النفط عامل سلام لا داعي حرب: جدلية التباعد والتقارب بين دولتي السودان

 


 

 


tigani60@hotmail.com

ورقة قدمها الكاتب في ندوة "دولتي السودان فرص ومخاطر ما بعد الانفصال" التي أقامها مركز الجزيرة للدراسات التابع لشبكة الجزيرة بالدوحة منتصف يناير الماضي

شهد الصراع في السودان بين الشمال والجنوب مع نهاية القرن العشرين, وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على إنطلاق النزاع حول طبيعة ومستقبل العلاقة السياسية بين الطرفين في الدولة المستقلة الوحدة , تحولاً استراتيجياً في مسار الصراع بدخول عامل النفط الذي بدأ إنتاجه في النصف الثاني من التسعينات وبدأ تصديره في أغسطس 1999, ليشكل هذا العامل المستجد الذي لم يكن حاضراً ولا محسوباً في معادلات الحرب والسلام قبل ذلك التطور الأكثر أهمية وتأثيراً في رسم سيناريوهات مصير السودان في عصر ما بعد النفط, وفي تحديد وجهة جهود البحث عن سبل لإنهاء الحرب والبدء في عملية سلام, وسط جدل كبير إن كانت الصناعة النفطية الوليدة أسهمت في تأجيج القتال أم ساعدت في تعزيز فرص التسوية السلمية.
لم يكن النفط في السودان, من ناحية حجمه الإنتاجي أو احتياطياته المؤكدة, كبيراً بمعايير أسواق النفط العالمية, إذ لم يتجاوز إنتاجه اليومي في أعلى معدلاته سقف النصف مليون برميل, ولكن من المؤكد أن نشوء صناعة نفطية وإن كان عاملاً محدود التأثير في معادلات الطاقة دولياً, إلا أن ريعها كان كافياً ليوفر عائدات مقدرة سريعة وسهلة للحكومة السودانية أسهمت في إحداث تحولات سياسية واقتصادية لم تكن منظورة في بلد ظل يعاني ليس فقط بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية الخانقة المفروضة عليه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين والإقليميين منذ وصول نظام الحكم الإنقاذي إلى السلطة بإنقلاب عسكري في العام 1989م, ولكن يكابد أيضاً بسبب تواضع الأداء الاقتصادي في بلد غني بالموارد الطبيعية الكامنة حرمه عدم الاستقرار السياسي, والتكلفة الباهظة للحروب الأهلية من الاستفادة منها.
لم يكن الحكم في الخرطوم حينها مدركاً للأبعاد الحقيقية من ناحية استراتيجية للدخول في عصر الصناعة النفطية, فالحكومة التي أرهقتها الأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب الحصار المتطاول, والتكاليف العالية للإنفاق الأمني والعسكري من أجل الحفاظ على قبضتها القوية لمواصلة فرض سيطرتها الأحادية على السلطة, لم تنظر إلى الموارد النفطية المتحققة إلا بوصفها عائدات مالية تغنيها بعد فقر, وتقيل عثرة حاجتها الماسة للمال في وقت عز فيه النصير تفضلاً بهبات أو منح أو حتى قروضاً بأجل, وزاد الحال ضغثاً على إبالة وقتها أن حصار الأبعدين من الدول الغربية, رافقه إمساك الأقربين من دول الخليج الغنية التي ساءها موقف الحكم الإنقاذي المنحاز إلى العراق في أزمة غزو الكويت.
الطرق إلى التدويل:
كان التأثير الأكثر الأهمية لدخول السودان إلى عالم الصناعة النفطية أبعد بكثير من مجرد كونه مورداً اقتصادياً يوفر مداخيل لحكومة تفتقر إلى المال, بل أصبح مدخلاً لتدويل الحالة السياسية السودانية فقد جلب إلى ساحتها أهم لاعبين في موازين القوى الدولية, الصين التي لعبت الدور الرئيسي في استخراج النفط وكانت الشريك الأكبر في الاستثمار فيه وأرتبطت مصالحها به وقد اصبح يشكل نحو سبعة بالمائة من وارداتها النفطية.
والولايات المتحدة التي سارعت إلى قراءة تأثير النفط على إحداث تحول استراتيجي في موازين القوة في الصراع الداخلي في السودان, وكانت شركة شيفرون الأمريكية هي من اكتشفت النفط في سبعينيات االقرن الماضي, غير أنها تنازلت عن امتيازاتها فيه في مطلع التسعينيات لمقربين من الحكومة السودانية لأسباب غير واضحة تماماً بمبلغ زهيد على الرغم من إعلانها أنها أنفقت أكثر من مليار دولار عليه, غير ان الأرجح أنها تعرضت لضغوط للانسحاب من السودان في إطار إجراءات تشديد إدارة كلينتون الحصار على الخرطوم, وعوضتها نحو نصف خسائرها بإعفاءات ضريبية.
لم يكن الصراع في السودان والحرب الأهلية التي أشعلها, حتى دخول العامل النفطي شاناً مثيراً لاهتمام القوى الدولية الفاعلة فقد ظلت حرباً منسيةً على مدار النصف الثاني من القرن العشرين على الرغم من أنه كان النزاع الأطول عمراً في القارة الإفريقية والأكثر فداحة في تكلفته الإنسانية, فقد ظل قضية محلية وإقليمية بامتياز أثارت تدخل دول الجوار الإفريقي بحكم تأثرها المباشر بإفرازات الحرب, وتباينت أدوارها بين تغذية أسباب الحرب وتوفير موئل للاجئين وقواعد خلفية للحركات المسلحة, وبين السعي الحثيث للتوسط من أجل السلام وهو ما أثمرت عنه اتفاقية أديس أبابا للسلام في العام 1972 برعاية إثيوبية, ومبادرة منظمة دول شرق إفريقيا للتنمية (إيقاد) التي بدأت في العام 1994, وأسفرت في العام 2005 عن اتفاقية السلام الشامل بعد تدخل أمريكي أكسبها وزناً حاسماً.
لم تغب التدخلات الدولية تماماً عن التأثير على مجريات الصراع خلال حقبة ما قبل النفط, ولكنها كانت محدودة بدرجة كبيرة لم تغير موازين القوى بين الطرفين المتصارعين, فالصراع المتطاول على دمويته لم يكن كافياً لأن يحرك القوى الدولية الفاعلة لتجعله في بؤرة اهتمامها وأحد محاور حساباتها, فتجاهلته تاركةً الأمر برمته للاعبين الإقليميين.       
كان مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن اول من بادر إلى تنبيه صناع القرار الأمريكي إلى إرهاصات التحولات الاستراتيجية في السودان الناجمة عن دخول النفط كعامل مستجد سيؤثر على مستقبل الصراع فيه, ففي يوليو في العام 2000, أي بعد أقل من عام من نجاح الحكومة السودان في بدء تصديره, شكل المركز مجموعة عمل لدراسة فاعلية السياسة الأمريكية تجاه السودان بغرض مراجعة جدوى جهود الإدارات السابقة مع نهاية عهدة كلينتون الرئاسية الثانية, وتقديم مقترحات عملية للإدارة الجديدة, وترأسها مشاركة السياسي والأكاديمي الجنوب- سوداني فرانسيس دينق, وجي ستيفن موريسون مدير برنامج إفريقيا بالمركز, وشارك في عضويتها أكثر من خمسين شخصاً يمثلون الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس, وجماعات حقوق الإنسان, وخبراء في الحقوق الدينية, واكاديميون متخصصون في الشؤون السودانية, وصناع سياسة سابقون, ومنظمات غير حكومية تعمل في المجالات الإنسانية, وممثلون لإدارة كلينتون, وللأمم المتحدة.
رفعت المجموعة تقريرها المعنون "سياسة الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في السودان" إلى إدارة الرئيس جورج بوش الإبن في فبراير 2001, أي بعد أقل من شهر من وصوله إلى البيت الأبيض, والذي يقترح على الإدارة الجديدة خريطة طريق أمريكية لتعاطي مختلف مع الوضع في السودان بعدما خلص تقييم التقرير إلى أن المشكلة الجوهرية التي اتفقت بشأنها مجموعة العمل تتعلق باستمرار الحرب المستعرة دون أفق للتسوية في وقت بدات يطرأ تحول في ميزان القوى العسكرية لصالح الخرطوم بسبب تزايد الإنتاج النفطي. واعتبر التقرير أن الفرصة أضحت مواتية والوقت المناسب قد حان لأن تنخرط الولايات المتحدة بفعالية ودفعة قوية متعددة الأطراف بالتعاون مع القوى الأوروبية الراغبة لإنهاء الحرب الداخلية في السودان.
وأقر التقرير بأن السودان يظل يشكل أهمية للمصالح الأمريكية على صعد الأمن, حقوق الإنسان, والأوضاع الإنسانية, وأن واشنطن لا تحتمل تجاهل تأثير الإفرازات الناتجة عن استمرار الحرب.
وأشار إلى أن سياسة الاحتواء والعزل التي انتهجتها الإدارات المتعاقبة في واشنطن تجاه الخرطوم خلال عقد التسعينيات لم تحقق نتائج ذات بال لتحقيق مصالح واشنطن إذ لم تفلح لا في إنهاء الحرب ولا إصلاح النظام ولا تحسين الأوضاع الإنسانية أو التقليل من انتهاكات جقوق الإنسان , وأن أمام إدارة بوش الإبن فرصة لرؤية جديدة تتجاوز تلك السياسة التي أثبتت عدم نجاعتها.
تأثير النفط:
كان تقييم تأثير عامل النفط أهم خلاصة توصلت إليها مجموعة العمل, فقد اعتبرت أنه أحدث تغييراً أساسياً في معادلات الحرب في السودان, حيث حول ميزان القوى العسكرية لصالح الخرطوم مما حضاها على تعزيز جهدها الحربي, كما أنه أصبح عنصراً  في خلق شراكات خارجية تكاملية مع الدول وشركات إنتاج النفط, في إشارة إلى صعود الدور الصيني والعلاقات الآخذة في التقارب الوثيق بين بكين والخرطوم التي كانت سياسة واشنطن تقوم على عزلها ومحاصرتها من أي دعم خارجي. وأوصى التقرير بأن أي استراتيجية لإدارة بوش الإبن الجديدة لمقاربة الوضع في السودان يجب أن تأخذ في الاعتبار كاملاً هذه الحقائق.
وذكر التقرير أنه بداية بالعام 1998, بدأ النفط المتدفق بمعدل مائتي ألف برميل في اليوم يحقق عائدات مجزية للخرطوم تقدر بنحو نصف مليار دولار في العام 2000م, وتوقع أن يتضاعف الإنتاج في غضون عامين, وأن الاحتياطيات المؤكدة تفوق واحد تريليون برميل, وقد تزيد إلى ثلاثة أمثالها إبان فترة إدارة بوش الأولى, اتضح لاحقاً أنها بلغت ستة أضعاف, ووفقاً لهذا السيناريو أشار التقرير إلى أن السودان سيكون من بين الدول المصدرة للنفط المتوسطة الإنتاج.
وأشار التقرير إلى أن عامل النفط المستحدث أدى إلى توسيع فجوة التوازن الاستراتيجي بين الحكومة والمعارضة, وأن احتمال قدرة المتمردين الجنوبيين وحلفائهم في المعارضة الشمالية على تحقيق نصر عسكري على الخرطوم بات ضئيلاً أكثر من أي وقت مضى. لافتاً إلى الإنفاق العسكري للحكومة السودانية تضاعف خلال الفترة السنتين منذ بدء إنتاج النفط. وأشار إلى أنه على الرغم من أن الدافع المعنوي للمتمردين الجنوبيين وقدرتهم على الاستمرار في شن حرب عصابات وإن بدرجة أقل ستحرم الخرطوم من تحقيق نصر نهائي وحاسم, ولكن بمرور الوقت فإن تهديد الجنوبيين لمصالح الحكومة سيتضاءل بوتيرة متزايدة, ولذلك فإن الجنوب إذا فاوض فوراً وبدعم خارجي كافي فإنه سيكون في موقف أقوى يضمن له تحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية, في حين أنه سيكون في موقف أضعف إذا أجل الانخراط في التفاوض لسنوات مقبلة ستتغير فيها موازين القوى بدرجة لن تجعله في وضع يحقق المكاسب التي يسعى إليها.
ونبه التقرير إلى أنه لتغيير موازين القوى, سواء بتغيير النظام في الخرطوم أو بتعزيز القوة العسكرية للجنوب بدرجة كبيرة, فإن ذلك يقتضي الولايات المتحدة استثماراً عسكرياً ومادياً كبيراً, وهو خيار ذكرت المجموعة بأنها لا تنصح به, كما اعتبرته غير ذي جدوى سياسية في واشنطن, وأوصى التقرير بان السبيل الوحيد الواقعي والقابل للتطبيق أمام الإدارة الأمريكية لإنهاء الحرب وإحداث تقدم في معالجة ذيولها الآخرى, لن يتحقق بغير استراتيجية تدخل فعال يرتكز على الدبلوماسية, التواصل الوثيق مع الأطراف كافة, واتباع سياسة الجزرة والعصا في سلة من الحوافز والإجراءات التأديبية, وإدارة وتنسيق مبادرات الأطراف المختلفة.
لم تكن التوصيات المحددة والمفصلة التي اقترحتها مجموعة عمل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لإدارة بوش الإبن لإنهاء الحرب في السودان سوى خريطة الطريق التي طبقتها بحذافيرها, بدءاً من تعيين الرئيس جورج بوش الإبن في السادس من سبتمبر 2001 لعضو مجلس الشيوخ السابق جون دانفورث مبعوثاً خاصا له في السودان, أي بعد أشهر قليلة من تسلمه التقرير التي كانت تعيين مبعوث خاص رفيع المستوى أحد توصياته, لينخرط دانفورث في وضع أسس المفاوضات وتعبيد الطريق أمامها لتنطلق في يونيو 2002, لتصل بعد ثلاثين شهراً إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل التي بنيت بشكل اساسي على وصفة المركز التي أوصت باعتماد نظامين في دولة واحدة, إسلامي في الشمال وعلماني في الجنوب, لفترة انتقالية تقتسم خلالها السلطة والثروة, لا سيما العائدات النفطية, بين الطرفين حتى موعد الاستفتاء على تقرير المصير.
اتفاق على السلام:
لم تجد إدارة بوش الإبن التي تبنت سياسة فرض السلام في سباق مع الزمن لمنع حدوث تحول استراتيجي في موازين القوى بسبب دخول عامل النفط, سواء لرعاية المصالح الأمريكية أو بسبب ضغط اللوبيات المدافعة عن الجنوبيين, معارضة لمساعيها سواء من قبل السودان, أو الصين, أو دول الجوار الإقليمي, ولكنها للمفارقة لم تجد حماسة من قبل زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق الذي كان يعول على تغيير جذري للسلطة لتحقيق مشروع "السودان الجديد" وليس اقتسام السلطة, أو الاكتفاء بحل يعبد الطريق لانفصال الجنوب. ووجدت واشنطن أن عليها فرض ضغوط على الحركة الشعبية للجلوس للتفاوض بأكثر مما احتاجته مع الخرطوم.
وتجاوبت حكومة البشير مع الدور الأمريكي في عملية السلام لأن من شأن ذلك في حالة نجاحه, وإن جاء على حساب سيطرتها الكاملة على السلطة وانفرادها بالثروة, سيحقق لها عدة مكاسب فمن جهة سينهي الحرب التي أرهقتها, كما سيضمن لها فترة إضافية في الحكم والأهم من ذلك أن السلام سيوفر لها اعترافاً وشرعية دولية طالما سعت للحصول عليها منذ وصولها إلى السلطة بانقلاب عسكري, وقبل ذلك أغرتها الوعود الأمريكية بإنهاء حالة العداء ورفع العقوبات والحظر الاقتصادي المفروض من طرف واشنطن, ورفع اسمها من لائحة الدول الراعية للإرهاب وصولاً إلى التطبيع الكامل.
أما الصين اللاعب الجديد حينها في الساحة السودانية فلم تجد في مساعي واشنطن لفرض تسوية للحرب ما يثير قلقها خاصة أن الإدارة الأمريكية تجنبت مضايقة شركاتها العاملة في الصناعة النفطية في أسواق الاسهم على غرار ما فعلت مع شركات دول آخرى , كما نجاح عملية السلام يحقق الاستقرار وهو ما من شأنه أن يضمن لبكين الاستفادة من استثماراتها باستمرار تدفق إنتاج وتصدير النفط دون عوائق وقد بات يشكل ما تستورده من السودان جزءً من معادلات احتياجاتها النفطية ومصالحها الوطنية. 
ومن جهة دول الإقليم في منظمة إيقاد فقد رحبت بالدور الأمريكي الذي أعطي حيوية ودفعة كبيرة لمبادرتها للسلام في السودان التي ظلت تراوح مكانها دون إحراز أي تقدم حقيقي منذ إطلاقها في العام 1993م.
كان التفاوض على ملف النفط أقل الأجندة الخلافية إثارة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية, خلافاً للتعقيدات والصعوبات الجمة التي واجهت الطرفين في الاتفاق على الترتيبات العسكرية والأمنية والسياسية والمناطق الثلاث, ابيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق, والتي كادت أحياناً أن تؤدي إلى انهيار المفاوضات بالكامل, وبمساعدة خبراء من مؤسسات التمويل الدولية أمكن للطرفين الاتفاق بسهولة على صيغة لتقاسم العائدات النفطية النتجة في الجنوب مناصفة إبان الفترة الانتقالية, وهو ما رأى فيه كلاهما كسباً فالحكومة رأت أن التنازل عن نصف العائدات النفطية التي كانت تحققها من نفط الجنوبثمناً مناسباً, ضمن تنازلات آخرى, للحصول على السلام, كما رأت الحركة الشعبية على الجانب الآخر أن هذا النفط حقاً كاملاً للجنوب ولكن اعتبرت أيضاً التنازل عن نصفه ثمناً معقولاً للحصول على تقرير المصير.
غير ان الاتفاق السهل نسبياً على اقتسام النفط في اتفاقية السلام لم يكن كافياً ليمنع الصراع بينهما حول النفط, فعند مشاورات تشكيل أول حكومة للفترة الانتقالية برز خلاف محموم حول من تؤول إليه حقيبة وزارة الطاقة المعنية بإدارة الصناعة النفطية التي آلت في النهاية للمؤتمر الوطني مقابل التنازل عن حقيبة الخارجية للحركة الشعبية, غير أنه منذ ذلك الحين تواصل الجدل بينهما حول دقة تنفيذ ما ورد في الاتفاقية بشأن مسألة النفط وإزداد الأمر تعقيداً بعد تقرير لمنظمة أوروبية ذكرت فيه أن هناك عدم شفافية في الكميات المنتجة المعلنة رسمياً التي يتم على اساسها احتساب قسمة الإنتاج واستندت في ذلك على تباينها مع الأرقام الواردة في تقارير للشركة الصينية, وفي محاولة للتخفيف من النزاع حول إدارة النفط ومع اقتراب انتهاء الفترة الانتقالية تنازل المؤتمر الوطني عن وزارة الطاقة للحركة الشعبية قبل أقل من عام على موعد الاستفتاء, ولكن ذلك لم يغير كثيراً من أجواء الصراع.
وفي الواقع فإن الخلاف حول النفط كان جزءً من خلافات عديدة حول جملة من القضايا التي كان من المفترض أن بنود اتفاقية السلام قد سوتها مثل قضية أبيي والمنطقتين الأخريين والترتبات العسكرية وغيرها, وعكست تلك الخلافات استمرار حالة مريرة من الصراع بين الطرفين طغى على أغلب سنوات الفترة الانتقالية الست, وبدلاً من انخراطهما في التعاون لتنفيذ الاتفاقية على نحو يحقق هدف الحفاظ على الوحدة الطوعية للبلاد التي اعتبرها الطرفان في الاتفاق الإطاري أولوية عند الاستفتاء على تقرير المصير, ولكن الانصراف من قبل الطرفين عن خدمة هذا الهدف جعل الانفصال أمراً محتموماً قبل ذهاب الجنوبيين إلى صناديق الاقتراع بوقت طويل.
انفصال بلا ترتيبات:
كانت المعضلة الحقيقية لاتفاقية السلام الشامل أنها سكتت عن تفاصيل ترتيبات الانفصال حالة حدوثه فعلى الرغم من أنه جرى النص عليه كأحد خياري الاستفتاء, فقد اكتفت برتوكولات الاتفاقية بتفصيل ترتيبات الفترة الانتقالية في المجالات كافة, واعتبرت أن هذه الترتيبات الانتقالية ستشكل هي ذاتها الترتيبات الدائمة في حالة التصويت لصالح الوحدة في الاستفتاء, ولم يتضمن صلب الاتفاقية أي ذكر لما يجب أن يحدث عند التصويت لصالح الاتفصال وبدا وكأن هناك ثمة اتفاق غير مكتوب بين زعيمي الطرفين المفاوضين أن الاستفتاء لن يكون إلا وسيلة لتأكيد الوحدة طوعاً بفضل جاذبية ترتيبات التسوية التي توصلا إليه, ولكن الرحيل المفاجئ لزعيم الحركة الشعبية جون قرنق بعد ثلاثة أسابيع فقط من بدء الفترة الانتقالية في حادث غامض خلط كل الأوراق وكانت نتيجته المباشرة بروز التيار الانفصالي بقوة للمفارقة عند الطرفين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية معاً, ومع أن الأمور كانت تسير بوضوح صوب التقسيم إلا أن أياً منهما لم ينتبه إلى أن الاتفاقية مصممة على "الوحدة الجاذبة", وليس على الانفصال الذي بات محتوماً, ومع محاولة قادة الطرفين إخفاء نيتهم الحقيقية للانفصال باتخاذ مواقف علنية مغايرة لم يبذل أي جهد حقيقي للتفاوض مبكراً على ضمان حدوث انفصال سلمي سلس, ومع نفاد الوقت اكتفى الطرفان بتضمين القضايا التي يجب تسويتها عند الانفصال في قانون الاستفتاء الذي أجيز على عجل في خضم مناورات عنيفة بينهما, غير أنها لم تضع أي جدول زمني لذلك وتركتها مفتوحة, وهي قضايا بالغة الحيوية لفك الارتباط بين البلدين عند الانفصال من بينها النفط, أبيي, الحدود, المياه, الديون الخارجية والأصول وغيرها.
تغيير قواعد اللعبة:
أدى قيام الاستفتاء في موعده, والاعتراف بنتيجته, وحدوث الانفصال فعلياً باستقلال دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011, إلى تحول استراتيجي جديد في موازين القوى بين دولتي السودان لصالح جوبا, فحكومة الشمال فقدت أهم أوراقها للضغط على الجنوب وعلى مسانديه في الساحة الدولية بتمريرها للاستفتاء واعترافها باستقلال الجنوب دون الحصول على أي مقابل أو ضمانات تكفل لها تعويض خسائرها الناجمة عن تقسيم البلاد على الرغم من اعتراف المجتمع الدولي بأحقيتها في ذلك, والأهم من ذلك أن عودة الحرب إلى ما بات يعرف ب"الجنوب الجديد" مع امتداد الحركة الشعبية الشمالي أفقد الخرطوم أهم رهاناتها, السلام مقابل الانفصال.
من جانب آخر حققت الحركة الشعبية مكاسب كبيرة في مقدمتها الحصول على استقلال الجنوب دون أن تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات مقابل ذلك في القضايا العالقة بين الدولتين, وعادت لتستخدم هذه الأوراق للضغط على الخرطوم للحصول على المزيد من المكاسب خاصة في قضيتي أبيي, والنقاط المختلف عليها في الحدود بين الدولتين.
النفط الورقة الرابحة:
برز الخلاف حول النفط وكأنه القضية الرئيسية العالقة بين الطرفين, وفي الواقع فإن ذلك لا يعكس حقيقة الوضع, ولكن يكشف عن اختلاف في المنهج والاسلوب التفاوضي بين الطرفين, فالمسألة لا تتعلق بقيمة ما يجب أن تدفعه حكومة الجنوب من رسوم نظير استخدامها للمنشآت النفطية الشمالية المنفذ الوحيد المتاح حالياً لتصدير نفطها, ولكن تتعلق بأن حكومة الجنوب تتعامل مع موضوع النفط باعتباره الورقة الرابحة في يدها للضغط على الخرطوم, التي كلفها الانفصال بأيلولة أكثر  من سبعين بالمائة من الموارد النفطية للجنوب خسائر اقتصادية فادحة, لإجبارها على تقديم تنازلات في القضايا الخلافية الأخرى لا سيما أبيي المتنازع عليها.
ومنهج جوبا التفاوضي يريد أن تعالج القضايا العالقة جملة واحدة في صفقة متكاملة, في حين تفضل الخرطوم اسلوب تجزئة التفاوض حتى لا تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات إضافية, ومن الواضح أن الحكومة السودانية أدركت متأخرة أنها أهدرت أوراقها القوية حين مررت بسهولة تقسيم البلاد قبل حسم القضايا العالقة, كما أنها تعاملت بسذاجة سياسية مع العرض الذي قدمه المبعوث الرئاسي الامريكي السابق الجنرال سكوت قريشن في مطلع سبتمبر 2010, اي قبل أربعة أشهر من إجراء الاستفتاء, والذي يتضمن خريطة طريق بتنازلات متبادلة لضمان تمرير عملية الاستفتاء وميلاد دولة الجنوب المستقلة, فقد أبلغ المفاوض الحكومي المبعوث الأمريكي بأن الخرطوم ستنفذ التزاماتها في اتفاقية السلام كاملة بما في ذلك القبول بالانفصال باعتباره التزاماً أخلاقياً دون انتظار لمساومته بمقابل.
احتمالات التسوية:
على الرغم من إتجاه الامور بين الطرفين بإتجاه التصعيد على خلفية الخلاف حول النفط في غياب أفق لتسوية الأزمة ومع تعثر جهود الوسطاء الأفارقة, إلا ان هناك جملة من المحددات التي تجعل إمكانية التوصل إلى اتفاق لصيغة ما لاقتسام العائدات النفطية ضمن تسوية شاملة للقضايا العالقة في نهاية الأمر أكبر من محاولة دفع الأمور نحو حافة الهاوية, بما في ذلك التلويح بخيارعودة حرب شاملة وهو أمر لا قبل للطرفين به على الأقل لاعتبارات اقتصادية, فالحقيقة المؤكدة هي أنه لسنوات قادمة لن يتوفر لدولتي السودان موارد مالية اسهل من العائدات النفطية بغض النظر عن وجود موارد بديلة لكنها ظلت كامنة لأنه لم يتم الاستثمار فيها إبان الطفرة النفطية, وحقيقة اعتماد الخرطوم وجوبا شبه الكامل طوال السنوات الماضية على العائدات النفطية يجعل من المستحيل الاستمرار في معركة كسر عظم لن يكسبها أي من الطرفين في ظل أوضاع اقتصادية آخذة في التردي بشدة.
المحدد الآخر في معادلات تسوية الأزمة يعود إلى الطبيعة التكاملية لتوزيع البنية الاساسية للصناعة النفطية في دولتي السودان, فالحقول الرئيسية للإنتاج موجودة في الجنوب, في حين توجد منشآت المعالج والنقل وموانئ التصدير بالشمال, وهي صيغة تكاملية حتمية لا يوجد بديل لها في المستقبل المنظور, وحتى إن كانت هناك بدائل فهي ممكنة نظرياً ولكن يحكمها أيضاً عامل الجدوى الاقتصادية المحدودة.
المحدد الثالث المهم يأتي من كون الصناعة النفطية في دولتي السودان لا تقتصر معادلاتها على الطرفين بل تشكل الصين دور اللاعب الاكبر فيها بحكم أنها المستثمر الرئيسي فيها, فضلاً عن أن النفط الذي تستورده من السودان بات يشكل جزءً من منظومة أمنها ومصالحها الوطنية وبالتالي فإنها لن تتوان عن استخدام نفوذها لضمان استمرار تدفقه, والعامل الصيني في المعادلة النفطية السودانية يمثل عامل ضغط على الخرطوم بأكثر مما هو الحال مع جوبا, فالحكومة السودانية التي لا تزال تعاني حصاراً غربياً لا تجد بديلاً عن بكين داعماً لها في الساحة الدولية وخاصة في مجلس الأمن الدولي, ولذلك لن تغامر إلى حد الإضرار بمصالح بكين النفطية في السودان وهو ما تأكد من تراجعها السريع من قرارها في شهر ديسمبر الماضي وقف تصدير النفط بعد تعرضتها لانتقادات عنيفة غير مسبوقة من السفير الصيني بالخرطوم, وللسودان أيضاً مصالح حيوية مهمة مع الصين عسكرياً واقتصادياً, يضعها في مرتبة شريكها الخارجي الأول بلا منازع وهو أمر من شأنه أن يعقد حسابات الخرطوم في التعامل مع المسالة النفطية في صراعها مع جوبا.
النفط عامل سلام لا حرب:
مهما يكن من أمر فإن كل الدلائل تشير إلى أن النفط سيظل عامل سلام في دولتي السودان, وليس عامل حرب لأن العودة إلى حرب شاملة لن تلغي وجوده كعامل ذي تأثير على معادلات الطرفين, ولن يلعب دوراً إيجابياً لصالح أي طرف بأي حال من الأحوال, بل سيؤدي إلى مضاعفة النتائج الكارثية على الطرفين على الصعد كافة.         

 

آراء