النُّخْبَةُ السودانية: المزاج الصَّفْوي والصِّرَاع العقيم (7) … بقلم: عبدالله الفكي البشير
8 July, 2010
الضحايا في السودان كُثر، ومن بينهم ضحايا التميز والتمايز، وضحايا التجارب الناجحة، وأصحاب المبادرات الخلاقة. فمنذ الاستقلال حتى يوم الناس هذا، قُتل الكثيرون، وذُبحت عبقريات فذة، ونُسفت عقول كبيرة، وقُبرت مبادرات خلاقة، وتغيَّر مسار حيوات نوابغ لا حصر لهم. وأسباب ذلك عديدة، وتتداخل فيها عوامل التاريخ، والمجتمع بثقافته، ونسق القيم السائدة فيه، ودور الدولة بسياساتها، وغياب قيم العدل والحرية، إلى جانب سهوم طاقم الحكم بسقوفهم المعرفية، وتكويناتهم الفكرية. معظم قضايا السودان، يتعلق بحالة بحث جارية عن السودان، ومرحلة مخاض تعيشها الأمم، وهي قيد التشكُّل والتكوين. لقد تأخر كثيراً البحث والفحص لقضايا السودان المختلفة، ولم يتوفر النشاط العقلي اللازم لدراسة القضايا والمشكلات، ولم تتح فرص الحوار والتداول حولها، من أجل تجذيرها، وتصميم الحلول الناجعة لها. كان المثقفون ولا يزالون خاملي العقول، شحيحي النفوس، (ممحوقي) الطاقات، فتدهورت خدماتهم التنويرية، وكسدت مساعيهم التعليمية، وتكلست ثقافة الجهود الجماعية في البناء الوطني. ظلت قضايا السودان عالقة، وتراكمت على كثرتها، وتمكنت الدوافع الذاتية عند المثقفين والقادة، وتبع ذلك تدهور عقول الناس وفهومهم، وأصبحت سهام العراك تُوجهها الناس إلى بعضها البعض، فزادت قائمة الضحايا. وحينما تتمكن الدوافع الذاتية، وتتحكم في عطاء المثقفين والقادة، وهم محددو مسارات الشعوب ورموزها، تبرز نفوسهم وتتوارى عقولهم، وعند بروز النفس وتواري العقل، تتلاشى الحكمة، وتنعدم نوايا الإصلاح، وتتسع دائرة الذاتية، ويصبح انتصار النفس وتحقيق الغرض الذاتي هو الغاية والمرام. بعض ضحايا النجاح والتميز في السودان، تحكمت في مصائرهم، الدوافع الذاتية لبعض القادة والمثقفين، وقبروا وقبرت معهم تجاربهم، بسبب غرائز وسلوكيات نمت وتطورت في دوائر المثقفين والقادة، وتنزلت من عقولهم ونفوسهم على الواقع، فتوسعت وتمددت، ومن ذلك شح النفس والكيد والحقد والحسد.
بقليل من الرصد والمتابعة لتجارب النجاح والتميز والتمايز في السودان، ولمسيرة أصحابها، منذ الاستقلال حتى يوم الناس هذا، نجد ندرة الاحتفاء بها، والسعي للتقليل من شأنها، وشأن أصحابها، وقلة التعزيز والدعم لها، بل نجدها واجهت المكايد والأحقاد والحسد، من أجل نسفها وتدمير أصحابها. والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكاد المرء من كثرة شواهدها في الماضي والحاضر، ومن مشاهداته اليومية يجزم بأن هناك ثقافة عداء بأساليب بشعة وبسلطة قوية تبلورت في السودان ضد النجاح والتميز. ظل معظم المبدعين والمتميزين يواجهون الحقد والعداء والمؤامرات، وظلت معظم التجارب الناجحة والمبادرة الخلاقة تُواجه بالعوائق والصعوبات والدسائس. بل يواجه كل خارج عن التشابه، وكل من يفعل فعل تمايز من أصحاب النشاط العقلي والجسدي والمنتجين في مختلف المجالات العداء والحرب.
كتب الأستاذ فتحي الضو مقالاً في حلقتين، بعنوان: "الحسد في السياسة السودانية"، نشرتا في صحيفة الأحداث في يومي 8 و15 فبراير 2009م، على التوالي. سعى إلى تقصى ظاهرة الحسد في الممارسة السياسية السودانية، وطرح فيهما تساؤلات كثيرة، منها: هل ظاهرة الحسد في السودان حِكراً على السياسة والسياسيين؟، أم أنها طغت وتجبَّرت وشملت جوانب أخرى في حياتنا؟ وهل يمكن أن نتحدث عن الحسد الرياضي أو الثقافي أو الفني أو الأكاديمي أو الصحفي، وهلمُ جراً؟ وتحدث الأستاذ فتحي الضو أيضاً، عن ظاهرة الحسد باعتبارها إحدى ظواهر التخلف والانحطاط الأخلاقي، وأنها بعد أن نهشت حياتنا الاجتماعية بدأت تستشري في جسدنا السياسي. فما الذي جعلها تستفحل وتستشري، كما النار في الهشيم؟ وبنفس القدر كيف يمكن أن تنكمش إن عزَّ اجتثاثها من جذورها؟ وذكر أن الحسد كظاهرة دائماً ما يتوفر لها المناخ الحاضن في ظل الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، ذلك لأنه تحت إبط هذه الأنظمة دائماً ما تختل موازيين العدالة الاجتماعية. وأيضاً في ظل تقلص الحريات، تنحسر مساحات الرأي والرأي الآخر مما يصعِّب ويعقِّد الكشف عن الفساد والمفسدين، فلا مناص من أن يقود العجز إلى تغطية الفراغ بتمدد ظاهرة الحسد وتكاثر الحاسدين، وتتعقد المسألة أكثر في ظل أنظمة القهر والمحسوبية أيضاً عندما تتلاشي قيم الحق والعدل والمساواة وتحتل مكانها ظواهر الغش والنفاق والكذب والخداع والتدليس...وفي مناخ كهذا يتنافس الحسد والحاسدين معاً!
في الواقع إن ثقافة الدسائس والمكائد والأحقاد ومظاهر وسلوك الحسد بين المثقفين وفي دوائرهم، ومجالات نشاطاتهم، السياسية وغير السياسية، أمر موروث. لقد خيمت أساليب الدسائس والمؤامرات وثقافة الشلليات والطموحات الشخصية، ومظاهر الحقد والحسد على دوائر المثقفين، منذ بواكير القرن العشرين، وتمكنت فيها، ومن ثم تحكمت في مسارات الحياة السودانية. في كتابه: أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان، الذي نشرته دار الجيل، بيروت، عام 1991م، (صفحة 25)، أرجع البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم (1927م-2004م) إخفاق طلائع المتعلمين في قيادة السودان المستقل إلى عدة أسباب منها: طبيعة العمل السياسي الذي أصبح محصلة للشللية والطموحات الشخصية وعراك القوى والمناورات، إلى جانب أسباب تتعلق بضعف أجهزته السياسية، وطغيان الطائفية، والتدخلات الخارجية، وفقدان الاتجاه.
أرجع البروفسير محمد عمر بشير (1926م-1993م) في كتابه: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900م-1969م، ترجمة هنري رياض وآخرون، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، ص 143- 165، تفشي ظاهرة الحسد بين طلائع المتعلمين، إلى نوع التعليم الذي خضعوا له، وأشار إلى أن نمو اتجاه الحسد كان نتاج لمخلفات نوع التعليم وضعف الملكات النقدية، قائلاً: (والتعليم الذي حظي به المتعلمون لم يستطع أن يطور ملكاتهم النقدية. إذ خَلَّفَ اتجاهاً عقلياً يبلغ في دركه الأسفل الحسد. وفي أحسن صوره إحساساً بالانحراف صوب السفسطة والرومانسية).
لقد شكا معظم المتميزين والناجحين وأصحاب المبادرات الخلاقة والعطاء الجاد في السودان من الحسد وكيد الحاسدين. شكا المربي بابكر بدري (1861م-1954م)، من كيد الحاسدين والحاقدين، وهو يسعى جاهداً في بناء وتطوير مبادرته التعليمية الخلاقة، مدرسة الأحفاد. وتحدث في مذكراته: تاريخ حياتي، 3 أجزاء، عن ما واجهه من حسد وكيد وحقد، ومؤامرات ضد مشروعه. أشار إلى أنه حينما بدأت تجربة مدرسة الأحفاد في النجاح والتوسع والتطور، تحرك الحساد والحاقدون من طلائع المتعلمين، وسعوا سعياً حثيثاً لتدمير المشروع، وتحجيمه. أيضاً، شكا العلامة عبدالله الطيب (1921م-2003م) كثيراً من الحسد، ووثق لذلك في بعض أشعاره. لقد ذكر الشاعر والناقد الأستاذ محمد الواثق في بحثه: محمد أحمد المحجوب وشعراء جيله، مارس 2002م، قائلاً: رجع عبدالله الطيب للسودان بعد فترة الدراسة في لندن ثم صار علماً من أعلام التعليم في السودان، ووجه بمكائد (أبناء اللكيعات) فكاد يشله الإحباط.. يلوذ عبدالله الطيب في كل دواوينه بالرسول صلى الله عليه، وكان آخر دواوينه صوفي المنهج (برق المدد بعدد وبلا عدد)، وتذخر دواوينه (أغاني الأصيل)، (بانات رامه) بذكر أهله في الدامر وطبيعتها حيث يكثر ذكر شجر الأراك والطندب والسلم وكثيراً ما يعرج على ذكر أهله من متصوفة المجاذيب وسنار. لعل وصف العلامة عبدالله الطيب لحساده والكائدين له بـ (أبناء اللكيعات)، وصف لا يخلو من القسوة والبذاءة، ولكنه يعكس حجم عناء العلامة عبدالله الطيب والمعاناة التي وجدها من المكائد والحساد، كما يعكس مدى الظلم الذي وقع عليه.
حدثني الدكتور النور حمد، وهو أحد تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م)، أن الأستاذ محمود كان كثيراً ما يردد بيتين من أبيات شعر بن الفارض (576هـ-632هـ/ 1181م-1235م) المعروف بسلطان العاشقين، والبيتان هما:
وعن مذهبِي، لمّا اسْتَحَـبُّوا العمَى على الـ ـهُدى، حَسداً من عَنْدِ أنفسِهم، ضَلُّوا
فهُمْ في السُّـرى، لمْ يَبْرَحُـوا من مَكانِهم وما ظَعَنُوا في السَّـير عنه، وقد كَلَّوا
أيضاً، تحدث الأستاذ يحي محمد عبدالقادر (1914م-؟؟؟)، في مذكراته: على هامش الأحداث في السودان، عن الحسد لدى المتعلمين وكيدهم لبعضهم بعضا، وأشار إلى مواقف بعينها، وتناول الجفوة في العلاقات بين المتعلمين، والتنافس المحموم فيما بينهم، وحكى الكثير من القصص في الدسائس والمكائد والمؤامرات والأحقاد التي كانت تتم بين طلائع المتعلمين، وأفاض في ذلك بتفصيل ودقة. ومن بين القصص التي حكاها في كتابه آنف الذكر (الصفحات 43- 156)، قصته مع الفرسان الثلاثة: محمد أحمد المحجوب (1908م- 1976م)، وصالح عبدالقادر (1897م- 1968م)، وأحمد يوسف هاشم (1903م- 1958م). والفرسان الثلاثة هو وصف أطلق على ثلاثتهم يوم ذاك بعد استقالتهم من الجمعية التشريعية، وكونوا مع آخرين في أوائل عام 1950م، ما سمي بهيئة تحرير السودان. وزعت الهيئة مذكرة على بعض أعضائها، وتمكنت جريدة (المستقبل) التي كان يصدرها الأستاذ يحي من الحصول على نسخة من الوثيقة، وقامت بنشرها. أحدث نشر الوثيقة ضجة كبرى، وعلقت عليها معظم الصحف. ويروي الأستاذ يحي قائلاً: يرجع أساس الضجة إلى أن الفرسان الثلاثة، زعماء الهيئة، كانوا يعيشون تحت ظلال السيد عبدالرحمن المهدي (1885م-1959م)، ويعتبرون من أدواته، في حين أنهم في هذه الوثيقة يعملون ضده بطريقة غير محترمة وغير كريمة وغير أخلاقية.. لقد لعبوا دوراً مزدوجاً بغيضاً، وعضوا اليد التي أحسنت إليهم. ويمضي الأستاذ يحي قائلاً أما الوثيقة فقد جاء فيها ما يلي:
1. تجنيد الكتاب وخاصة الشباب منهم للكتابة والخطابة ضد الطائفية وإبراز عيوبها، والاستعانة بأنصار السنة.
2. الاستعانة بالنظار والعمد المرفوتين ضد الحاليين والاستعانة بالموتورين من أبناء البيوتات الكبيرة ضد أقاربهم (الاعتماد على فحل في الجزيرة).
3. الاستفادة من أخطاء الجبهة الاتحادية واستعانتها بالأجنبي.
4. إثارة الفتن بين الطوائف وخاصة الطائفتين الكبيرتين.. تبحث الوسائل. كل منطقة حسب ظروفها.
5. استغلال حالة الجوع في الشمال والشرق والعطش في الغرب، والجهل في الجنوب.
6. الاستفادة من العمال في الحركة السياسية.
ويضيف الأستاذ يحي قائلاً: ولم يكد يصدر عدد جريدة المستقبل مشتملاً على هذه الوثيقة حتى اتصل بي المرحوم أحمد يوسف هاشم تلفونياً وشتمني شتماً قبيحاً.. وقال لي لن أنسى لك هذه الإساءة.. إنني أعرف من أوعز إليك بنشر الوثيقة وهو السيد عبدالله خليل إنه يريد إبعاد محمد أحمد المحجوب عن الأنصار ليخلو له الجو.. وهيهات..! إن الكيد لنا نحن الثلاثة بهذا الأسلوب القذر لن يجديك.. وأنا وصالح باقيان ومكانانا محفوظين.. ولن يتخلى عنا السيد عبدالرحمن.. أما أنت أيتها الحشرة السامة فتقبل العزاء منذ الآن في صحيفتك (المستقبل). ويمضي الأستاذ يحي قائلاً: لم أعن بغضبة المرحوم أحمد يوسف هاشم عناية كبيرة.. فقد تعود أن يسئ إلىّ وتعودت أن أسكت. ولن يضيرني المزيد من نفثات صدره المحموم غير أنني اضطررت فيما بعد إلى العناية بكل كلمة قالها. فقد جاءني خطاب من مصلحة السكرتير الإداري يخطرني بإلغاء رخصة صحيفتي (المستقبل)، لعدم انتظامها. ولما كان الأستاذ أحمد يوسف هاشم هو ممثل الصحافة في لجنة الترخيص بالصحف في تلك المصلحة فقد علمت أن أحمد كان جاداً في تهديده وإنه انتقم مني شر انتقام. وقد تألمت كثيراً من تصرف أحمد.. فإنه في سبيل أحقاده- عليه الرحمة- لم يتورع من إلغاء رخصة صحيفتي (المستقبل) فحسب بل من وضع نص ردئ في لائحة قانون الصحافة يلغي الرخصة لمجرد عدم الانتظام في الصدور.. ويعلق الأستاذ يحي قائلاً: إن لائحة الصحافة قد أصبحت في أيدي المستعمرين وأعوانهم ألعوبة وفسرت نصوصها بما يتفق مع البواعث الشخصية والسياسية... كان ينبغي أن تعاون الصحف غير المنتظمة في الصدور على شق طريقها وتركيز نفسها لا أن توأد في المهد.. ولكن ماذا نفعل بأولئك الذين استبعدتهم غرائزهم وفقدوا روح العدالة واهتزت في نفوسهم القيم؟.
والطريف، أن الأستاذ يحي حينما نشر لاحقاً هذه الواقعة في صحيفته أنباء السودان التي أصدرها فيما بعد عام 1952م، ويبدو أن النشر تم بعد وفاة الأستاذ أحمد يوسف هاشم عام 1958م، ففي الأصل كانت مذكرات الأستاذ يحي الموسومة بـ: على هامش الأحداث في السودان، والمشار إليها أعلاه، عبارة عن سلسلة مقالات، نشرها أول مرة في صحيفته أنباء السودان، ثم جمعها لاحقاً في كتاب، ففي الحلقة التي تضمنت الواقعة أعلاه، جاءه تعليق من الأستاذ يحي الفضلي، وهو عبارة عن بيت شعر واحد، من نظم أبي العلا المعري، يقول البيت:
لا تظلموا الموتى وان طال المدى إني أخاف عليكم أن تلتقوا
نشرت الصحيفة (صحيفة الأستاذ يحي أنباء السودان) بيت الشعر، وعلق محررها- وفي الغالب هو الأستاذ يحي نفسه- بكلمة قال فيها: لن نلتقي.
على الرغم من أن ظواهر الحقد والحسد، وأساليب المكائد والدسائس والمؤامرات، في أي بيئة من البيئات، تتداخل فيها عوامل مختلفة نفسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية...إلخ؛ إلا أننا نلاحظ أن هذه الظواهر قد تمكنت في الواقع السوداني، وتمددت بشكل واضح في الحياة اليومية. وكما وردت الإشارة إلى أن هذه الظواهر، ظواهر موروثة منذ طلائع المتعلمين، فقد نمت وتوسعت في دوائرهم بسبب نوع التعليم، ونشوء ثقافة الشلليات، والدوافع الذاتية والطموحات الشخصية والسعي لتحقيق الذات بشتى الأساليب، إلى جانب المنافسة المحمومة التي زرعتها الإدارة الاستعمارية. ولا شك أن هذه المظاهر ملازمة للإنسان، ولكن يختلف الناس في قدرتهم على غربة دواخلهم ومكوناتهم، وفي مدى مقدرتهم على إدارة ذواتهم وتهذيبها وتشذيبها، وفي هذا أيضاً، يدخل نوع التعليم كعنصر أساسي في ذلك. فالتعليم في بعض معانيه ما هو إلا تغيير السلوك. أيضاً، إن هذه المظاهر كانت موجودة في المجتمع السوداني قبل ظهور طلائع المتعلمين. ولعل بيئة السودان بلونيتها الصوفية، والمزاج الصوفي، لها دور كبير في تنمية هذا الاتجاه. فعلى الرغم من جمال البيئة الصوفية، بما تحمله من خصال وقيم إنسانية رفيعة وسامية، مثل: التسامح، والتواضع ...إلخ؛ إلا أنها تمثل بيئة صالحة وخصبة لنمو بعض الاتجاهات والمظاهر، ومن بينها اتجاهات الحسد والغيرة. والشواهد على ذلك كثيرة، روى يوسف ميخائيل في مذكراته الموسومة بـ مذكرات يوسف ميخائيل عن التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان، التي حققها البروفسير أحمد أبو شوك، نشرها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان، عام 2004م، (الصفحات 10-18)، أنه عندما نظر أحمد بك دفع الله أن إلياس أخذ وظيفت باشا وصار هو الحاكم على مديرية كردفان حصل له غيظ عظيم، وكمد الدم على القيح، وصار يدبر في الأمر الذي يُقع به إلياس باشا. عندما جوَّل أفكاره قال: ليس لها إلا على كنونه، شيخ قبيلة الغديات هو سلطان الفرشة. عند ذلك أرسل له أحمد بك دفع الله كونه عندهم صحبه مع بعضهم ومودة كبيرة من قديم الزمان. بعد حضوره عنده قال له: "يا شيخ على كنونة هل وافقك بأن يكون إلياس باشا ماسك زمام الحكم وأنت موجود، ومن أهل الفونج أهل السلطنة الزرقاء ملوك سنار؟ وكان جدهم الكبير حضر من البحر وسكن الصعيد بجبل ولد البقا، وبنا فيه حوش بمرقت البقر، واتره للآن موجود، والشيخ كنونه من نسله، وابن عمه الشيخ إسماعيل الأمين الدلندوك، جده سكن في علوبة، وهما أولاد عم". وصار أحمد بك دفع الله وأولاد عمه وأخيه عبدالله يحرضوا الشيخ على كنونة، لأجل ما يشق عصا الطاعة على الحكومة ويقول: "أنت اسمك مانجل، ولك نحاس وتخشى منك كافت العربان". وما زال أحمد بك يحضروا عنده أولاد عمه، ويحرضوا الشيخ على كنونة بهذا الكلام، وقام من عندهم على نية القتال، وتزود من أحمد بك دفع الله بالسلاح والجبخانة، وسافر من عندهم على هذه النية. وقد وصل إلى بلاده وجمع كافت مشايخ داره وأولاده، وأتباعه وعموم العربان والقبائل المجاورة له، ومشائخ الحوازمة، واستعد للحرب والقتال. وعمل لهم وليمة كبيرة، ومن بعد ما أكلوا الطعام قال لهم: "تاني لا أحد منكم يدفع طلبه للحكومة ما دام إلياس أم برير مدير المديرية". وبوقته قتل المأمور والعساكر والصراف حمد أبوعبيدة، وأخذ أموال الحكومة وفرقها على رءوس القبايل. وقال: "تاني لا ندفع طلبه وأنا حي في داري ما دام الجعلي يكون علينا حاكم. من بعد بيع الشطة والملح صار في ثروه كبيرة، وأخذ وظيفة باشا، ويحكم علينا الجلابي ما بيني وبينه إلا الحرب والقتال... ويضيف يوسف ميخائيل قائلاً: وعندما بلغ أحمد بك دفع الله أن الشيخ على كنونة قتل المأمور والعساكر والصراف، وأخذ أموال الحكومة صار مبسوط وازداد فرحه، وعلم أنه نال مقصوده بالحيلة التي دبرها والفتنة التي أوقفها، وقال لأخيه عبدالله وعموم أهله: "أنا ما قلت لكم ليس يوجد رجل فيه الكفاية إلا الشيخ على كنونة. فالآن أنا صرت مسرور وانظروا يا خواني فشل إلياس أم برير فـ [يـ] ما بعد.
أيضاً، روى سلاطين باشا في كتابه: السيف والنار (ص 70 ـ 71) قائلاً: (وقد عين غردون التاجر السوداني الثري إلياس ومنحه رتبة باشا فكان لهذا التعيين أثر سيء في نفوس الأهالي. وهذا القول ينطبق على تعيين قريبه وهو تاجر ثري أيضا يدعى عبدالرحمن بن نجا. وكان كلاهما على كفاءة يعرف حالة البلاد وكيفية حكم الأهالي ولكنهما كان يشتغلان لمصلحتهما. ونتج عن تعيينهما أن انتشرت روح التحاسد بين كبار السودانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أهلاً لمثل وظيفة إلياس وقريبه عبد الرحمن).
في الحلقات القادمة سأقف على بعض الموروثات الأخرى، ومنها: نماذج القادة، وحالة اللا تسامح بين المثقفين، وفي هذا أيضاً، كما أشرت سابقاً، يتداخل التاريخ والفكر والمجتمع، مع سهوم المتعلمين الأوائل. نلتقي يوم الخميس القادم.
(نقلاً عن صحيفة الأحداث، 8 يوليو 2010م)
عبدالله الفكي البشير
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]