر 2022.
مملكة تقلي هى المملكة السودانية التى نشأت في منطقة جبال النوبة وتولى قيادتها خمسة عشر من ملوك (مكوك) جبال النوبة في الفترة منذ تأسيسها فى بداية القرن الثامن عشر حتى سقوطها. عاصرت مملكة تقلي السلطنة الزرقاء وسلطنة دارفور واستعصت على المستعمرين وظلت مستقلة تكسرت على مشارف حدودها رماح الحكومة التركية وباءت حملاتها المتكررة على تقلي بالهزائم حين بسطت التركية نفوذها على كل السودان الحالي. لم تجد هذه المملكة ما تستحقه من الدراسة والتوثيق من المؤرخين الوطنيين ولم تذكر فى مناهج التعليم إلا لماماً. يعد بحث جانيت إيوالد وكتابها المذكور أكثر الكتابات (التى اطلعت عليها) عمقاً وشموليةً وتوثيقاً لمملكة تقلي ويستحق الترجمة للعربية ليُعرِّف القارئ السوداني بالكثير مما غاب عنه من تاريخ هذه المملكة.
أم دبالو هو آدم ود عمر ود أبكر ود إسماعيل ود محمد ود جيلي. وهو سليل الأسرة المالكة في تقلي فآباؤه من عمر حتى جيلي مكوك تعاقبوا على عرش تقلي على مدار قرنين. أمه هى حليمة بت الأرباب فضل الله من قبيلة الكواهلة رعاة السهول الطينية في تلك المنطقة، وهو أول مكوك تقلي من أم عربية لهذا لُقِّبْ بآدم العربي تمييزاً له عن أخيه غير الشقيق آدم التوتماوي. أولاده هم عمر النوباوي(نسبة لأمه من النوبة بجبل الداير) وعلي ومصطفي ( سمى نفسه جيلي واشتهر به) وأبو فلجة وولدان آخران.
كان آدم ود عمر ملكاً محارباً، اشتهر بحبه للأسلحة وله قدرات عالية وكفاءة كبيرة فى استخدامها وهو ذو مهابة، لهذا لقب بأم دبالو، أى سيد الصولجان، وهو اللقب الذى اشتهر به.
تولى آدم أم دبالو عرش مملكة تقلي بعد فترة من الصراعات الداخلية العنيفة وسط الأسرة الحاكمة اتسمت بالدموية وإزاحة الملوك بالقوة، والاستعانة في بعض الأحيان بالحكومة التركية في الدعم العسكري بالتعهد لها بمغانم مادية ( آلاف الرقيق وغيره) أكثر مما يقدمه لها المك القائم على العرش، أو استمالة بعض جنودها للفرار بأسلحتهم النارية من جيش الحكومة التركية والانضمام لجيش طرف من أطراف الأسرة الحاكمة بالاغراءات المادية التى تفوق ما توفره لهم الحكومة التركية. كان من أسباب ظاهرة النزاع العنيف على المُلكْ عدم وجود قواعد مرجعية دقيقة متفق عليها من الأسرة الحاكمة أو اتباعها للخلافة في الملك ولانتقال الحكم للمك الجديد بسلاسة مما جعل أبناء الملوك السابقين يدّعون الحق في الملك ويجيشون الجيوش ويستعينوا أحياناً بالحكام الأتراك للاستيلاء على المُلك.
كانت أطول فترة مك في تقلي قبل أم دبالو هى فترة المك عمر أبوزنتار 1750-1783 ثم أبكر ود اسماعيل، جد أم دبالو، التى استمرت عشرين عاما من 1800 حتى 1820 م وعمه ناصر ود أبكر 1843-1860 ثم والده المك عمر ود أبكر الذى استمر حكمه خمسة عشر عاما من 1820 حتى 1835م . قاد آدم تمرداً شعبياً وبدعم من الحكومة التركية أطاح بعمه ناصر ( فر ولم يٌقتل ثم لجأ لمصر عام 1864 بمساعدة الأتراك) الذى تولى الملك بعد عمه مريود ود اسماعيل الذي حكم ثلاث سنوات فقط بعد أن تمرد على ابن أخيه أحمد ود أبكر الذى حكم خمس سنوات. استمر حكم أم دبالو أربعة وعشرين عاماً (1860 -1884) وهى ثاني أطول فترة حكم مك من مكوك تقلي منذ تأسيسها حتى انهيارها.
اعتمد مكوك تقلي على مجتمعات أمهاتهم من سكان جبال النوبة كحواضن اجتماعية وسياسية وثقافية وعسكرية، وكانت القبائل الرعوية ذات الأصول العربية في السهول الطينية لتقلي (كنانة والكواهلة وأولاد حميد) أحد مكونات مجتمع مملكة تقلي التى شغلت معظم الملوك بكيفية إدارتها والتعامل مع طبيعة نمط حياتها الذى يختلف عن مجتمع سكان جبال النوبة الزراعي المستقر ولهذا تأرجحت علاقاتها بالملوك بين التحالفات والخلافات والنزاعات. لما كانت أم المك آدم أم دبالو من قبيلة عربية ومجتمع الأم هو حاضنة المك الأساسية في تقلي فقد توفرت له خلافاً لغيره من الملوك حاضنة من مجتمع الجبال وحاضنة من مجتمع السهل الطيني مما مكنه من إدارة هذين المجتمعين بسلاسة ودعم من الطرفين قوى شوكته وعززه مكامن قوته الأخرى وأعانه على التصدى لتحديات الصراعات الداخلية والمهددات الخارجية فتوقفت النزاعات بين مملكة تقلي والمجتمعات الرعوية التى كانت من سمات فترة حكم المك ناصر الذى سبق المك ام دبالو. تصدى أم دبالو لتمرد مؤمن ابن عمه ناصر فهزمه وقتله (سمى المكان الذى قتل وقبر فيه جبل مُومِن) ثم تصدى لتمرد فحل وخريف أبناء عمه ناصر فى سبعينيات القرن التاسع عشر وانتصر عليهما فى معركة أم بيوت فاستتب له الملك دون منازعات حتى المهدية.
اتسم أم دبالو بحسن التعامل مع سكان مملكته خلافاً لما عهدوه من سلفه المك ناصر الذى كان قاسياً جلب لنفسه كراهية الكثير من أهل المملكة خاصة سكان السهل من القبائل الرعوية وبالأخص كنانة، الذين شن عليهم المك ناصر عدة حملات عنيفة. كان أم دبالو محبوباً ومقدراً من رعاياه. لهذا فقد نعم بفترة حكم خلت من أى تحديات داخلية أو خارجية خطيرة إلا بعد أن قويت شوكة المهدي فى كردفان بعد تحرير الأبيض والنصر المؤزر في معركة شيكان.
عرف الملك أم دبالو بين أهل مملكة تقلي بصفات الملك الطيب الخيِّر مقارنة بسلفه المك ناصر، وقد تجلى ذلك في معاملة رعاياه بعدالة والدفاع عنهم وبسط السلام في المملكة ومجتمعاتها وقد عاش أهل الجبال فى أمن من غارات الأعداء في السهول واضطهاد الحكام ومارس المزارعون أنشطتهم من زراعة وحصاد في السهول بسلام، مقيمين تحت سفوح الجبال فى طمأنينة طوال موسم الأمطار خلال فترة مُلكِه. عرف عن المك أم دبالو الترفع عن ترويع أهل الجبال الأخرى بالهجمات من أجل الغنائم والرقيق، التى كانت برنامجاً عند بعض أسلافه، وعرف ببذله المكفآت لحلفائه بسخاء والتزامه المشهود بالامتيازات التى منحها لشيوخ الدين الاسلامي (الفقراء) وغيرهم من أعيان المملكة تقديراً لمكانتهم في مجتمع مملكة تقلي.
أحدث أم دبالو تغييرات جوهرية في تركيبة السلطة بمملكة تقلي وذلك بتعظيم دور أهل السهول ذوى الأصول العربية (أهل أمه) على حساب أهل المرتفعات الجبلية خلافاً لأسلافه من ملوك تقلي، كما عزز نفوذ وامتيازات شيوخ الدين الأسلامي (الفقراء). واجه أم دبالو جراء ذلك مراكز القوى فى تقلي من أهل مجتمع الجبال ( مكوك العادة وشيوخ الطين والكجور) الذين شرعوا فى حجب وتقييد منافذ المك للموارد المادية فى الجبال، بما فى ذلك الجنود والسند الأيديولوجي، في سياق دفاعهم عن امتيازاتهم. تصدى أم دبالو لاجراءات مراكز القوى لحجب وإغلاق الكثير من منافذ الموارد المادية والسند الروحي، بالتوسع فى نظام الحيشان الملكية والاعتماد على الاسلام فى شرعية ملكه. صرف أم دبالو وجهه عن معظم مصادر القوة في المرتفعات الجبلية لكن ظل سكانها مصدر الجنود المشاة فى جيشه إلا أن السيطرة على سلاح الفرسان والتسلسل الهرمي والقيم الحربية اصبحت من نصيب رعاة السهول ذوى الأصول العربية.
استمر الوسطاء الروحيون في أداء دورهم فى بلاط المك أم دبالو بيد أن شيوخ الدين الاسلامي (الفقراء) سادوا مجلس الملك. كما سادت حوش المك ثقافة ونفوذ سكان السهول حين تولت حليمة بت فضل الله منصب أم المك ذات النفوذ الواسع وفقد سكان المرتفعات الجبلية جراء ذلك ممثلهم في مركز المملكة الذى كان حكراً لهم عندما كان كل أسلاف أم دبالو ينحدرون من أمهات ترجع أصولهن للمرتفعات الجبلية.
كان كل ملوك تقلي يدينون بالاسلام ولكنهم تركوا للوسطاء الروحيين من أهل الجبال حرية أداء دورهم في المملكة وفى حوش المك، لكن ظلت أم المك تحافظ على ثقافة أهل الجبال وممثلةً لمصالح أهل المرتفعات الجبلية وسط الحياة السياسية فى المملكة. لهذا فإن ارتقاء حليمة بت فضل الله لتصبح أم المك وهى تتحدث العربية فقط ولا تحمل ثقافة سكان المرتفعات الجبلية قد أحدث تغييراً جوهرياً في التوازن الثقافي والسياسي فى مركز المملكة تأثر به سلباً نفوذ سكان المرتفعات.
بدأ وجود ونفوذ شيوخ الدين الاسلامي (الفقراء) فى مملكة تقلي قبل فترة حكم آدم أم دبالو لكن زادات أعدادهم وزاد نفوذهم خلال فترة حكمه وصارت تقلي ملاذاً للكثير منهم خاصة الذين هربوا من عسف الحكم التركي والذين هاجروا أو لجأوا لها من وسط السودان ودارفور وغرب إفريقيا. كان أشهرهم دفع الله ود مضوي العركي الذي استجار بتقلي خوفاً من محاولات الحكومة التركية استقطابه لنظامها القضائي وأبرم معاهدة أخوة مع المك عمر ود أبكر والد أم دبالو ثم لعب دوراً محورياً فى دعم أم دبالو ليصبح مكاً على تقلي وأصبح مستشاره لاحقاً. بحلول عام 1881 اكتسب الفقراء مكانة كبيرة فى تقلي وزارها محمد أحمد المهدي قبل أن يعلن مهديته وأكرم أم دبالو ضيفه وأمر أتباعه الكواهلة بمنحه أبقاراً وذرة و حبوب أخرى إكراماً له. عاد المهدي إلى تقلي لاحقاً في هجرته من الجزيرة أبا ملتمساً التأييد والمؤازرة، ولما لم يوفد له المك من يستقبله اتجه جنوباً لجبل قدير.
شهدت فترة حكم أم دبالو تغييراً جوهرياً فى مؤسستين سياسيتين فى المملكه هما حوش المك وخشوم البيت جراء تأثير الفقراء ومجموعات الرعاة الناطقين بالعربية. تمثلت بعض تلك التغيرات في تعزيز أم دبالو قبضته على حيشان المك بتطبيق نظام الزواج والحياة المنزلية التى أدخلها الفقراء على أهل الجبال واستخدم المٌثٌل الاسلامية التى سادت حينئذ في شمال السودان النيلي للحد من استقلالية نساء حوش المك واضعاف ارتباطهن بمجتمعات المرتفعات الجبلية.
حافظ أم دبالو والمكوك قبله على استقلال مملكتهم من الحكم التركي بالموازنة بين المقاومة والمولاة دون الخضوع مع الايفاء للأتراك ببعض الموارد (مادية وبشرية) التى كانت محل اهتمام الحكومة التركية وكبار موظفيها، لكن أم دبالو واجه وضعاً جديداً مع المهدية التى ما كانت أيدولوجيتها ترضى بوجود مملكة اسلامية مستقلة عنها في السودان ، ولم تُجْد معها التكتيكات التى استخدمها أم دبالو مع التركية. استخدمت المهدية كل آلتها الدينية والعسكرية ضد أم دبالو طالبةً منه الخضوع التام والهجرة للمهدي، وأفلحت باكراً في استقطاب ابنه عمر لصفوفها وتعيينه أميراً على المنطقة غرب تقلي ومده لاحقاً بالقوة المادية للسيطرة على الجبال. بعد الانتصار الباهر فى شيكان حزم المهدي أمره وجمع جيوشه وحدد الخرطوم هدفاً له، فما كان ليدع بؤرة تمرد عن سلطته من وراء ظهره في تقلي لتصبح ملاذاً لأعدائه، لهذا كان أم دبالو هدفه المباشر بعد شيكان. خاطب المهدي المك أم دبالو بعد شهر من معركة شيكان محذراً من مغبة معارضتة للمهدية وأن في ذلك عصيان لله ورسوله، ثم حرك المهدي أول حملات الأنصار ضد مملكة تقلي. قاوم أم دبالو وناور ثم لم يجد مخرجاً بعد انتصارات المهدي واحساسه بالخطر غير إبداء التجاوب مع المهدي والذهاب لمبايعته في الأبيض في نهاية فبراير 1884. مكث أم دبالو مع المهدي بعض الوقت فى الأبيض لكنه قفل راجعاً لمملكته دون علم المهدي فغضب وتوجس منه وعد تلك الحادثة مخالفة كبيرة تتطلب إجراءات شديدة الصرامة خاصة وأن المهدي قد كتب لغردون في الاسبوع الأول من مارس 1884 أن المك أم دبالو قد التحق به في الأبيض. بدأ أم دبالو تسليح أهل تقلي ومقاومة المهدية والإحتماء بأعالى الجبال لكن قوات الأنصار كانت أكبر من قدرات أم دبالو على المقاومة فلم تعد هناك مقاومة في تقلي بحلول منتصف يوليو 1884. قرر أم دبالو النزول من أعالى الجبال والتوجه للرهد للالتحاق بالمهدي فى معية أسرته وكبار رجال مملكته، فانتهى به الأمر مصفداً في الأغلال وهو يشهد موت إثنين من أبنائه فمات من الحزن والأسى والإذلال فغربت بموته شمس مملكة تقلي الاسلامية في جبال النوبة على يد المهدية بعد أن استعصت على الأتراك.
د. يوسف محمد أحمد إدريس
yousifidris@yahoo.com
يتناول هذا المقال بعض ما كتبت جانت إيوالد الباحثة والمؤرخة الاسترالية عن المك آدم أم دبالو في كتابها عن مملكة تقلي ضمن بحثها الذى حصلت به على الدكتوراه فى جامعة وسكنسون بالولايات المتحدة الأمريكية ونشر في 1990 بعنوان :
Soldiers, Traders and Slaves: State Formation and Economic Transformation in the Greater Nile Valley, 1700-1885.
الجنود والتجار والرقيق: بناء الدولة والتحول الاقتصادي في وادى النيل الكبير 1700- 1885.
كنت مهتماً بقراءة هذا الكتاب الذى يعد مرجعاً مهماً عن مملكة تقلي، فبحثت عنه فى مظان كثيرة إلى أن عثر ابني ناظم مؤخراً (بمساعدة أحد أصدقائه) على نسخة منه في متجر أمازون بكندا وأهدانى إياها فى منتصف ديسمبر 2022.
مملكة تقلي هى المملكة السودانية التى نشأت في منطقة جبال النوبة وتولى قيادتها خمسة عشر من ملوك (مكوك) جبال النوبة في الفترة منذ تأسيسها فى بداية القرن الثامن عشر حتى سقوطها. عاصرت مملكة تقلي السلطنة الزرقاء وسلطنة دارفور واستعصت على المستعمرين وظلت مستقلة تكسرت على مشارف حدودها رماح الحكومة التركية وباءت حملاتها المتكررة على تقلي بالهزائم حين بسطت التركية نفوذها على كل السودان الحالي. لم تجد هذه المملكة ما تستحقه من الدراسة والتوثيق من المؤرخين الوطنيين ولم تذكر فى مناهج التعليم إلا لماماً. يعد بحث جانيت إيوالد وكتابها المذكور أكثر الكتابات (التى اطلعت عليها) عمقاً وشموليةً وتوثيقاً لمملكة تقلي ويستحق الترجمة للعربية ليُعرِّف القارئ السوداني بالكثير مما غاب عنه من تاريخ هذه المملكة.
أم دبالو هو آدم ود عمر ود أبكر ود إسماعيل ود محمد ود جيلي. وهو سليل الأسرة المالكة في تقلي فآباؤه من عمر حتى جيلي مكوك تعاقبوا على عرش تقلي على مدار قرنين. أمه هى حليمة بت الأرباب فضل الله من قبيلة الكواهلة رعاة السهول الطينية في تلك المنطقة، وهو أول مكوك تقلي من أم عربية لهذا لُقِّبْ بآدم العربي تمييزاً له عن أخيه غير الشقيق آدم التوتماوي. أولاده هم عمر النوباوي(نسبة لأمه من النوبة بجبل الداير) وعلي ومصطفي ( سمى نفسه جيلي واشتهر به) وأبو فلجة وولدان آخران.
كان آدم ود عمر ملكاً محارباً، اشتهر بحبه للأسلحة وله قدرات عالية وكفاءة كبيرة فى استخدامها وهو ذو مهابة، لهذا لقب بأم دبالو، أى سيد الصولجان، وهو اللقب الذى اشتهر به.
تولى آدم أم دبالو عرش مملكة تقلي بعد فترة من الصراعات الداخلية العنيفة وسط الأسرة الحاكمة اتسمت بالدموية وإزاحة الملوك بالقوة، والاستعانة في بعض الأحيان بالحكومة التركية في الدعم العسكري بالتعهد لها بمغانم مادية ( آلاف الرقيق وغيره) أكثر مما يقدمه لها المك القائم على العرش، أو استمالة بعض جنودها للفرار بأسلحتهم النارية من جيش الحكومة التركية والانضمام لجيش طرف من أطراف الأسرة الحاكمة بالاغراءات المادية التى تفوق ما توفره لهم الحكومة التركية. كان من أسباب ظاهرة النزاع العنيف على المُلكْ عدم وجود قواعد مرجعية دقيقة متفق عليها من الأسرة الحاكمة أو اتباعها للخلافة في الملك ولانتقال الحكم للمك الجديد بسلاسة مما جعل أبناء الملوك السابقين يدّعون الحق في الملك ويجيشون الجيوش ويستعينوا أحياناً بالحكام الأتراك للاستيلاء على المُلك.
كانت أطول فترة مك في تقلي قبل أم دبالو هى فترة المك عمر أبوزنتار 1750-1783 ثم أبكر ود اسماعيل، جد أم دبالو، التى استمرت عشرين عاما من 1800 حتى 1820 م وعمه ناصر ود أبكر 1843-1860 ثم والده المك عمر ود أبكر الذى استمر حكمه خمسة عشر عاما من 1820 حتى 1835م . قاد آدم تمرداً شعبياً وبدعم من الحكومة التركية أطاح بعمه ناصر ( فر ولم يٌقتل ثم لجأ لمصر عام 1864 بمساعدة الأتراك) الذى تولى الملك بعد عمه مريود ود اسماعيل الذي حكم ثلاث سنوات فقط بعد أن تمرد على ابن أخيه أحمد ود أبكر الذى حكم خمس سنوات. استمر حكم أم دبالو أربعة وعشرين عاماً (1860 -1884) وهى ثاني أطول فترة حكم مك من مكوك تقلي منذ تأسيسها حتى انهيارها.
اعتمد مكوك تقلي على مجتمعات أمهاتهم من سكان جبال النوبة كحواضن اجتماعية وسياسية وثقافية وعسكرية، وكانت القبائل الرعوية ذات الأصول العربية في السهول الطينية لتقلي (كنانة والكواهلة وأولاد حميد) أحد مكونات مجتمع مملكة تقلي التى شغلت معظم الملوك بكيفية إدارتها والتعامل مع طبيعة نمط حياتها الذى يختلف عن مجتمع سكان جبال النوبة الزراعي المستقر ولهذا تأرجحت علاقاتها بالملوك بين التحالفات والخلافات والنزاعات. لما كانت أم المك آدم أم دبالو من قبيلة عربية ومجتمع الأم هو حاضنة المك الأساسية في تقلي فقد توفرت له خلافاً لغيره من الملوك حاضنة من مجتمع الجبال وحاضنة من مجتمع السهل الطيني مما مكنه من إدارة هذين المجتمعين بسلاسة ودعم من الطرفين قوى شوكته وعززه مكامن قوته الأخرى وأعانه على التصدى لتحديات الصراعات الداخلية والمهددات الخارجية فتوقفت النزاعات بين مملكة تقلي والمجتمعات الرعوية التى كانت من سمات فترة حكم المك ناصر الذى سبق المك ام دبالو. تصدى أم دبالو لتمرد مؤمن ابن عمه ناصر فهزمه وقتله (سمى المكان الذى قتل وقبر فيه جبل مُومِن) ثم تصدى لتمرد فحل وخريف أبناء عمه ناصر فى سبعينيات القرن التاسع عشر وانتصر عليهما فى معركة أم بيوت فاستتب له الملك دون منازعات حتى المهدية.
اتسم أم دبالو بحسن التعامل مع سكان مملكته خلافاً لما عهدوه من سلفه المك ناصر الذى كان قاسياً جلب لنفسه كراهية الكثير من أهل المملكة خاصة سكان السهل من القبائل الرعوية وبالأخص كنانة، الذين شن عليهم المك ناصر عدة حملات عنيفة. كان أم دبالو محبوباً ومقدراً من رعاياه. لهذا فقد نعم بفترة حكم خلت من أى تحديات داخلية أو خارجية خطيرة إلا بعد أن قويت شوكة المهدي فى كردفان بعد تحرير الأبيض والنصر المؤزر في معركة شيكان.
عرف الملك أم دبالو بين أهل مملكة تقلي بصفات الملك الطيب الخيِّر مقارنة بسلفه المك ناصر، وقد تجلى ذلك في معاملة رعاياه بعدالة والدفاع عنهم وبسط السلام في المملكة ومجتمعاتها وقد عاش أهل الجبال فى أمن من غارات الأعداء في السهول واضطهاد الحكام ومارس المزارعون أنشطتهم من زراعة وحصاد في السهول بسلام، مقيمين تحت سفوح الجبال فى طمأنينة طوال موسم الأمطار خلال فترة مُلكِه. عرف عن المك أم دبالو الترفع عن ترويع أهل الجبال الأخرى بالهجمات من أجل الغنائم والرقيق، التى كانت برنامجاً عند بعض أسلافه، وعرف ببذله المكفآت لحلفائه بسخاء والتزامه المشهود بالامتيازات التى منحها لشيوخ الدين الاسلامي (الفقراء) وغيرهم من أعيان المملكة تقديراً لمكانتهم في مجتمع مملكة تقلي.
أحدث أم دبالو تغييرات جوهرية في تركيبة السلطة بمملكة تقلي وذلك بتعظيم دور أهل السهول ذوى الأصول العربية (أهل أمه) على حساب أهل المرتفعات الجبلية خلافاً لأسلافه من ملوك تقلي، كما عزز نفوذ وامتيازات شيوخ الدين الأسلامي (الفقراء). واجه أم دبالو جراء ذلك مراكز القوى فى تقلي من أهل مجتمع الجبال ( مكوك العادة وشيوخ الطين والكجور) الذين شرعوا فى حجب وتقييد منافذ المك للموارد المادية فى الجبال، بما فى ذلك الجنود والسند الأيديولوجي، في سياق دفاعهم عن امتيازاتهم. تصدى أم دبالو لاجراءات مراكز القوى لحجب وإغلاق الكثير من منافذ الموارد المادية والسند الروحي، بالتوسع فى نظام الحيشان الملكية والاعتماد على الاسلام فى شرعية ملكه. صرف أم دبالو وجهه عن معظم مصادر القوة في المرتفعات الجبلية لكن ظل سكانها مصدر الجنود المشاة فى جيشه إلا أن السيطرة على سلاح الفرسان والتسلسل الهرمي والقيم الحربية اصبحت من نصيب رعاة السهول ذوى الأصول العربية.
استمر الوسطاء الروحيون في أداء دورهم فى بلاط المك أم دبالو بيد أن شيوخ الدين الاسلامي (الفقراء) سادوا مجلس الملك. كما سادت حوش المك ثقافة ونفوذ سكان السهول حين تولت حليمة بت فضل الله منصب أم المك ذات النفوذ الواسع وفقد سكان المرتفعات الجبلية جراء ذلك ممثلهم في مركز المملكة الذى كان حكراً لهم عندما كان كل أسلاف أم دبالو ينحدرون من أمهات ترجع أصولهن للمرتفعات الجبلية.
كان كل ملوك تقلي يدينون بالاسلام ولكنهم تركوا للوسطاء الروحيين من أهل الجبال حرية أداء دورهم في المملكة وفى حوش المك، لكن ظلت أم المك تحافظ على ثقافة أهل الجبال وممثلةً لمصالح أهل المرتفعات الجبلية وسط الحياة السياسية فى المملكة. لهذا فإن ارتقاء حليمة بت فضل الله لتصبح أم المك وهى تتحدث العربية فقط ولا تحمل ثقافة سكان المرتفعات الجبلية قد أحدث تغييراً جوهرياً في التوازن الثقافي والسياسي فى مركز المملكة تأثر به سلباً نفوذ سكان المرتفعات.
بدأ وجود ونفوذ شيوخ الدين الاسلامي (الفقراء) فى مملكة تقلي قبل فترة حكم آدم أم دبالو لكن زادات أعدادهم وزاد نفوذهم خلال فترة حكمه وصارت تقلي ملاذاً للكثير منهم خاصة الذين هربوا من عسف الحكم التركي والذين هاجروا أو لجأوا لها من وسط السودان ودارفور وغرب إفريقيا. كان أشهرهم دفع الله ود مضوي العركي الذي استجار بتقلي خوفاً من محاولات الحكومة التركية استقطابه لنظامها القضائي وأبرم معاهدة أخوة مع المك عمر ود أبكر والد أم دبالو ثم لعب دوراً محورياً فى دعم أم دبالو ليصبح مكاً على تقلي وأصبح مستشاره لاحقاً. بحلول عام 1881 اكتسب الفقراء مكانة كبيرة فى تقلي وزارها محمد أحمد المهدي قبل أن يعلن مهديته وأكرم أم دبالو ضيفه وأمر أتباعه الكواهلة بمنحه أبقاراً وذرة و حبوب أخرى إكراماً له. عاد المهدي إلى تقلي لاحقاً في هجرته من الجزيرة أبا ملتمساً التأييد والمؤازرة، ولما لم يوفد له المك من يستقبله اتجه جنوباً لجبل قدير.
شهدت فترة حكم أم دبالو تغييراً جوهرياً فى مؤسستين سياسيتين فى المملكه هما حوش المك وخشوم البيت جراء تأثير الفقراء ومجموعات الرعاة الناطقين بالعربية. تمثلت بعض تلك التغيرات في تعزيز أم دبالو قبضته على حيشان المك بتطبيق نظام الزواج والحياة المنزلية التى أدخلها الفقراء على أهل الجبال واستخدم المٌثٌل الاسلامية التى سادت حينئذ في شمال السودان النيلي للحد من استقلالية نساء حوش المك واضعاف ارتباطهن بمجتمعات المرتفعات الجبلية.
حافظ أم دبالو والمكوك قبله على استقلال مملكتهم من الحكم التركي بالموازنة بين المقاومة والمولاة دون الخضوع مع الايفاء للأتراك ببعض الموارد (مادية وبشرية) التى كانت محل اهتمام الحكومة التركية وكبار موظفيها، لكن أم دبالو واجه وضعاً جديداً مع المهدية التى ما كانت أيدولوجيتها ترضى بوجود مملكة اسلامية مستقلة عنها في السودان ، ولم تُجْد معها التكتيكات التى استخدمها أم دبالو مع التركية. استخدمت المهدية كل آلتها الدينية والعسكرية ضد أم دبالو طالبةً منه الخضوع التام والهجرة للمهدي، وأفلحت باكراً في استقطاب ابنه عمر لصفوفها وتعيينه أميراً على المنطقة غرب تقلي ومده لاحقاً بالقوة المادية للسيطرة على الجبال. بعد الانتصار الباهر فى شيكان حزم المهدي أمره وجمع جيوشه وحدد الخرطوم هدفاً له، فما كان ليدع بؤرة تمرد عن سلطته من وراء ظهره في تقلي لتصبح ملاذاً لأعدائه، لهذا كان أم دبالو هدفه المباشر بعد شيكان. خاطب المهدي المك أم دبالو بعد شهر من معركة شيكان محذراً من مغبة معارضتة للمهدية وأن في ذلك عصيان لله ورسوله، ثم حرك المهدي أول حملات الأنصار ضد مملكة تقلي. قاوم أم دبالو وناور ثم لم يجد مخرجاً بعد انتصارات المهدي واحساسه بالخطر غير إبداء التجاوب مع المهدي والذهاب لمبايعته في الأبيض في نهاية فبراير 1884. مكث أم دبالو مع المهدي بعض الوقت فى الأبيض لكنه قفل راجعاً لمملكته دون علم المهدي فغضب وتوجس منه وعد تلك الحادثة مخالفة كبيرة تتطلب إجراءات شديدة الصرامة خاصة وأن المهدي قد كتب لغردون في الاسبوع الأول من مارس 1884 أن المك أم دبالو قد التحق به في الأبيض. بدأ أم دبالو تسليح أهل تقلي ومقاومة المهدية والإحتماء بأعالى الجبال لكن قوات الأنصار كانت أكبر من قدرات أم دبالو على المقاومة فلم تعد هناك مقاومة في تقلي بحلول منتصف يوليو 1884. قرر أم دبالو النزول من أعالى الجبال والتوجه للرهد للالتحاق بالمهدي فى معية أسرته وكبار رجال مملكته، فانتهى به الأمر مصفداً في الأغلال وهو يشهد موت إثنين من أبنائه فمات من الحزن والأسى والإذلال فغربت بموته شمس مملكة تقلي الاسلامية في جبال النوبة على يد المهدية بعد أن استعصت على الأتراك.