الوضع ما قبل الانتقالي: غاية السلام لا وسيلة الحرب!
تعزف الحكومة باتقان على وتر ايقاف الحرب باعتباره المدخل الرئيس للمصالحة الشاملة بالسودان، ولعل الحكومة تدرك إن بعض المعارضين يندفعون للتعامل مع الدعاوى الحكومية بضرورة إيقاف الحرب كمقطوعة لحن جنائزي، تريد به ومنه ضمان استمرارها وابتزاز قوى المعارضة وتصويرها وكأنها رافضة للسلام جملة، فالحكومة بهذا المعنى تقصد بإيقاف الحرب إيقاف مقاومة وجودها وقطع دابر من يسعون لاقتلاعها، لا إشاعة السلام ورد الحقوق والمظالم والقبول بالتداول السلمي للسلطة. ومن هنا ومن الجانب الآخر، يعتبر البعض مثل هذه الدعاوى مجرد محاولة لفضِّ سامر المعارضة المسلحة واقتلاع أنيابها التي تمثلت لزمن طويل في المقاومة عبر السلاح، وبالتالي وتوازياً، تفكيك الحلف بين المعارضات المسلحة والسلمية، والذي يقضُّ مضجع الحكومة ويهدد استقرارها وسيطرتها على مقاليد الأمور. وهي بذلك دعوة حق أُريد بها باطل عوضاً عن أن تكون دعوة حق من أجل الحق!
وعلى الرغم من تقديرنا لمثل هذه الرؤية (المتشائمة) والمستريبة من جانب المعارضة بشقيها المسلحة والسلمية، للدعاوى الحكومية بوقف الحرب، استناداً على تجارب مريرة وجديرة بالنظر، إلا أن القضية في رأينا يمكن أن تجد مسارات أخرى للحل، بخلاف مجرد الاصطكاك والتمترس في خانة التعامل مع إيقاف الحرب باعتباره مرتبط بإنجاز مطالب سياسية معينة، ترى فيها المعارضة الضامن الأساسي لسلام مستدام يوجِد إمكانية حل شامل للأزمة السودانية وبالتتابع المنضبط.
غاية السلام أم وسيلة الحرب؟!
لقد كتبنا من قبل بأن الجزئية الخاصة بقضية السلام في خطاب الوثبة هي من النقاط القمينة بالالتقاط، كونها نقطة الارتكاز لبقية القضايا التي بالتأكيد تشغل المعارضة، كالتصالح الوطني والديمقراطية الراسخة والعدالة الناجعة والناجزة، فهذا الخطاب الذي ألقاه البشير في يناير 2014، يُعتبر منصة الانطلاق نحو الحوار الحكومي ومخرجاته، وبه استهدت الأحزاب والمجموعات التي انخرطت في حوار القاعة، وبالتالي لا يمكن الفكاك منه إن كان في التوصيات أو الإنفاذ. لقد جاء في خطاب الوثبة أنه: (ليست هناك من حاجة لتبيان أن هذه الدعوة إلى التعاقد على الوثوب إلى الأمام تكون ناقضة لنجاعتها إن هي لم تضع السلام أولوية مُطلقة)! انتهى. إن الأولوية المُطلقة في ظننا هي التي لا تحدِّها حدود، إن كان على المستوى السياسي أو الفكري أو التنظيمي، فإذا كان السلام بالنسبة للمؤتمر الوطني أولوية مُطلقة، فلمَ لم يستجب للمطلوبات والإجراءات التي وضعتها القوى التي رفضت الحضور للخرطوم وهي التي يُشكِّل حضورها سنام الوصول للسلام (الغاية) بحسب الخطاب؟! هذا السؤال ومع عدم وجود إجابة موضوعية له، هو الذي يزيد من الشكوك حول نية الحكومة وحزبها من دعوتها للحوار، وهو ما جعل حوار القاعة لا يأتي بالثمار المُرتجاة.
إن ما بيَّنته الأيام، وبرفض جُل المؤثرين (بحق) للانخراط في حوار القاعة، إن كان في المشهد السياسي هنا أو على الميدان العسكري هناك، هو عدم وضع الحرب لأوزارها، أو، لو كررنا هذه العبارة بكثير من التفاؤل، إن ما بيَّنته الأيام هو عدم الوصول للسلام وكذلك التراضي والإجماع الوطني. والحرب كما قال الخطاب (وسيلة لغايات أخرى، تتعلق بالمصالح الخاصة، حزبية أو فئوية أو قبلية)، والسلام (الغاية) هو أحد أهم الشواغل التي أُطلقت من أجلها دعوة الحوار، فكيف يصبح الوصول إليه أمراً صعباً؟! مع الوضع في الاعتبار إن أغلب القوى التي رفضت الحوار، هي التي سعى ورائها المؤتمر الوطني بخطاب السلام هذا، ومع التأكيد كذلك على أن إجراء وقف إطلاق النار(المؤقت بالطبع)، أياً كان توقيته تأريخاً أو مداه الزمني، يصبح أيضاً (وسيلة) لا (غاية)؛ فكيف تصبح هذه (الوسيلة) المتكثَّف حولها الضوء هي أوج ما نجح في الوصول إليه حوار القاعة، مع تعتيمٍ بالغٍ واستهتار ربما بضرورة وحتمية الغاية الحقيقية(السلام)؟!
إن ما نصبو إليه هو السلام/الغاية، وهذا ليس من موقعنا كمراقبين وسودانيين حادبين على مصلحة بلادنا فقط، ولكن كذلك من وجهة نظر إنسانية وحقوقية واستحقاقية في آن واحد. فالحرب التي تأتي على الأخضر واليابس، لا تحرم المواطنين من الاستقرار فحسب، بل تحرمهم من الأمان النفسي والجسدي والصحة والتعليم والنمو والطموح والأحلام، كما تحرمهم في نهاية الأمر وربما منذ بدايته، من الحق في الحياة نفسها، فأي حق أو استحقاق يبحث عنه المواطن في مناطق النزاعات أكبر وأحق وأثمن من أن يوقف مواجهته بشكل يومي لهذا العذاب (المُركَّب)؟!
وللوصول لغايتنا تلك، ومن موقعنا المُشار إليه، لابد أن نسهم بالدفع بمقترحاتٍ تجعل همَّ إرساء السلام مطلبٌ مُجمعٌ ومتفقٌ عليه، بحيث يضطر معه الفرقاء للإذعان لصوت العقل والتفاهم عوضاً عن(التشريك والمُحاحاة)! وليفهم الفرقاء بأن الأمر ليس بيدهم أو بيد المجتمع الدولي والوسطاء حصراً، بل هو أمر مصيرنا وبلادنا التي لنا فيها تاريخ وحاضر، ومستقبل وعَرَق.
هل لا زال ثمَّة حزب على السلطة؟
طُرح هذا السؤال عقب تخلص الحكومة من العناصر البارزة المنسوبة لحزب السلطة(المؤتمر الوطني) وحركته الإسلامية، وطُرح بشدة عقب تولي الفريق أول بكري حسن صالح لمنصب رئيس الوزراء بالإضافة لمنصبه كنائب أول للرئيس، وأوجد العديد من المراقبين والسياسيين إجابات تباينت بين قائل بأن الدرس انتهى بخروج كامل للحركة الإسلامية وحزبها(خالد التجاني)، وبين مؤكد بأن الخطوة ليست إلا أحد الادوار المكررة في مسرحية العبث والخداع السياسي التي جُبل عليها النظام منذ مسرحية الرئيس والحبيس(يوسف حسين)! وبدون كثير خوضٍ في الأمر، فإن إثبات وجود حزب المؤتمر الوطني في السلطة لا نحتاج معه لكثير تكهنات وتحليل، ولا يتمَّ النظر إليه من خلال وجود شخصيات تاريخية للحزب في قيادة الدولة من عدمه، ولينظر أحدنا للوزارات المختلفة وللمؤسسات الحكومية بمختلف مسمياتها ومستوياتها ودورها في صنع سياسات الدولة، سيكتشف إن أنابيبها وقنواتها مُتخمة بعناصر موالية للحزب وللحركة الإسلامية، وهو وضع لن تستطيع تغييرات فوقية إلغاؤه حتى ولو تسنَّم أعدى أعداء النظام للوزارات، ولنا أسوة في وزراء الحركة الشعبية إبان اتفاقية السلام الشامل(2005) ودورهم المحدود جداً في تغيير سياسات الدولة أوانذاك. إذاً الأمر ليس أمر الرئيس أو رئيس الوزراء ووزرائه، الأمر في رأينا مرتبط ببنية الدولة وطريقة تقلُّد الوظائف فيها لردحٍ من الزمن فاق ربع القرن، ابتداءً من حارس بوابة الوزارة وحتى الوصول لمن يجلس على أعلى كراسيها.
وبهذا المفهوم يصبح الحديث عن مسرحية تُدار بليلٍ لكسب الوقت أو لتجميل وجه المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية بل والأحزاب التي خرجت منه في وقت سابق، أو القول بشيل الفاتحة وانتهاء الدرس، بهذا المفهوم يصبح هذا الحديث غير معتدٍّ به، بل هو خارج السياق تماماً وغير جدير بالنظر.
إن ربط هذا الأمر بقضية السلام ووضع أوزار الحرب وتكملة ذلك بحلٍ شامل، ضروري لفهم السياق العام بجميع أبعاده، وللتعامل بشكل أعمق مع أزمة الحكم وإرساء دعائم العدالة والديمقراطية في البلاد، فمن يعوِّل على انتهاء الدرس سيركن لحلول أو مشكلات قد تأتي من مكوِّن جديد (نسف) المكوِّن القديم برُمَّته، ومن ينتظر انكشاف مسرحية مُتقنة السيناريو سوف لن يسعفه موضع نظره لتبيان أن هناك بُعدٌ للمشكلة، أمضى من مجرد ممثلين يقومون بأدوار محبوكة للوصول لبر الأمان! فهناك على الأرض بشرٌ يموت وزرع يُقتلع وتنمية تنعدم مسوغاتها ودولة تتآكل شيئاً فشيئاً، فمن لهذا الدمار؟ وما هي الحلول الناجعة لتفاديه؟! خصوصاً وأن فعل التغيير الذي يحسم هذه المأساة يتحرك خطوة للأمام ويتراجع خطوتان إلى الخلف! والقيادة الفاعلة فيه تعجز عن إضافة ضربة فرشاة واحدة على لوحته الباهتة؛ هذه ليست دعاوى كاذبة أو أحكام مُتعجِّلة، بل قراءة موضوعية لمسيرة ثلاثة عقود من التوهان، فقدت فيها البلاد ما فقدت من ناس وأرض وضرع وزرع!
حوار القاعة بين الأمس واليوم
لقد استمر حوار القاعة لحوالي العامين، وبين شدٍّ وجذبٍ على المستوى الداخلي – في القاعة نفسها- أو على مستوى الحكومة مع المعارضين له، ووصل هذا الحوار إلى مرحلة متقدمة يستحيل قراءتها بنفس المنظور الذي كان قبل عامٍ مثلاً حينما انطلقت المفاوضات حول دارفور والمنطقتين في أديس أبابا عبر مسارين مختلفين، والذي كان المسار الأول فيهما هو ما يخص المنطقتين- النيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة- والثاني هو مسار دارفور. في المسار الأول جلست الحركة الشعبية والحكومة للتفاوض حول الترتيبات الأمنية، وبعد حربٍ من البيانات خلال التفاوض أعطت مؤشراً حقيقياً لضعف إرادة الطرفين وللتربُّص المُستمر بينهما، وفجأة ودون إنذار، وفي مساء أديسي غائم، خرج علينا الطرفان بمؤتمر صحفي لكل طرف على حدة، فأعلنا فشل العملية، وقد كان ياسر عرمان ممثلاً للحركة من جهة وابراهيم محمود ممثلاً للحكومة من جهة أخرى، وكالعادة تمَّ تبادل الاتهامات بين الطرفين وتمَّ شكر الوسطاء والمجتمع الدولي لمجهوداتهما، ولم يقدم أيٌ منهما كلمة شكر أو مواساة لأصحاب المصلحة!
نفس الأمر انسحب على المسار الثاني للتفاوض- دارفور- وخرج مناوي ببيان يتطابق مع بيان عرمان في اللغة وإن اختلفت الأسباب، وخرج أمين حسن عمر بتصريح يشبه تصريح ابراهيم محمود كذلك، ولكنه أضاف بأنه ربما تنتظر الحركتان في هذا المسار- العدل والمساواة وجيش تحرير السودان- تقدَّم المفاوضات في المسار الثاني.
خلاصة ما توصل إليه المراقب من خلال المؤتمرات الصحفية التي عُقدت في حينها، وما رشح عقب انفضاض جلسات التفاوض، وباعتبار أن تعثُّر مسار التفاوض حول دارفور كان عطفاً على المسار الآخر، بسبب العهد على التنسيق في المواقف بين مكونات الجبهة الثورية، وما نستطيع تأكيده كذلك، إن القشة التي قصمت ظهر التفاوض وأعجزته كليةً، هي مسألة إيصال المساعدات الإنسانية، فقد كان هذا الأمر هو أعتى معضلة واجهت المتفاوضين، وكذلك هو أكبر مشجبٍ عُلِّقت عليه الاتهامات المُتبادلة بالمُماطلة وعدم الجدية!
لماذا يجب أن يتواصل التفاوض؟
لا مندوحة لنا كحقوقيين وكمواطنين من مواصلة المطالبة بالسعي للسلام حتى ولو كان ذلك ضد مصالح بعض الفئات، أو على حساب كرامة متخيَّلة لطرف من الأطراف المعنية، فلا كرامة لوطني حادب فوق مصلحة بلده، فهمَّنا الأول هو استقرار المواطن وضمان أمنه وسلامته في أي شبر من بلادنا وبشكل مستدام، ولا يعنينا بعد ذلك الكسب السياسي أو الخسارة لتلك الفئة أو ذلك الحزب، فالكسب أو الخسارة في اعتقادنا يحدِّدها الموقف من مصلحة المواطن المباشرة لا مصلحة حزب أو انتصار أيديولوجي لفئة، فمصلحة المواطن والبلاد هي السبب الذي من أجله يجب أن يتفاوض المتنازعون ليس نزولاً عند الرغبات أو هروباً من المواجهات ورِدَّة عن النزال، ولكن استيفاءً للاستحقاقات وطلباً للتعافي. ولكن وبالرغم من ذلك يجب علينا الاعتراف بإن القول بفصل عملية السلام من السياق السياسي أو الأمني بالنسبة للأطراف المتنازعة(الحكومة والمعارضة المسلحة) يصبح ضرب من التهويم، ولذلك نجد أن هناك حاجة لبسط بعض الأفكار عساها تُيسِّر المُعسِر.
قبل أن يأتي أحدكم..
إن المقترح الذي نتحدث عنه بسيط في محتواه ولكنه عميق في أثره إن قبلت به الأطراف المتنازعة، ونظن أن في قبوله مخرج من الأزمة المختلقة، وفي رفضه موت لحلم إيقاف الحرب ووقف نزيف الدم والاحتراب وربما التفكك وانحسار مشروع الدولة نفسه، ولا نقول إن في مقترحنا هذا القول الفصل ولكنه محاولة لإيجاد مخرج لأزمة الحوار المنتج خارج قاعة الصداقة، خصوصاً وأن الوقت لا ينتظر، وأن الفجوة بين الأطراف المختلفة تزداد يوماً بعد يوم بسبب مواقف سياسية جديدة تترى، يكون معها الرجوع لمنصة التأسيس ونقطة الالتقاء الممكن السابقة أمراً غاية في الصعوبة، فالحكومة من جانبها تسير في إنفاذ توصيات حوارها والذي يتطلب طرح التزامات جديدة ودخول عناصر كانت خارج اللعبة في وقت سابق بمتطلبات جديدة، والمعارضة كذلك تذهب في إتجاه دراسة خياراتها والتخطيط لمواقف مواكبة تأسيساً على واقع متغير. حسناً لنستعرض الواقع السياسي الماثل؛ هناك أطراف مسلحة تحمل السلاح، بعضها منذ أكثر من عشرة أعوام والبعض الآخر منذ ستة أعوام، بل وهناك القليل الذي ظل يحمل البندقية لأكثر من ذلك؛ غالبية حملة السلاح يؤمنون بمشروعية المقاومة المسلحة ولكن غالبيتهم كذلك يدركون حجم ما يدفعونه وبلادهم وأهلهم جرَّاء ذلك الوضع! بالنسبة للحكومة فإن وضعها أصعب في ظننا، فبالإضافة للمعارضة المسلحة هناك المعارضة السلمية في أدواتها والشرسة في صراعها، وهي معارضة تنقسم لمعارضة يمكن أن نسميها رسمية لأن أغلبيتها أحزاب مسجلة ولها دورٌ ونشاطات- مسموح بها أو ممنوعة- تعترف بقوانين الحكومة ولكنها لا تعترف بمشروعيتها مطلقاً، كما أن هناك معارضة غير رسمية يمثلها طيف واسع من الشارع العام والمغبونين من سياسات الحكومة والغاضبين من ممارساتها سابقاً وحالياً وأصحاب الثأرات وأولياء الدماء التي سُكبت في عدد من الأحداث بسببها. هذا خلاف الأزمات المرتبطة بالنظام نفسه وتركيبته وتاريخه وعلاقاته، ما يُعرِّضه للابتزاز مرة من قبل قوى إقليمية ودولية، وما يُعرِّضه مرات للتورط في أزمات أخلاقية وسياسية واقتصادية، بسبب ممارساته السياسية وممارسات المحسوبين عليه وفساد أساليبهم في السلطة. في ظل هذا الوضع المُعقَّد يستحيل على النظام الاستمرار دون تقديم تنازلات جدِّية، وإن استمر فلن يهنأ بالاستقرار، وستتواصل المقاومة له بسُبل شتى، ولن يجد طريقاً للجم هذه المقاومة إلا بالعنف الذي سيقابله عنف مضاد أو مزيد من المقاومة، وهو ما خبره مرات ومرات؛ وما يؤكده التاريخ إن استمرار عنف الدولة يضطر معه القائمون عليها لتغيير التاكتيكات والتنازل لمن هم ليسوا أهل لهذا التنازل كالقوى الإقليمية والدولية وللمفسدين وسماسرة السياسة، وهي تنازلات تُهدِّد بزوال الدولة نفسها ومكتسباتها ومواردها وأرضها وناسها بالموت والهروب والقتل. ولكن وبرغم تلك التعقيدات ذهبت الحكومة في مشروع حوارها المغضوب عليه من جانب المعارضات بجميع مسمياتها، والمرضي عليه نسبياً من جانب قوى مُعتبرة على المستوى الإقليمي والدولي، ووصلت به إلى حد إنفاذ بعض توصياته ومن ضمنها تعيين رئيس وزراء، بل وشرعت فعلياً في قبول ترشيحات الوزراء من الأحزاب المشاركة في الحوار، بما يشي أو ربما يؤكد ألَّا فرار من حكومة مُحاصصة تعيد انتاج الأزمات واستفحالها ولا تحرك البلاد نحو الحل قيد أنملة!
إن اجتراح وضع ما قبل انتقالي أمر مُلِح، فهو ضروري لجهة عدم تجاوز مسألة الحرب والسلام في رحلة الفعل والفعل المضاد بين الحكومة والمعارضة المسلحة، وضروري كذلك كونه يخلق نوع من الاستكانة الخلاقة التي يمكن بها أن يُعطى إيقاف الحرب وإفشاء السلام، فرصة أن يكون مدخلاً للحوار المنتج الفاعل وبالتالي للحل الشامل لأزمات البلاد، وقد اسميناه هطذا باعتبار أنه يأتي قبل الحكومة الانتقالية ومرتباً لها، ويمكن أن يصنع حلاً لمأزق المؤتمر التحضيري الذي بسببه قُلبت طاولة الحوار لأكثر من مرة. لا نقول إن الوضع ما قبل الانتقالي هو الحل السحري، فهو لن يجلب العدالة بل سيكون دافعاً لها وللمطالبة بها، وهو لن يحقق إبراء الجراح، ولكنه سيطفو بهذا المطلب إلى سطح المشهد العام بعد أن تناساه أصحابه في خضم النزاع، وهو لن يأتي بتعويض لضحايا الحروب والنزاعات والناجين، ولكنه سيُهيئ الأجواء لاستيعاب أهمية التعويض لتأكيد المعافاة الكاملة وترسيخ المصالحة الشاملة بين أبناء وبنات الوطن الواحد.
لا نطالب النظام بتغيير خطته بالكامل ورمي توصيات حواره في سلة المهملات، ولكننا نطالبه بوصفه الجهة الأقدر، بالتنازل جزئياً لمصلحة أصحاب المصلحة بما يغير المعادلة تغييراً جذرياً، وذلك بأن لا يجعل من الحكومة القادمة حكومة محاصصة، بل حكومة مهام تتلخص في ما يلي:
1- اعتبار أن وجود حكومة المهام إيجابي وليس خصماً على الحل الشامل بل داعماً له، ولا يجب أن يعتبرها المؤتمر الوطني ممثلة له أو لمواقفه السابقة من قضية الحوار الجاد أو وقف الحرب
2- حكومة المهام يجب أن تعتبرها جميع الأطراف تشكيل جديد في المعادلة السياسية السودانية بحيث يتم التعامل معها بمرونة أكثر وبخاصة من جانب المعارضة بشقيها المسلحة والسلمية
3- أولوية هذه الحكومة إيقاف الحرب وإرساء السلام الدائم باعتبار حقبة الحرب حقبة بائدة ومسيئة للبلاد، ولا تريد الأطراف المختلفة العودة إليها
4- توفير ضمانات كافية وبوجود شهود دوليين ترضى بهم الأطراف المتنازعة، على المضي في حوارٍ جادٍ منتجٍ وملزمٍ للأطراف، يصل إلى حل شامل لأزمات البلاد، ووضع دستور دائم متفق عليه
5- تحديد سقوف زمنية مع الأطراف المعنية وبموافقتها لإنجاز ما اتفق عليه حتى الوصول لحكومة انتقالية ترتب لانتخابات عامة وفقاً للدستور.
6- التفاهم مع المؤسسات التي أفرزها حوار القاعة على ما سبق ذكره بحيث تكون حكومة المهام هي المسؤولة عن إدارة البلاد لا غيرها وبحيث لا يحصل تضارب مصالح.
هل نحتاج لوضع قبل انتقالي؟
لقد قلنا من قبل إن الحوار الحكومي ذهب مسافة بعيدة، وقلنا إن مياهاً كثيرة مرَّت تحت الجسر خلال العامين المنصرمين، ولذلك وبقليل من عقلنة الأمور نجد أنه من الصعب التعامل مع المشكلات وفق رؤى قديمة في ظل هذا الواقع الجديد. لقد أعلنت الحكومة انقضاء الحوار وحدَّدت ما أتفق عليه المتحاورون وتوصياتهم، ومنها ما قد يصبح استحقاقاً دستورياً بحيث يمكن أن تتعقد معه الأمور بشكل أسوأ من ذي قبل، ومن ضمن ذلك تضمين توصيات الحوار في الدستور نفسه والتشكيلة الحكومية والبرلمان وتركيبته، ولو صبرنا قليلاً قد ندخل في معمعة انتخابات جديدة ورئيس وبرلمان "منتخبين"! وربما تدور بنا الدوامة من جديد حول ما هو شرعي وما هو غير ذلك.
هذه التطورات التي نراها رأي العين على بعد سنوات من الآن وربما أشهر أو أيام، سوف تزيد من تعقيد الأمور، وترفع من درجة الاحتقان بين المتنازعين، وحينها سيكون (البغيُ مَرتعُ مُبتغيه وخيمُ). ما يهمنا كما قلنا هم أصحاب المصلحة المباشرة، أي المواطنين المتأثرين بالنزاع، لا الحكومة المتهمة من قبل المعارضة بأنها السبب في إشعال الحرب أو المعارضة المتهمة من قبل الحكومة بإذكاء نيرانها، وما يهمنا كذلك هو ادراك الوطن قبل أن يتخطفه طائر الشؤم، أو تذروه الرياح بين الأمم.
baragnz@gmail.com