مقدمة : ليس اليوم كالأمس . كما ليست السلطة اليوم كالأمس . بعض المحبين للسلطة يرمون لها حبل المحبة ، ويسعون سلماً لجوارها ، فرسة ناعمة . ولكنها جاءت على صهوات جمهرة اختارتك . بثقل تُراث آبائك الأولون ، أو بالمال اشتريتهم أو بعلو شأنك وكاريزما وجودك وأعمالك . أما من يسعون إليها حرباً ، فيخوضون المغامرة كلها ، وقد أوضح سعادة العميد أن هنالك ثلاثة طرق للذين ينقلبون على السلطة ، في السودان : أ. أن تنقلب القوات المسلحة ، بكامل هيكلها التراتُبي ، كالذي تم في إنقلاب الفريق إبراهيم عبود . وهذه مدتها قصيرة . ب. أن ينقلب فصيل من الرتب العسكرية الوسطى ، بتوجهات سياسية مُتعددة ، وتلك مدة بقائها أكثر من سابقتها . ت. أن ينقلب التنظيم السياسي ، ويستخدم القوات المسلحة لخدمة أغراضه ، وهذه مدة بقائها أطول زماناً ، كما نشهدها اليوم . (1) من كتاب سعادة العميد الركن (م) السر أحمد سعيد :السيف والطغاة ( القوات المسلحة السودانية والسياسة ) دراسة تحليلية (1971-1995) . يمكننا أن نقتطف ما يضيء الساعات الأخيرة التي انحازت فيها القوات المسلحة لجانب الشعب . وأن نبين ما دونه سعادة العميد الركن (م) السر أحمد سعيد خلال الساعات الأخيرة من ليلة 5/6 أبريل ، عندما كانت الجماهير تواجه القوة الأمنية المسلحة ، وهي ترتدي زي القوات المسلحة ، مما أثار حفيظة كثير من الضباط متوسطي الرتب ، الذين رفضوا أن تكون القوات المسلحة هي اليد التي تضرب الجماهير . (2) نقطف أدناه ما دونه سعادة العميد الركن (م) السر أحمد سعيد :
الساعات الحاسمة :
في نهار الجمعة 5 ابريل / نيسان 1985 ، كان مسجد قيادة القوات المحمولة جواً داخل القيادة العامة مكتظاً بالضباط والجنود إذ أن الاستعداد كان قد رفع إلى 100% التي تعني حالة التأهب القصوى ، وبعد أداء صلاة الجمعة مباشرة وكنتُ واحداً من الحاضرين . وقف الفريق " عبد الرحمن سوار الذهب " القائد العام للقوات المسلحة وألقى حديثاً طويلاً على المصلين مفاده أن الشريعة الإسلامية منذ انتهاء الثورة المهدية ظلت حلم الشعب السوداني الذي كان ينادي بها وظلت كل الأحزاب تتاجر بها ولم يطبقها سوى " جعفر نميري " ،وأن هذه الشريعة التي أعلنها الرئيس النميري ستبقى وأكد بوضوح أن الرئيس النميري الرجل الذي أعلن الشريعة سيبقى أيضاً ، لأننا قد بايعناه على ذلك ،وأن تحركات الشيوعيين في القيام بالمظاهرات وقطع الكهرباء والتخريب وخلافه لن تخيفنا . كان بادئ الانفعال إلى درجة جعلت كل من كان بالمسجد يوقن أن الفريق " سوار الذهب " متمسك بقائده الأعلى ، وأيما تمسك ..!!
(3) في مساء الجمعة أثمر ضغط الضباط في كل من أم درمان والشجرة في أن يذهب القائد العام نفسه للاجتماع إلى الضباط بأم درمان ( سلاح المهندسين ) . تشير المعلومات الواردة تلك الليلة أن الرجل قد واجه شيئاً لم يكن معتاداً عليه ، شيء هو أقرب إلى التمرد والعصيان ، يبدو أن ذلك أحدث فيه اثراً عميقاً .في منتصف الليل وصلت المعلومات من قيادة المدرعات أن هناك من ينوي التحرك ، فطلب القائد العام من نائبه الفريق " تاج الدين " أن يذهب إلى الشجرة للاجتماع إلى الضباط ، إذ أن قائدهم العميد " حمادة عبد العظيم " يخشى أن يفلت الأمر من يده . وقد كان ، فتحرك إليهم الفريق " تاج الدين " واجتمع بهم . وأيضاً واجهته عاصفة عنيفة أشبه بتلك التي واجهت القائد العام في المهندسين . وعندما أخذ يتحدث إليهم عن الدستور وأنه ينبغي احترامه ، زاد ذلك من ثورة الضباط وهياجهم ، وهكذا عاد هو أيضاً بنفس الوجه الذي عاد به قائده العام وبنفس ذلك الأثر . وفي يوم الجمعة أيضاً وحتى عودة الفريق "تاج الدين عبد الله فضل " من الشجرة في ساعة متأخرة من ليلة 5/6 أبريل 1985 ، ومع كل ما كان يجري داخل الوحدات في المناطق العسكرية الست التي تتشكل منها قيادة منطقة الخرطوم كان هناك العميد الركن " عثمان عبد الله " مدير فرع العمليات الحربية ، وهو الرجل الذي اختاره الرئيس نميري اختياراً لحضور دورة الحرب العليا في أكاديمية ناصر العسكرية بجمهورية مصر العربية ، ثم تم تعيينه مديراً لفرع العمليات الحربية . وكان يمسك كل الخيوط بيده تلك الأيام ، وبصفة خاصة في ذلك اليوم الأخير الذي سبق نجاح الانتفاضة وذلك للأسباب التالية . (نقوم بتلخيص بقية الوثائق).
(4)
أولاً : ثقة القائد العام فيه - أي العميد الركن " عثمان عبد الله " -، وهو لا يتقدم بخطوة إلا بمشورته ، وأنه أيضاً كان موضع ثقة بسبب قربه من الرئيس نميري . ثانياً: بصفته مدير فرع العمليات فهو عضو في لجنة أمن العاصمة ، ويستطيع تحريك أية قوة داخل منطقة الخرطوم أو حتى خارجها وفقاً لمقررات تلك اللجنة التي تعقد اجتماعاتها في مبنى جهاز الأمن برعاية اللواء " عمر محمد الطيب " النائب الأول لرئيس الجمهورية . واستمر اللواء " عمر " في تطمين اللجنة التي كانت في حالة اجتماع مستمر ، وهو يكن تقديراً خاصاً للعميد الركن " عثمان عبد الله " . ثالثاً : بصفته مديراً للعمليات الحربية يكون مسئولاً عن خطة الأمن الداخلي لمحافظة الخرطوم بالتنسيق مع الشرطة ، وكانت الخطة قد تم تعديلها لتقوم بهمة ردع المواكب والتظاهرات الضخمة التي كان مخططاً لها أن تتم نهار السبت 6 ابريل 1985 وكانت كل القنوات مفتوحة مع مدير الشرطة . رابعاً: من خلال بعض الضباط الذين يعملون معه كانت لهم قنوات مفتوحة بالتجمع الوطني الذي كان مقره " نادي أساتذة جامعة الخرطوم " خامساً: كان العميد الركن " عثمان عبد الله " يحظى بثقة قطاع واسع من الضباط ، لدماثة خلقه ومقدرته في مد جسور التواصل ، وله صداقات عميقة مع كبار الضباط ،وأيضاً وسط مجموعة من رتب الضباط الوسيطة . كثير من أعضاء هيئة القيادة كانوا يعتقدون أنه يترأس تنظيماً واسعاً وسط الضباط ، مما جعلهم ينتظرون منه الخطوة التالية ، حتى أن مدير الاستخبارات العسكرية ظل في مكتبه منتظراً ما تأتي به الأحداث أو ما يفعله العميد " عثمان عبد الله " .
(5)
عاد الفريق " تاج الدين " من الشجرة في ساعات الفجر الأولى ونقل الأحداث هناك للقائد العام ، وكان القائد العام قد عاد قبله بحولي الساعة ، وكلاهما مشتتاً ، وفاقدي التصور لما سيحدث . ودون ترتيب اجتمعت " هيئة القيادة " وكان الموقف حافلاً : - شعب في حالة ثورة وهياج عظيم - رئيس لم يكترث وسافر لرحلة علاجية - دولة ونظام في شبه انهيار ولا وجود لمؤسساتها ، وقد فقد قادته المبادرة بما فيهم النائب الأول اللواء " عمر محمد الطيب " - قوات مسلحة ملتزمة تجاه الشعب والوطن ، وقد تجاوزت الدولة والنظام كافة الخطوط الحمر ، واستفزها قيام الأمن بالتصدي للجماهير ولبس بعضهم ملابس القوات النظامية . - هيئة قيادة لجأت إليها الجماهير تدفعها لفعل شيء . والقائد العام لم يمضى على تعيينه قائداً عاماً سوى شهرين .
(6)
هيئة القيادة عاجزة إلى أن جاءهم الفرج من العميد الركن " عثمان عبد الله " مدير العمليات وقدم لهم الحل الأبسط لحقن الدماء بتسلم القوات المسلحة السلطة . واقترح أحد هيئة القيادة الاتصال بالنائب الأول " اللواء عمر محمد الطيب " والذي هو رئيس جهاز الأمن . وعند حضوره لم يتم اعتقاله ولم يتم إبلاغه بما عقدوا العزم عليه . وقد قال اللواء " عمر محمد الطيب " في برنامج " أسماء في حياتنا " أنه خرج من القيادة العامة وكان يعتقد أن الأمر مجرد إعلان حالة طوارئ ، ولم يتصور أن يكون الأمر استلام للسلطة ، لأنه وببساطة كان القائد العام وهيئة القيادة جزء لا يتجزأ من النظام ؟ لست أعتقد أن في الأمر مؤامرة أو تدخل خارجي ، مثل مؤشرات وضحت من " ترحيل اليهود الفلاشا " ، ومثل الشهادة التي أدلى بها اللواء " عثمان السيد " وزير الدولة بجهاز الأمن ، كشف فيها أن أحد ضباط المخابرات بالسفارة الأمريكية كان على اتصال معهم بصورة مستمرة ، وأنه قد مرّ عليهم يوم السبت 6 أبريل ليقول لهم " أنا آسف للسيد نميري وآسف السيد عمر الطيب ، فالأمر قد انتهى بالنسبة إليهم ".
(7)
حضر اللواء عمر إلى مكتب القائد العام في الخامسة والنصف من صباح السبت 6 أبريل ، وبعد التحية خاطب الفريق " سوار الذهب " قائلاً وبأسلوبه المعروف " في شنو يا شيخنا ؟ " ، وأراد الفريق تاج الدين الحديث ، ولكن اللواء نبه إلى أن الأمر وفق النظم العسكرية ، وأخطره القائد العام " سوار الذهب " بأن هيئة القيادة قد اتخذت قراراً بخطوة لحقن الدماء وتجنب انزلاق البلاد إلى المجهول . أطرق اللواء عمر ملياً وخرج . ما بين السادسة والسابعة صباح السبت 6 ابريل كتب العميد " عثمان عبد الله " البيان الأول بخط يده المميز ، وبدأت محاولات إقناع الفريق" سوار الذهب " باعتباره القائد العام ، وبعد حوالي الساعتين ، وبعد استصدار فتوى بأن بيعته لإمامة نميري باطلة من أساسها ، وللحفاظ على وحدة القوات المسلحة ، اقتنع بأن يذيع بيان نجاح الانتفاضة واضعاً نهاية للدولة المايوية ، وتم ذلك في تمام الساعة التاسعة والربع صباحاً ، حيث ألقى " سوار الذهب " بياناً أنهى فيه ستة عشر عاماً من عمر النظام المايوي ، وقام أيضاً بإلغاء دستور 1973 م والذي لم يطلب منه أحد إلغائه . انتهى النص المأخوذ من كتاب سعادة العميد الركن (م) السر أحمد سعيد . نعيد التذكير بأن سعادة العميد الركن (م) السر أحمد سعيد هو واحد من ضباط الوطنيين الذين ينتمون للقوات المسلحة السودانية ، وقد دربته داخل الوطن وخارجه ، وتلقى دراسات عليا في الدراسات العسكرية الاستراتيجية . عمل فترة طويلة بجنوب الوطن ( السابق ) في مناطق متعددة . اختارته القوات المسلحة للعمل في قوات حفظ السلام العربية في لبنان ، لوقف الحرب الأهلية هناك . تمت إحالته للصالح العام عام 1995 ، وكان حينها في منتصف الأربعينات من عمره !!.