النُّخْبَةُ السودانية: المزاج الصَّفْوي والصِّرَاع العقيم -6- …. بقلم: عبدالله الفكي البشير

 


 

 

abdallaelbashir@gmail.com

 

تصطدم المبادرات الخلاقة في البناء الوطني والفكري في السودان دوماً بمعوقات كثيرة. ترجع تلك المعوقات إلى عوامل عديدة، منها: الدوافع الذاتية، وضعف التقدير من قبل البعض لقيمة المبادرة، وجهل البعض الآخر لأهميتها، وعدم قدرتهم على استيعاب مراميها ومآلاتها ونتائجها المستقبلية. بقي أصحاب المبادرات الخلاقة في السودان دوماً، يجابهون بالمؤامرات والدسائس، وظلت مبادرتهم تُواجه حروباً شرسة، تُستخدم فيها شتى الأدوات والوسائل والأساليب. وهذا أمر موروث منذ ظهور طلائع المتعلمين في ساحة العمل العام، وتوليهم لقيادة السودان بعد الاستقلال. والأمثلة على ذلك كثيرة، منذ بواكير القرن العشرين حتى يومنا هذا. ولعل من أقوى الأمثلة على شن الحرب على المبادرات الخلاقة في مجال التنمية والبناء الوطني، مبادرة المربي بابكر بدري (1861م-1954م)، في تأسيس مشروع مدرسة الأحفاد وسعيه إلى تطويره. لقد واجه المربي بابكر بدري صعاباً عديدة، وأعداء ومعارضين كُثر. كان من بينهم هؤلاء المعارضين بعض المتعلمين السودانيين، الذين آلت إليهم فيما بعد قيادة السودان، وتحديد مساره. لقد عارض بعض المتعلمين، وحاربوا شروع المربي بابكر بدري في تطوير مبادرته التعليمية مدرسة الأحفاد، بعد نقل التجربة من مدينة رفاعة إلى مدينة أم درمان، وسعيه إلى توسعيها وبناء دار لها. وقفوا ضد فكرة تطوير التجربة، وصارعوا من أجل إفشالها، وتحجيم خطط توسيعها. ولولا صلابة المربي بابكر بدري، وعبقريته الفذة، وشدة مراسه لكان مكان الأحفاد الآن، صرحاً لنشر الظلم وبث الظلمات، مقارنة بالدور الذي ظلت ولا تزال تقوم به جامعة الأحفاد.

 

فتح المربي بابكر بدري مدرسة الأحفاد في مدينة رفاعة عام 1930م، بقوة دفع ذاتية. وفي عام 1932م نجح في الحصول على تصريح من برمبل بك مفتش أم درمان، لنقل تجربة مدرسة الأحفاد إلى مدينة أم درمان. بدأت الأحفاد في أم درمان بمرحلة الكتاب في منزل عبيد عبدالنور (1896م-1963م). كان التلاميذ فيها يشكلون أربع فرق (جمع فرقة)، ثلاث منها،  من تلاميذ أم درمان، والرابعة بها تسعة تلاميذ، جاءوا منقولين من رفاعة. أقام التلاميذ المنقولون من رفاعة في منزل لأسرة بدري تحت إشراف ابنته السارة (1895م-؟؟؟). ثم أخذ المربي بابكر بدري في تطوير مشروعه، ففتح الصف الأول من القسم الابتدائي يوم 12/1/1933م. ولما واجه طلب إخلاء المنزل الذي كانت فيه المدرسة، بسبب رغبة صاحبه في بنائه، فكَّر في بناء المدرسة. وبدأت عليه الحرب، من قبل بعض المتعلمين، وكثر عليه الأعداء، وهم قبل ذلك كانوا كثيرين. كتبوا ضد المدرسة في الصحف، المقالات المنفرة، ونشروا في المجالس الإشاعات ضدها. وكان أشد الناس كتابة ضد المدرسة هو السيد خضر حمد (1910م-1970م)، الذي تخرج في قسم الكتبة بكلية غردون، عام 1929م، وأصبح فيما بعد، وزيراً للدولة، ووزيراً للري والقوى الكهربائية، ثم عضواً بمجلس السيادة (1965م-1969م). ذكر المربي بابكر بدري في مذكراته: (تاريخ حياتي، الجزء الثالث، ص 94)، أنه بعد أن أخلى منزل عبيد عبدالنور، وأجَّر منزلاً للمدرسة عام 1934م، قائلاً: (صرت أفكر بعد ذلك، كيف أبني للمدرسة داراً؟ وقد ظهر لها أعداء كثيرون متنوعون، بعضهم يكتبون ضدها في الجرائد، المقالات المنفرة لولاة الأمور عنها، وبعضهم ينشر عنها شفهياً في المجالس، أن التلاميذ الذين يتخرجون من مدرسة الأحفاد من رابعة وسطى، لا يقبلون بالثانوي، فيجيئني بعض المستائين لهذه التقولات، ويطلبون مني أن أكتب في الجرائد رداً على هذه المقولات التي ليس لها أساس تقوم عليه، فأرد عليهم بأننا شرعنا في عمل، فإن نحن نجحنا فيه فيكفِ بنجاحنا رداً واضحاً مبرهناً على كذبهم. وأقول لبعضهم هؤلاء الذين يكتبون ضدنا، هم من أولادنا، فلندعهم يتعلمون فينا الكتابة والانتقاد، وربما يأتي وقت، نحتاج فيه لأقلامهم تذب عنا. ومن أشد ما كانوا يكتبون ضد المدرسة هو خضر أفندي حمد...).

 

برغم كثرة الأعداء والمعارضين اكتمل بناء المدرسة، وانتقلت مدرسة الأحفاد إلى المبنى الجديد في عام 1935م، وشهد يوم 11 فبراير 1936م حفل الافتتاح الرسمي. تابع الحاسدون والمفسدون ـ كما سماهم المربي بابكر بدري في مذكراته ـ مؤامراتهم ضده وضد مدرسة الأحفاد حتى في يوم الافتتاح. ولكن نجاح المشروع كان رداً عملياً. أخذت مدرسة الأحفاد في التطور والنمو وفي عام 1943م تم افتتاح المرحلة الثانوية.       

 

استطاع المربي بابكر بدري، بصلابته وشدة مراسه، وبجهده الذي لا يفتر كما وصفه بنفسه في مذكراته، أن ينجز مبادرته الخلاقة، مدرسة الأحفاد، بجهد ذاتي، في المقام الأول.  على الرغم من أنه استنفر الجميع، وأتاح الفرصة لكل المجتمع السوداني، للمساهمة في مشروع بناء مدرسة الأحفاد، من خلال طوافه في معظم أنحاء السودان، شماله وجنوبه وغربه وشرقه، لجمع التبرعات من أجل بناء مدرسة الأحفاد. وفي هذا السعى والتفكير العظيم، فرصة عظيمة لتأسيس ثقافة الجهود الجماعية في البناء الوطني. ولكن واجه هذا التفكير العظيم المتقدم، التآمر والعداء من قبل الكثير من المتعلمين. عارضه بعضهم، وتبنى البعض دعم قرارات المسئولين بعدم الموافقة والسماح له بتوزيع دفاتر التبرعات في بعض المدن. وأخذ البعض الآخر عدداً من دفاتر التبرعات، ووعدوه بإرجاعها له مع سهوم المتبرعين، ولم يرجعوها، ولم يرجعوا له. برغم كل ذلك وغيره من أنواع الحرب، استطاع المربي بابكر بدري أن يصمد أمام كل المعوقات والعواصف، وهي كثيرة. حارب في جبهات عديدة، تعارك مع السائد والمألوف في المجتمع، وامتص هجوم المثقفين، وصراعهم معه، وصد التُهم الوهمية، بمهل وحكمة وحنكة فائقة. بل تحمل العذاب النفسي والضرب الجسدي وهو رجل طاعن في السن، ونجح في تحييد أعدائه، بقدرته على المواجهة، وبمنهجه الخاص في الإقناع والتبيين. كما صبر على رافضي مبادرته، حتى ارتفعوا لمصاف النضج والوعي اللازم، لاستيعابها وفهم قيمتها وإدراك مدى أهميتها. ذكر سير ستيورت سايمز، الذي عمل سكرتيراً خاصاً للحاكم العام، ثم جاء في عام 1934م حاكماً عاماً للسودان، قائلاً في كلمة له جاءت في مقدمة الجزء الثاني من مذكرات المربي بابكر بدري، تاريخ حياتي: (قابلت شيخ بابكر لأول مرة عام 1908م، عندما كنت أرافق سلاطين باشا في رحلة تفتيشية في مديرية النيل الأزرق، وكان لسلاطين رأي حسن فيه، فذكر لي أن أفكاره التعليمية التقدمية، وخاصة عن تعليم البنات قد أثارت سخطاً ونقداً عند كثيرين من معاصرية ممن لم يبلغوا ما بلغه هو من الاستنارة).

 

لقد ثبت أن المربي بابكر بدري، كان رجل عظيماً، وعبقرية فذة. قدم إلى الناس من المستقبل، وكان الناس يعيشون في الماضي. تمتع ببُعد نظر، قل نظيره، وكان صاحب رؤية ثاقبة، وعزيمة لا تفتر. كان ضد الفشل بالفطرة، ولا يعرف معنى المستحيل. ظلت مبادراته الخلاقة والجريئة ـوقتهاـ، وكذلك مذكراته، كل يوم تكتسب أهمية أكثر وقيمة أكبر. لقد تطورت مدرسة الأحفاد على يد ابنه العميد يوسف بدري (1912م-1995م) حتى بلغت المستوى الجامعي، وأصبحت الآن صرحاً تنويرياً عظيماً، ومؤسسة تنموية ضخمة ليس لها نظير في السودان، فقد اتسمت مسيرتها بالتطور والنمو والاستمرارية، إلى جانب الجودة والإتقان في مخرجاتها. ساهمت ولا تزال تساهم بحجم ضخم في تنمية المرأة والأسرة والمجتمع. لقد كانت تنمية المرأة محوراً أساسياً في رؤية المربي بابكر بدري، وهماً دائماً عنده، أنفق فيه الكثير من طاقاته وأمواله، وبذل جهداً فردياً قل نظيره في العالم من أجلها. في حديث لها في برنامج عيون الغد، بقناة  الشروق الفضائية، يوم 14 فبراير 2009م، الساعة 23:15 بتوقيت الدوحة، أرجعت الدكتورة آمنة بدري رئيس جامعة الأحفاد اهتمام المربي بابكر بدري بتعليم البنات، إلى قوة شخصية والدته والتي أثرت فيه، وذكرت أن بابكر بدري كان يعتقد أن هذه المرأة، بهذه القوة إذا ما تعلمت لكانت حققت الكثير. أيضاً قالت السيدة آمنة أن للمربي بابكر بدري أخوات كن لهن شخصيتهن، وكن يقترضن منه المال للعمل، فكانت إحداهن صانعة وبائعة عطور محلية والأخرى تعمل في السعف. لقد كان المربي بابكر بدري رجلاً كبيراً وفريداً ومتفرداً، سأعود لموضوعه لاحقاً، إذ أنني بصدد إعداد دراسة عنه.

 

أيضاً، تصطدم المبادرات الخلاقة في البناء الوطني، والأطروحات التنموية والفكرية، بمعوقات تتصل بالسقوف المعرفية والفكرية لدى القادة والمثقفين، وفي دوائر حواراتهم وسجالاتهم ومداولاتهم. وتتصل أيضاً بمدى نشاط عقولهم وحيويتها، وتواصلهم مع منابع المعرفة والفكر الإنساني. فكلما كانت العقول ذات حيوية ونشاط، كان الإنتماء إلى المستقبل، وكان العمل من أجله أسهل وأيسر، وعندها تجد المبادرات الخلاقة الترحيب بها والتفاعل معها والدعم لاصحابها. وكلما اتسمت عقول المثقفين والقادة ومحددي مسار الشعوب، بالكسل والخمول، استكانوا واستكان الناس معهم إلى الماضي، وعاشوا فيه. وعندها يكون مصير المبادرات الخلاقة، واصحابها الرفض والحرب. فالكسل العقلي، حينما يخيم على السوح الثقافية والفكرية، وينمو في دوائر المثقفين والقادة ومحددي مسار الشعوب، يحرم الشعوب من فرص الجديد، ويسجنها في القديم البالي، ويقطع طريق تواصلها مع المستقبل، ويبقى الشعور بالأمن والطمأنينة في الحنين إلى الماضي وفي التشبث بالتاريخ. فقبول المبادرات الخلاقة والرؤى الجديدة، يحتاج إلى نشاط العقول وحيويتها، ويحتاج إلى الشجاعة، فالشجاعة انتماء إلى المستقبل، ومواجهة للحاضر، ولا يمكن أن تكون الشجاعة سمة من سمات الذين يستكينون إلى الماضي والتاريخ. يقول الدكتور طه حسين (1889م-1973م) في كتابه: في الشعر الجاهلي، الصادر من دار المعارف للطباعة والنشر، بتونس، عام 1998م، ص 155- 156: (... الكسل العقلي يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنباً للبحث عن الجديد...). كما أورد الأستاذ محمد إبراهيم نقد، في حوار معه صدر في كتاب، بعنوان: حوار حول الدولة المدنية، عن دار عزه للنشر والتوزيع، الخرطوم، 2003م، ص 23 قول إمانويل كانط (1724م-1804م) حول الكسل، قال كانط: (... الكسل والجبن سبب بقاء البشر في حالة اللارشد طوال حياتهم).

 

            اتسمت السوح الفكرية والثقافية في السودان بالكسل العقلي، وظلت قضايا السودان معلقة، وضعف الحوار حولها، وقلت المعالجات لها. قال محمد عشري الصديق (1908م-1972م) في كتابه: أراء وخواطر، الذي صدر عن وزارة الإعلام والشؤون الاجتماعية، في الخرطوم، عام 1969م، ص (50): لا يزال كثير مما يجب أن يُعمل لم يبدأ فيه حتى الآن، فعلى من تقع تبعة هذا التكاسل؟ ثم جاب على تساؤله هذا قائلاً: تقع على الشباب الذين يدعونهم ناهضين، وعلى الشيوخ الذين يسمونهم حكماء. ظل تساؤل عشري قائماً، فلا يزال الشيوخ في كسلهم العقلي، ولا يزال الشباب مُبعدين عن مراكز القرار والقيادة. سمعت مرة الروائي الطيب صالح (1929م- 2009م)، في محاضرة عامة في مدينة الدوحة، بدولة قطر، يعلل كسل السودانيين، وهو وصف رسخ عن السودانيين، في بعض الدول. سأل أحد الحاضرين، في تلك المحاضرة، الروائي الطيب صالح عن سبب قلة إنتاجه الروائي، وغيابه عن الساحة عشرات السنين دون أن يأتي بعمل روائي جديد. وأشار إلى أن في هذا حرماناً لشعوب العالم من قلمه، وتأنياً من قبل الطيب صالح لا مبرر له، ويجب أن يكتسب مشروعه الروائي الاستمرارية. وأضاف المتحدث قائلاً للطيب صالح هل يمكن أن نعتبر قلة إنتاجك هذا، وغيابك عشرات السنين دون أن تنجز عملاً روائياً نوعاً من الكسل؟ الذي يتوافق مع ما عُرف به السودانيين، واتسم به إيقاع حياتهم. رد الروائي الطيب صالح باختصار شديد قائلاً: يا أخي نحن ما كسلانين، بس نحن بنشتغل لما يكون الشغل مهم. ولما يكون الشغل ما مهم، ما بنشتغل. ويبدو أن إجابة الروائي الطيب صالح إجابة ساخرة أكثر من كونها مواجهة لقضية الكسل في حياتنا.

             

في الحلقات القادمة سأقف على بعض موروثاتنا الأخرى، ومنها: نماذج القادة، وحالة اللا تسامح بين المثقفين، ونمو اتجاه الحسد لدى المثقفين، وفي هذا كما أشرت سابقاً، يتداخل التاريخ والفكر والمجتمع، مع سهوم المتعلمين الأوائل. نلتقي يوم الخميس القادم.

 

آراء