الوظائف واللجوء عند الحروب والأزمات

 


 

 

د. نازك حامد الهاشمي

تُعرف الوظيفة بأنها العمل الذي يقوم به الشخص بانتظام لتحقيق كسب ودخل مستمر. كما قد تتطلب الوظيفة درجات متفاوتة من الخبرات وفق متطلبات العمل. وتندرج بعض الوظائف تحت مسمى "مهنة"، التي عرفها البعض بأنها “عمل أو صنعة وممارسة، تحوي مجموعة متنوعة من المعارف والمهارات التي يتم اكتسابها عن طريق التعليم الرسمي بالإضافة إلى الخبرات العملية". وعادةً ما ينضم الشخص المهني ليصبح عضواً في الكيان التنظيمي للمهنة، ويجب عليه أن يخضع ويلتزم بقواعد الأخلاق المنصوص عليها في ميثاق المهنة، التي عادة ما تحتوي على الإطار العام لمبادئ الكفاءة والنزاهة والأخلاق، وتعزيز المصلحة العامة، بالإضافة إلى فقرة خاصة بكل مهنة.
وتتسبب النزاعات المسلحة أو حتى احتمالات نشوب النزاعات إلى تقويض سبل العيش والأمن الغذائي والثقة في الحكومة والصحة والتعليم والمساواة الاجتماعية. ويمتد من بعد ذلك التدهور للموارد الطبيعية والنظم البيئية؛ وتواجه المجتمعات المحلية المخاطر على المدى القصير والطويل. ومعلوم ان للصراعات تأثيرات سلبية كبيرة على كافة مجالات الحياة وفيها موضوع التوظيف. وتعد العِلاقة بين الحروب والنزاعات والتوظيف عِلاقة معقدة تؤدي إلى تقويض سياسات التوظيف الفعالة في الدول، ومن ثم تدمير الوظائف، وفي المقابل تتسبب البطالة في المزيد من الصراعات؛ حيث يتكسب العاطلون من الخدمة في الحركات العنيفة أو المسلحة من أجل الحصول على النفوذ والتأثير والمكاسب الاقتصادية.
وعادة ما تتأثر الوظائف بنوعية الصراع؛ فإذا ما كان محدوداً ومنحصراً في منطقة صغيرة نسبياً فيجعل معظم البلاد وكذا اقتصادها غير متأثر بالصراع بصورة واضحة. أما في حالة الصراعات المنتشرة في مناطق مختلفة، ولا سيما بالمناطق ذات الكثافة السكانية العالية ومناطق النشاط الاقتصادي الأكبر فيمكن لمثل تلك الصراعات أن يكون لها تأثير شامل على التوظيف في القطاعين العام والخاص، وذلك نتيجة حتمية لتوقف النشاط الاقتصادي عمومًا. لذلك ونسبة لتوقف مصادر الدخل لكثير من العاملين يفتح الأمر احتمالية البحث عن مصادر دخل من قطاعات الإنتاج غير الرسمية أو النشاطات غير القانونية مثل إنتاج وتوزيع المخدرات والتهريب وتجارة البشر وغسل الأموال وانتشار التسليح وغيرها. كذلك تتفاقم ظاهرة إرسال الأطفال إلى العمل من أجل توفير مصدر دخل يُؤمّن أو حتى يساعد في توفير القليل من الاحتياجات الأساسية للأسرة، حيث إنه معلوم أن حجم المساعدات التي تقدمها منظمات العون الإنسانية للمتأثرين بالحرب تظل محدودة في توفير أساسيات الحياة بصورة منتظمة، خاصة في المناطق التي تكون فيها الحرب مستمرة.
وتدفع الصراعات العنيفة والاضطرابات الجيوسياسية في العديد من البلدان بالسكان إلى النزوح والانتقال داخل بلدانهم إلى المناطق الأكثر أمناً أو اللجوء إلى دول أخرى. ويؤدي هذا الانتقال إلى تفاقم تلك الأزمات بفضل تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ويفضي بالتالي لخلق المزيد من التوترات الاجتماعية والسياسية، خاصة عند النظر إلى اتجاهات النمو السكاني أو التوسع الحضري المتوقعة في البلدان أو المناطق المتضررة من الانتقال، إذ إن ذلك يؤثر على البنية التحتية والخدمات المتاحة فيها، وعلى فرص العمل، بالإضافة إلى أن المتاح منها يكون دوماً أقل بكثير من العدد الذي يرغب فيه. والنتيجة الحتمية لكل ذلك أن تنخفض الأجور وشروط التوظيف، حيث تجبر الأحوال الاقتصادية للمنتقلين على القبول بمرتبات متدنية. فالناس يتنقلون لمناطق أخرى لأنهم لم يعودوا قادرين على تلبية احتياجاتهم، وهو ما يُعزى إلى مجموعة من الظروف التي تفاقمت بسبب الحرب والأزمات الاقتصادية. ويزداد الوضع سوءًا بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الفقر أصلا، وفوق ذلك يكابدون أوضاع ما بعد الحرب التي طرأت على وظائفهم، لدرجة أنهم لا يستطيعون إلا بالكاد حتى مجرد الانتقال إلى مناطق أخرى، فالانتقال نفسه غدا أمرًا مكلفًا. ولذلك غالبا ما تظل الفئات الأكثر ضعفا مُحاصرةً ومحصورة في حلقة مفرغة من الفقر في المناطق المتأثرة بتبعات الحرب، وتوقف العمل فيها، بل بمجمل الحياة الاقتصادية فيها.
ومن جانب آخر يعد خِيار اللجوء إلى بلدان أخرى أمرًا بالغ التعقيد للمهاجرين الذين اضطرتهم حالة الحروب وعدم الأمن في أوطانهم إلى ذلك، حيث تختلف فرص العمل من دولة لأخرى، خاصة أن أغلب دول العالم تعيش حقبة ركود اقتصادي. ووفق تقرير صادر في 9 يناير 2024 م عن مجموعة البنك الدُّوَليّ عن الآفاق الاقتصادية العالمية فإنه من المتوقع أن يسجل الاقتصاد العالمي معدلات ضعيفة في (نمو) إجمالي الناتج المحلي بنهاية عام 2024م، عدّ هي الأدنى والأبطأ في حقبة الخمس سنوات السابقة.
ولخص التقرير الوضع الاقتصادي العالمي بالقول: "فمن ناحية، نجد أن الاقتصاد العالمي الآن في وضع أفضل مما كان عليه قبل عام، فقد تراجعت مخاطر حدوث ركود عالمي، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى قوة الاقتصاد الأمريكي، لكن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة يمكن أن تخلق أخطارا جديدة تواجه الاقتصاد العالمي على المدى القريب. وفي الوقت نفسه، أصبحت الآفاق متوسطة الأجل قاتمة بالنسبة للعديد من الاقتصادات النامية وَسَط تباطؤ معدلات النمو في معظم الاقتصادات الكبرى، فضلا عن تباطؤ التجارة العالمية، ومن المتوقع ألا يتجاوز نمو التجارة العالمية في عام 2024م نصف المتوسط في السنوات العشر التي سبقت جائحة كورونا. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تظل تكاليف الاقتراض بالنسبة للاقتصادات النامية - وخاصة تلك التي تعاني من ضعف التصنيف الائتماني - مرتفعة مع بقاء أسعار الفائدة العالمية عند أعلى مستوياتها على مدى أربعين سنة بعد استبعاد أثر التضخم". وقد تتسبب هذه الأحداث آثارًا تحولية على صعيد التنمية، وقدرة الدول على استيعاب أعداد جديدة من اللاجئين، حيث أفاد التقرير بأن النمو الاقتصادي سيظل ضعيفًا على المدى القريب، وسيؤدي ذلك إلى حدوث ارتباك في العديد من البلدان النامية، لا سيما في دولها الأشد فقرًا، وستؤدي معدلات الديون العالية إلى الحد من قدرات هذه البلدان، بل سيكون من الصعب للغاية توفير الغذاء لواحد من كل ثلاث أشخاص تقريبًا. وسيعرقل ذلك إحراز تقدم في سبيل الوفاء بالعديد من الأولويات العالمية. (https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2024/01/09/)
كما وتربط كذلك كثير من التقارير العالمية بين الآثار الناتجة عن تأثيرات المناخ وبين توافد أعداد كبيرة من اللاجئين لهذه المناطق، وتصبح العِلاقة بينهما عِلاقة تبادلية، فيؤدي النزوح القسري وتغير المناخ إلى أن يفاقم كل واحدًا منهما الآخر، مما يعني أن اتخاذ القرار باستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين في المناطق المعرضة لتغير المناخ يستدعي بالضرورة دراسة الآثار المناخية المحتملة؛ كما يتطلب إدراج الدول المستضيفة للاجئين في الخطط الوطنية للتكيف مع المناخ.
ومن جانب آخر تشير تقارير أخرى عن تصاعد التنافس على العمالة الوافدة، مع ارتفاع نسبة المسنين بين سكان البلدان الغنية ومتوسطة الدخل، حيث كشف تقرير للبنك الدُّوَليّ صادر في25 أبريل2023م تحت عنوان "المهاجرون واللاجئون والمجتمعات" عن ارتفاع نسبة المسنين بين سكان مختلف بلدان العالم بوتيرة غير مسبوقة، مما يزيد من اعتماد العديد من البلدان على الهجرة حتى تتمكَّن من تحقيق نمو طويل الأجل. (https://www.worldbank.org/en/publication/wdr2023)
ويشير ذلك التقرير إلى أن هذا الاتجاه يمثل فرصة فريدة لتحسين دور الهجرة في خدمة الاقتصاد والناس معا. ويعد تناقص أعداد السكان في البلدان الغنية وفي عدد كبير من البلدان متوسطة الدخل إحدى الأماكن المرشحة لاستقبال للمهاجرين، وهذه مسألة تبقي باب التنافس العالمي على العمالة والمواهب مفتوحاً. وفي المقابل، من المتوقع أن تشهد معظم البلدان منخفضة الدخل نموًا سكانياً سريعاً، ينتج عنه ضغوطات تحد من خلق المزيد من الوظائف للشباب بها. كما وأشار التقرير إلى أمثلة لبعض الدول ونسبة السكان فيها، وإلى أنه في العقود القادمة "ستنخفض نسبة البالغين في سن العمل انخفاضًا حادًا في العديد من البلدان. لذلك فان الهجرة تعود بالفائدة على الجميع سواءً أكانت البلدان الأصلية أو بلدان المقصد في حال ما أُديرت بشكل سليم وتصبح قوةً دافعةً لتحقيق الرخاء والتنمية".
وما ورد في التقارير المذكورة من تعقيدات وتناقضات قد تدل على أن هناك مناطق مختلفة من العالم تقع تحت تأثير أزمة في المناخ مما يستوجب فرض سياسات تحد من استيعاب لاجئين جدد، ومناطق أخرى لديها حاجة ماسة لاستيعاب وافدين بمواصفات معينة تخدم الاقتصاد بسد شواغر في الوظائف بعمالة شابة تحتاجها دول تلك المناطق. وهذا الأمر جيد ويساعد كثير من شباب اللاجئين للحصول على فرص عمل وبناء مستقبل أفضل لم يكن متوفراً لهم في بلدانهم، ويساعد في تدعيم توافق مهارات المهاجرين مع احتياجات مجتمعات بلدان المقصد. غير أن أسباب اللجوء القسرية مثل الحروب تدفع مختلف الفئات العمرية الى أن تكون في سوق العمل في بلاد اللجوء، التي قد لا تكون فيها فرصاً متاحة للعمل.
ويعد النزوح واللجوء غير المسبوقين للسودانيين، الذي تسببت فيه الحرب الدائرة في السودان منذ منتصف أبريل 2023م، من أهم الأسباب التي أدت إلى توقف عجلة الحياة الاقتصادية بالبلاد عامة والعاصمة تحديداً، خاصةً وأن النشاط الاقتصادي يتمركز في المدن الكبيرة. وكانت ولاية الخُرْطُوم هي المركز التجاري والصناعي الأكبر للدولة، وبالطبع الأعلى كثافة سكانية، ونتج عن نزوح السكان منها إلى فقد شريحة كبيرة من هؤلاء لوظائفهم ومصادر دخلهم. ووفقًا لنشرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية بتاريخ 14 يناير 2024م نزح أكثر من 7.4 مليون شخص داخل السودان وخارجه منذ اندلاع القتال. كما أن السودان بموقعه الجغرافي المحوري يجاور بعض الدول التي تشهد اضطرابات ولديها أوضاع هشة هي الأخرى، وفي اللجوء إليها درجات متفاوتة من المخاطر سواءً أكانت أمنية أو إنسانية. لذلك فإن الآثار بعيدة المدى للحرب على الاقتصاد السوداني والخطوات الواجب اتخاذها مستقبلًا، هي من الأمور التي يصعب التكهن بها بدقة، ربما لارتباطها بأسباب قيام الحرب نفسها، والطريقة التي سوف تنتهي بها، والتداعيات الإقليمية لنتيجة انتهاء الحرب. وجميع النتائج المحتملة سوف تنعكس على شريحة الموظفين في القطاعين العام والخاص وسوق العمل عموماً، وهي شريحة وضعتها الأزمات الاقتصادية السابقة والمتلاحقة على الاقتصاد السوداني في ترتيب الفئات الضعيفة في المجتمع تحت مسمى "ذوي الدخل المحدود". كما قد يعاني سوق العمل من الآثار السلبية الناتجة عن "هجرة العقول"، الذين هجرتهم الحرب، خاصة في القطاعات الحيوية مثل القطاعين الصحي والتعليمي وغيرهما. وقد تشهد تلك القطاعات نقصًا حادًا في كوادرها المؤهلة، مما يؤخر من سرعة التعافي لمرحلة ما بعد الحرب لكافة القطاعات الخدمية وعلى القطاعات الاقتصادية بشكل خاص، حيث أن الانهيار في النشاط الاقتصادي والخسائر التراكمية للاستثمارات الأجنبية قد تدفعها للعزوف عن العودة للعمل في المستقبل القريب. لذلك فإن اضطرابات النظام الاقتصادي يكون له عادةً أثر أكبر بكثير من مجرد الأضرار المادية وإن كانت كبيرة وجسيمة، وأنه كلما طال أمد الحرب زادت خطورة عواقبها، مما يزيد ويعقد من صعوبة التعافي.
نختم القول بأنه عندما يواجه سوق العمل اختلالات نتيجة لصدمات الاقتصادية المختلفة، يصبح التوازن مطلوباً لتجاوز مفضالات سوق العمل، حيث يسود عند ذلك الكساد وتتراجع فرص العمل وينحسر الطلب على العمالة أو حتى تخفض الأجور. كما يؤدي فقدان الوظائف المؤقت عبر التسريح المؤقت أو الدائم لظاهرة تسمى الندوب في سوق العمل، حيث يظل الموظفون فيها عاطلين من العمل أو يعملون في القطاعات غير الرسمية. وهي ظاهرة عادةً ما يحتاج رأبها مدة قد تصل إلى أكثر من عقد من الزمان. وهذا ما يضع المجتمعات في وَسَط حُزْمَة من الآثار السالبة والوخيمة على معايير عدم المساواة في الدخول والمستويات المعيشية.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء