النُّخْبَةُ السودانية: المزاج الصَّفْوي والصِّرَاع العقيم … بقلم: عبدالله الفكي البشير
(11-11)
أشرت في الحلقتين الأولى والثانية من هذه السلسلة، إلى أن الحوار بين النخبة السودانية –على قلته-، والنقد لمواقف بعضها بعضا، اتسم بالفظاظة والخشونة والقسوة والنفس الحار. بدأ ذلك الحال منذ ظهور طلائع المتعلمين في الشارع العام مع بواكير القرن العشرين، وزاد مع زيادة أعدادهم بفعل تراكم السنين والتوسع في التعليم ومؤسساته. تمدد المتعلمون في الشارع العام، وتمددت معهم ثقافة حوارية مريضة، نشأت منذ بواكير القرن العشرين ونمت في مناخ تسوده المنافسة الحادة والصراع العنيف والعقيم، وكانت محصلته انتشار الشللية وبروز الطموحات الشخصية وعراك القوى والمناورات. ظل الحوار بين طلائع المتعلمين في النصف الأول من القرن العشرين، والعقود التالية، يُعبر عن علل في النفوس وضمور في العقول، وقصور في المعارف. وبقي ذلك موروثاً ضمن التركة والموروثات. ورثت الأجيال اللاحقة، تلك الخصال الحوارية والطبائع النقدية ضمن مورثات أخرى. وظل الحال في يومنا هذا أسوأ مما كان عليه. الشواهد والنماذج على ذلك كثيرة، ولكني انتخبت ثلاثة نماذج لحوارات ومواقف نقدية معاصرة ومكتوبة ومنشورة. جرت بين ستة من المثقفين الحداثيين الكبار. جميعهم رموزٌ بارزة، وأصحاب قامات سامقة في مختلف الأجناس الإبداعية، في الفكر والأدب والفن والشعر ...إلخ. كلهم كما برز في كتباتهم، وفي أحاديث بعضهم، من المشغولين بشعوب السودان، ومن المهمومين بحقوق هذه الشعوب في العدالة، والحرية، والديمقراطية، ودخول الحداثة، وبناء الأمة وتحقيق السلام والاستقرار. يمثل كل واحد من هؤلاء المثقفين الستة، نموذجاً يحتذى، وأثراً يقتفى، في الالتزام الوطني والإنساني، وجودة الإنتاج المعرفي، لأجيال اليوم والأجيال اللاحقة. ولكل منهم مساهمات معرفية وسهوم تنويرية، بعضها ضخم وعظيم، وبعضها وضع صاحبه في مصاف العالمية والتفرد والتمايز. والنماذج الثلاثة هي:
النموذج الأول: "حوارية لاهاي"، 1997م، وهي سجال تم بين الدكتور عبدالله أحمد البشير (بولا) والدكتور حيدر إبراهيم. كان نواة السجال حوار مع الدكتور عبدالله بولا في هولندا، تم على هامش المؤتمر الذي نظمته "المنظمة السودانية لحقوق الإنسان، فرع هولندا"، يونيو 1997م، وقدم فيه الدكتور عبدالله بولا ورقة بعنوان: "إشكالية المثقف والسلطة". على هامش المؤتمر التقى بعض المثقفين الشباب بالدكتور عبدالله بولا، وأجروا معه حواراً في مقهى بمدينة "لاهاي"، كان العنوان الرئيس للحوار هو: "إشكالية المثقف واستشكال الواقع .. مقاربة لتحديد السؤال"، نُشر الحوار في "صحيفة الخرطوم" عددي يوم 27 نوفمبر 1997م ويوم 4 ديسمبر 1997م. تحدث الدكتور عبدالله بولا في ذلك الحوار عن قضايا عديدة ومتداخلة، وتناول مواقف المثقفين السودانيين وتحديات واقع بلادهم، ولامس الحديث قضايا ثقافية مختلفة، وأشار إلى تجربة "مركز الدراسات السودانية". بعد نشر الحوار عقب الدكتور حيدر إبراهيم على مدير "مركز الدراسات السودانية" على ذلك الحوار، بمقال كان عنوانه: "ثقافة جديدة .. بعقل قديم"، انتقد فيه مواقف ومنطلقات بولا، نُشر المقال بصحيفة الخرطوم يوم 15/1/1998م. أثار الحوار مع الدكتور عبدالله بولا، ورد الدكتور حيدر عليه، والمساجلات اللاحقة، مناقشات وحوار واسع بين المثقفين خاصة الشباب منهم. نُشرت بعض تلك المساهمات في صحيفة الخرطوم وبعضها الآخر في المواقع الإسفيرية.
النموذج الثاني: "أشغال العمالقة" 2007م، وهو نص كتبه الفنان الدكتور حسن موسى، فاق عدد كلماته الأربعين ألف كلمة، وكان محوره الشاعر محمد المكي إبراهيم. (حسن موسى، "أشغال العمالقة"، من سودان للجميع (Sudan for all)، الجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم، منبر الحوار الديمقراطي، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 12 نوفمبر 2009م، الموقع على الإنترنت: www.sudan-forall.org). انطلق النص من حدثين، الحدث الأول: كان كلمة كتبها الشاعر محمد المكي إبراهيم في حق الفنان الدكتور عبدالله بولا، حينما نما لعلم المكي بأن وعكة صحية ألمت ببولا، وكان عنوان كلمة المكي: "عبد الله بولا .. عملاق سوداني" وقال فيها عن بولا: (يُمثل بولا ما يمكن تسميته بالمثقف الشامل فهو منظر كبير في مجال الرسم والتلوين وفي مجال الشعر كما في مجال التاريخ الثقافي وله نظرات ثاقبة في النظر الى موضوع الهوية السودانية. وكثيراً ما وقفنا على طرفي نقيض في مسائل الهوية بالذات ولكن ذلك لا يمنع من الاعتراف بذكائه الحاد ونظره المتميز وقدراته الالهامية في استقراء الأمور. وسوف تظل مساهماته الكبيرة موضع التقدير والنظر العلمي والفلسفي في مقبل الايام، كما أن لوحاته المتميزة ستشكل لبنات أساسية في متحف الفن السوداني الحديث). (محمد المكي إبراهيم، "عبد الله بولا .. عملاق سوداني"، من موقع سودانيزأولاين، منتدى سودانيز أولاين، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 10/12/2007م، الموقع على الإنترنت: http://www.sudaneseonline.com). والحدث الثاني: هو حديث للشاعر المكي حول ديوانه الشعري "أمتي" ورد ضمن مقابلة صحفية أجراها معه الأستاذ أحمد عبد المكرم، ونُشرت في جريدة الخرطوم بتاريخ 28 سبتمبر 1995م. تطرق المكي في حديثه لديوانه الشعري "أمتي"، وقال واصفاً الديوان بأنه: "شغل شباب". طبعت الطبعة الأولى من ديوان "أمتي" ببيروت عام 1969م. تمحور نص "شغل العمالقة" حول هذين الحدثين، ونفذ عبرهما إلى مواقف الشاعر المكي، وتناقضها عبر مسيرته الإبداعية. عد حسن موسى وصف الشاعر المكي لديوانه "أمتي" بأنه "شغل شباب"، تبرؤ من ديوان "أمتي"، وتنصُل -على رؤوس الأشهاد- من ذلك الشعر العظيم. اعتبر حسن موسى هذا الموقف يُفسد علي الشاعر المكي، كما يُفسد علينا كلنا منفعة قراءة الدكتور عبدالله بولا لشعر "أمتي". ذكر حسن موسى (مقتبساً بعض مما جاء في كلمة الشاعر المكي "عبدالله بولا.. عملاق سوداني"، أن الدكتور بولا قد اهتم بديوان "أمتي" واكرمه بالقراءة المستوعبة فكان ذلك من ضمن الأسباب التي أكسبت ذلك الديوان سيرورته بين أجيال السودانيين. وأضاف قائلاً: إن بولا هو الذي نبهنا لمرامي شعر "أمتي"، فاحتفينا به "أي بديوان أمتي" وحفظناه عن ظهر قلب وجعلناه زادنا في الأيام الصعبة. وأبحر نص "أشغال العمالقة" متناولاً قضايا عديدة وعميقة، تمحورت حول محاور كثيرة ومتداخلة منها: الإبداع والمسؤولية الأخلاقية للمبدع، وقدم بعض النظرات النقدية لجمالية الخلق الشعري، وقدم النص جرداً شاملاً وواسعاً لمواقف بعض الشعراء والمبدعين، وعلى رأسهم الشاعر محمد المكي إبراهيم، كما وقف النص على قضية المرتكز الحضاري للسودان (الهوية)، وأشار إلى قضية التنوع الثقافي، وتحدث عن الإسلام السوداني، وأشار إلى مشكلة مشروع الهوية في مساهمة الغابة والصحراء، وتناول قضايا أخرى كثيرة، فالنص واسع من حيث القضايا التي تناولها، وعميق من حيث قدرته على إختراق الإنتاج الشعري/ المعرفي وتلمس التناقضات، والوصول به إلى البُنى الفكرية والمعرفية لدي المبدعين ومنتجي المعرفة في السودان. وزُيل النص بقائمة للمصادر/للهوامش والمراجع.
رد الشاعر محمد المكي إبراهيم على الدكتور حسن موسى بمقالة قاسية كان عنوانها: "آية اللؤم العظمى"، نُشرت بصحيفة الأحداث، يوم 29 يناير 2008م. استهل الشاعر المكي مقالته بقوله: (تألمت لمرض الفنان عبد الله بولا ووصلتني أنباء أكثر إيلاماً (كاذبة لحسن الحظ) عن طبيعة مرضه فبادرت إلى الاتصال به على الهاتف وتحدثت إليه والى حرمه الكريمة المثقفة وخلال ذلك كان مقالي الاحتفائي قد نشر في الرأي العام ووصل إلى علمه فتحدث عنه مستحسناً مشيراً إلى ما فيه من مظاهر الإعزاز وانتهت محادثتنا على أحسن حال فقد قضيت واجباً نحو زميل في مهنة الاشتغال بالثقافة ونقلت إليه والى عائلته انه ليس وحيداً ولا مهجوراً وأننا معه في الضراء وعند البأس)، وأضاف المكي: (بعد بضعة أيام على الاتصال ونشر المقال فوجئت بمقالة من السباب البذيء والتخريج اللئيم كتبها شخص مقرب للأستاذ بولا سبني فيها سباً لا استحقه ونسبني إلى أمور لا تتفق وما عمر به وجداني من المروءة ونبل المقصد). واستمر في مقالته بشئ من القسوة والنفس الحار أيضاً.
النموذج الثالث: "منصور خالد: القوَّال The Snitch" 2009م، وهو المقال الأول من سلسلة مقالات كتبها الدكتور عبدالله علي إبراهيم، وكان محورها الدكتور منصور خالد. وصف الدكتور عبدالله، الدكتور منصور خالد بأنه عميل أمريكي، وأفاض حول ذلك، مستدلاً بشواهد وأدله عثر عليها أثناء قيامه برحلة تنقيبيه في أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية المودع بدار الوثائق الوطنية بمدينة كولدج بارك بولاية ميرلاند. بلغ عدد مقالات الدكتور عبدالله أثنى عشر مقالاً منشوراً، كان عنوان المقال الثاني وحتى الثاني عشر هو "ومنصور خالد". ثم جاء مقال لاحق في يوم 7 مايو 2010م بعنوان: "ما زهجتنا يا منصور خالد". (عبدالله على إبراهيم، "منصور خالد: القوَّال"، من موقع سودانايل، منبر الرأي، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 21/2/2009م، الموقع على الإنترنت: www.sudanile.com). لم يرد الدكتور منصور خالد كتابة على مقالات الدكتور عبدالله، ولكن سخر منها، ومن كاتبها، واستهجنها، وقلل من أهميتها وشكك في دقة ما جاء فيها، في حوارات صحفية، وأثناء لقاء تلفزيوني، استضافه فيه صاحب "برنامج مراجعات" على قناة النيل الأزرق الفضائية، الأستاذ الطاهر التوم. أحدثت مقالات الدكتور عبدالله على إبراهيم جدلاً واسعاً، وكتبت عنها العديد من المقالات، وجرت حولها الكثير من الحوارات.
أثارت هذه النماذج الثلاثة جدلاً واسعاً، وحواراً كبيراً في الصحف المحلية في السودان، وفي بعض المواقع الإسفيرية، وكتبت حولها العديد من المقالات، وقدمت الكثير من المساهمات، بعضها يدافع، وبعضها الآخر يؤيد، وبعض المقالات والمداخلات استنكر المنحى، ورفض الطريقة التي تم بها نقد المواقف، وطبيعة التناول الذي اتسم بالغلظة والنفس الحار الذي كتبت به. وأشارت بعض المقالات إلى أن بعض هذه النماذج الحوارية حمل الأمر فوق طاقته، وأن المسائل لا تستحق هذه الخشونة وهذه القطيعة، وهذا التطرف في النقد. كما ذهبت بعض المقالات إلى القول بأن بعض هذه النماذج الحوارية أبانت عن غياب الحوار بين النخبة، وعبَّرت عن ضعف البناء الديمقراطي الداخلي للمثقف، وكشفت عن ضيق مساحة الآخر في دواخله، وأبرزت قلة الفضائل الإنسانية في العلاقات بين المثقفين.
الشاهد، أنني لا أسعى في انتخابي لهذه النماذج الحوارية الثلاثة إلى دراسة نصوصها، أو تحليلها، أو مقارنتها أو دراسة السياق أو الظرف أو المناسبة التي كتبت فيها. أيضاً، لا أسعى إلى مقاربة نصوصها أو مقابلة بعضها بعضا، أو تناول ما ورد في قول أيِّ من كتابها في حق الآخر. ولا أسعى كذلك إلى محاكمة أي نموذج منها، أو محاكمة أي كاتب من كتابها، أو الدفاع عن أي من أصحابها، أو نقد أي موقف من مواقفها. إنما أرى أن هذه النماذج الحوارية الثلاثة –وغيرها كثير- تُعبر في جملتها وبنظرة كلية لما جاء فيها عن حالة عامة ظل يعيشها المبدعون والمثقفون السودانيون، وهي حالة تهميش المبدعين والمثقفين. لقد جردت الأنظمة السياسية، والتنظيمات السياسية، والمؤسسة العسكرية (في مواسم حكمها وانقلاباتها)، الواقع السوداني من فرص الاتصال بالقوة الإبداعية القادرة على وضع السيناريوهات للبدائل والخيارات عبر الكشف الحقيقي عن أسباب القضايا ومركباتها. أيضاً، ظل متوسطو المواهب والمقدرات في كل مواسم الحكم في السودان (الموسم الديمقراطي، والعسكري، والإنتقالي) يتربعون على عرش القيادة، ويوجهون النشاطات المجتمعية، ويتمددون في المنابر التنويرية، ويرسمون السياسات، ويحددون المسارات، مما أدى إلى تهميش المبدعين والمثقفين من جهة، وإلى هامشية علاقة المبدعين والمثقفين بالواقع من جهة أخرى، فانتهى الاتصال بالواقع إلى حدود السقوف المعرفية والفكرية لمحدودي المواهب والمقدرات حيث قصر النظر، وسطحية الفهم وضعف التحليل وتبسيط الأمور وردود الأفعال في المواقف والمسارات.
أيضاً، تُعبر هذه النماذج الحوارية الثلاثة عن حالة متراكمة من الشعور بالإقصاء. لقد ظل ذوو الطاقات الإبداعية، والقامات السامقة من المبدعين، مبعدين من الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي، ومبعدين أيضاً، من دوائر القرار والقيادة، بل ومن دوائر وضع الخطط، وطرح الرؤى للمسار المستقلبي (إن كانت هناك خطط ورؤى للمسار المستقبلي). فالطاقات الإبداعية والمثقف بالمعنى الذي تجلى في نماذجنا الستة، كان ينبغي بحكم -علاقته بالتاريخ والمجتمع- بل يجب أن يمثل الوسيط الحضاري والقائد للتقدم والإصلاح والتجديد. ولكن يمكن القول وبكل اطمئنان أن معظم الطاقات الإبداعية في السودان -ومنهم كتاب النماذج الحوارية الثلاثة المُشار إليهم- كانت ولا تزال فوق السقف المعرفي للقادة والحكام والساسة في السودان. الأمر الذي لم يجعل هناك فرصة لسماع أصوتهم أو الأخذ برؤاهم.
إن كُتاب النماذج الحوارية الثلاثة، ستة من كبار الطاقات الإبداعية، والقامات السامقة في الفضاء المعرفي السوداني، ولدى بعضهم حضور عالمي مميز، الفنان الدكتور عبدالله أحمد البشير بولا، والدكتور حيدر إبراهيم، والفنان الدكتور حسن موسى، والشاعر محمد المكي إبراهيم، والدكتور عبدالله علي إبراهيم، والدكتور منصور خالد. كل واحد من هؤلاء يُمثل في حد ذاته سلطة ثقافية، وبعضهم فوق ذلك هو سلطة إبداعية. فكل واحد منهم قامة في الإنتاج المعرفي، وحالة فريدة ومتميزة في السوح الفكرية والثقافية والمعرفية، ونموذج نادر في معاني الإتقان والجودة الشاملة للإنتاج المعرفي. جميعهم على معرفة عميقة بتاريخ السودان، ودراية وافيه بواقعه، ودربة عالية في التعاطي مع شؤون شعوبه، وجميعهم من أصحاب الرؤى، والإنتاج المعرفي الوفير. ولكن، واجهوا التهميش من قبل الساسة ومحدودي المواهب والمقدرات. كما ظلوا وهم الأكثر معرفة بالتاريخ والواقع ومتطلبات المستقبل، يشهدون على خيبة قادتنا السياسيين وفشلهم في إدارة البلاد، ويتابعون وبألم شديد حالة الانهيار التي منيت بها كل مؤسسات السودان ذات العائد التنموي، والموروثه من حقبة الاستعمار، بل عاصروا مراحل الإنهيار لكل ما ورثته شعوب السودان، من خيرات ومؤسسات: خطوط السكك الحديد، مشروع الجزيرة، جامعة الخرطوم، مؤسسة البريد، النقل النهري...إلخ. وراقبوا انتشار الإنهيار حتى تسرب الإحساس به إلى النفوس، وحينما يتأصل الاحساس بالانهيار في النفوس، يصبح النهوض معضلة، كما قال الروائي الطيب صالح (1929م- 2009م) في ختام وصفه لقصة انهيار السكك الحديدية في السودان. (الطيب صالح، مختارات (7)، وطني السودان، رياض الريس، بيروت، 2005م، ص 111، 112.
أيضاً، تعكس هذه النماذج الحوارية، فشل النخبة السودانية في تأسيس سلطة المثقفين الثقافية، التي عبرها يتم حضورهم كقوى فاعلة ومؤثرة في الشأن العام، ومساهمة في بلورة نسق القيم السائد، وتشكيل القيم الاجتماعية. إن تأسيس سلطة المثقفين الثقافية تحتاج أول ما تحتاج إليه بناء تيار قوى في داخل صفوف المثقفين، ولا يتم ذلك بدون الحوار الحر والمستمر. أيضاً، يتطلب تأسيس سلطة المثقفين الثقافية، تكثيف مساهمات المثقفين في إنتاج المعرفة وتطوير دورهم في مجمل الحركة الاجتماعية، والمشاركة الواسعة في الصراع من أجل التغيير والسعى إلى تبديل ميزان القوى والسلطات في السوح الدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية من خلال انتزاع فرص التمركز والسعي لتضييف مساحات سلطات المجتمع التقليدية الأخرى. إلا أن تأسيس سلطة المثقفين الثقافية تشترط ضرورة التصاق المثقف بالواقع، والمجتمع، والعمل عبر الجماهير ومع الجماهير أثناء تقديم خدماته التنموية والتنويرية. وهذا ما لم يتسنى للنخبة السودانية. أيضاً، أدى غياب تأسيس سلطة المثقفين الثقافية إلى حدوث فراغ استفادت منه كيانات وتجمعات وجماعات تقليدية، استطاعت أن تمكن من سلطاتها، وتتمكن عبر بناء منظومة قيم في داخل المجتمع، فتوسعت عبرها، وأصبحت أقوى تأثيراً، وأكثر قدرة على التغير في مسار الأشياء والأحياء.
إن سبر أغوار موضوع المزاج الصفوي لدى النخبة، والصراع العقيم وغياب الحوار فيما بينها يحتاج إلى تناول أوسع ومعالجات أشمل، وهذا ما يتطلب تنظيم لقاءات وندوات وملتقيات موسعة. وتبقى هذه السلسلة عبارة عن إضاءات ومساهمة أولية تهدف فيما تهدف إليه إلى لفت الإنتباه إلى أهمية الموضوع، بضرورة السعى لمعالجته، عبر الحوار والكتابة حوله من المهتمين والدارسين.
نلتقي يوم الخميس القادم مع موضوع وثيق الصلة بموضوع: "النخبة السودانية: المزاج الصفوي والصراع العقيم"، ووثيق الصلة أيضاً، بالموضوع الذي تناولته قبل ذلك وكان عنوانه: "التنوع الثقافي والأمنية العذراء: خيبة القادة والعقول الراكدة"، وهو موضوع: "الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون"، سأتناوله عبر محاور عديدة، في سلسلة من المقالات، ومن بين تلك المحاور: الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه، الأستاذ محمود في موسوعات الأعلام وكتب التراجم السودانية، الأستاذ محمود والمؤرخون السودانيون، الأستاذ محمود والأكاديميا السودانية، الأستاذ محمود في الإرشيف القومي السوداني، الأستاذ محمود والعلامة عبدالله الطيب، الأستاذ محمود والروائي العالمي الطيب صالح، الأستاذ محمود والدكتور منصور خالد، الأستاذ محمود والدكتور فرانسيس دينق، الأستاذ محمود والأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، إلى جانب محور يقف -عبر رصد أولى- على تسرب أفكار الأستاذ محمود في كتابات المثقفين السودانيين دون الإشارة إليه. ومحور آخر أتناول فيه -وبرصد أولي أيضاً-الأستاذ محمود والمثقفون الإسفيريون أو المثقفون الرقميون أو المثقفون الجدد.
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]