انزل يوم من علاك الفوق … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

 

( إهداء إلى أصدقاء العمر ورفاق الدراسة بمدينة ودمدني)

 

ربما صعب على الداعية، أن يقدم الدعوة، دعوة (التجنيد!)، إياها، إلى نوعيات معينة من الناس.

فمن الناس من لا يراهم الداعية من أهل النباهة، والجد، وربما قدر أنهم لا ربما لا يقدِّرون الدعوة، حق قدرها، وقد لا يقبلونها، وإن قبلوها، فربما لا  يحملونها محمل الجد، ولا يؤتمنون عليها، ولا يمضون بها، في  وعي، و جد، في الزحام.

وعلى الطرف الأقصى، قد  يرى الداعية أناسا، حازوا  من الشمائل الطيبة، الحظ الأوفى، والنصيب الموفور. ويدرك جليا أن هذا الرهط  الكريم  قد بوأ نفسه،  مقاما عليا، أسمى  من المقام الذي يدعوهم إليه بكثير!

وإلى هذه الطائفة الأخيرة، انتمى زميلنا العزيز الحبيب، الذي لم ألقه منذ سنين طويلة، الأخ جمال، الذي كان يسكن حي (التجارب)، بمدينة ود مدني، وكان طالبا متميزا، سعدنا بصحبته، ومزاملته، في رحاب المدرسة الوسطى، في أواسط ستينيات القرن المنصرم، ولا أدري أين هو الآن!

فتوة وضاءة:

فتى ذو مظهر مهيب، يلفت النظر، بهدوئه، ونظراته العميقة، المتأملة، وجلبابه النظيف، الناصع البياض، (المكوي سيف!) على الدوام. ولم يحدث أن رآه أحد يأتي إلى المدرسة يوما بثوب قديم، أو مهلهل، أو متسخ!

ومع علمنا جميعا أنه نشأ يتيما، إلا أنه كان يبدو وكأنه، أوسع الناس ثراء  ونعمة، وما كان صاحب ثراء عريض، ولا نعمة سابغة، في الحقيقة، ولكنه كان يبدو كذلك، لشدة عناية أمه بتربيته، في جوهره، ومظهره معا، وكان بتلك الخليقة، والسليقة، والطريقة، أجدر أن ينشد فيه ما أنشد في سواه:

وفتوةٌ وضاءةٌ       أنَّى تلوح يشع سعْدُ!

جيرة طيبة:

بقي  جاري بالصف خلال أكثر سنوات الدراسة، بالمدرسة الوسطى، وظلت علاقتي الشخصية به متينة، حميمة، صادقة، ملؤها الحب، والتقدير الشديد لسمو أخلاقه، وتفوقه الأكاديمي، وتعاليه عن الخصام، وحبه للوئام، حيث لم يكن طرفا في أي مشاكسات أو مصادمات تحدث بين الطلاب.

فلم يكن يحسد أحدا، أو يحقره، أو يظلمه. ولم يعرف عنه أنه سعى بوشاية، أو أقدم على كيد. وذلك أكثر ما كان يشيع المعارك بين الفتيان في ذلك الأوان، وربما إلى الآن.

ومن الناحية الأكاديمية كان هو أول الصف في معظم الأحيان، وربما جاء ترتيبه الثاني إن ساء حظه  وتعثر قليلا ، وهنا يفسح المجال لطالب واحد، كي يسبقه في المضمار، وربما ساء حظه وتعثر كثيرا، وتردى وضعه الأكاديمي، و تدهور، إلى أن بلغ الغاية القصوى، في التدهور،  فجاء في  مرتبة الطالب الثالث، في الصف، وذلك ما لم يكن يحدث إلا في قليل الحال!

بعيدا عن العدوى:

ومع صلتي الشديدة به، ومجاورتي إياه، وإعجابي بشأنه كله، إلا لم يعدني قط بشيء مما اتسم به من جد، ومثابرة في طلب العلم، وجلد في الدرس، ويقظة حادة، وانتباه كامل، ومتابعة دقيقة، وتمحيص لكل شواردة وواردة، من شوارد العلم ووارداته.

ولا أنا أعديته بشيئ من هزلي، وتهاوني، ومماطلتي في أداء الواجبات الدراسية، و(دك) الحصص!

ولا أزال أذكره حتى اليوم، وهو يرعى قيمة الوقت، ويصونه من أن يذهب هدرا، فيذاكر في ساعات الفراغ، في (الحصص الفاضية)، التي كانت تتعالى فيها أصوات الطلاب، باللغط  والضجيج، وتكثر فيها المشاكل، إلا أنه ما كان يشغل نفسه بما يدور  حوله من هرج، ولا يشارك فيه، لا بالأذن، ولا باللسان!

-  قلت له مرة وقد رأيته يذاكر في (الديكشنري) في أحد (الحصص الفاضية): أهذا ما بقي عليك أن تفعله، يا جمال، أن تقرأ عشوائيا في قاموس؟!

 -  فأجابني بما كان درسا بليغا طيبا، إذ قال: إن مطالعة القاموس تفتح  على المرء آفاقا واسعة في العلم، وترشده إلى معارف كثيرة، وتَقِفَه على أشياء لم يتطلبها ابتداء، وتدله على أصول الكلمات، وعلى معانيها القريبة والبعيدة!

وهكذا كان عقل جمال كبيرا، منذ أن كان فتى صغيرا. وفيما بعد، أي بعد سنوات طويلة، قرأت كتاب (مذكرات شاهد القرن) مالك بن نبي، المفكر الجزائري الرصين، ورأيته يقول قولا شبيها، حيث دعا من يضطلعون بواجبات التدريس، في فصول محو الأمية، لكبار السن، ألا يعاملوهم  معاملة االصغار، وأن يحاولوا مع استطاعوا، أن يعوضوهم عما ما فاتهم من حظوظ العلم، بإطلاعهم على مصادر المعرفة الكبرى، كقواميس اللغة، وخرائط الجغرافيا، فإنها  ترشدهم إلى معارف شاملة، وتوسع مداركهم وإمكاناتهم العلمية، والثقافية، إلى مدى شاسع، لا تبلغه بهم  مطالعة المقررات القاصرة، ولا الجهود المبذولة في مُمَاتَنَة النصوص المجردة المحدودة!

راكب غلط!

افترقنا في المدرسة الثانوية. فقد كان هو أجدر الناس أن يكون في المساق العلمي، وما كان يخلق بمثلي إلا أن يكون (أدبيا) صرفا وعدلا.

وهو خيار، مهما كان سوء الظن به، وبصاحبه، إلا أنه كان خياري المفضل الأثير، كيف لا وقد أراحني من عنت العلوم، ومن متابعة تجاربها، وتأمل قضاياها العويصة، ومن حل مسائل الرياضيات، التي كنت أكره من شأنها، أنها تشغل كثيرا من وقتي ( في غير طائل!)،

 

 وكذلك فقد منحني ذلك الخيار، ما كنت أحتاج إليه أشد الحاجة، في تلك الحقبة المهمة، من حقب التكوين الفكري الذاتي، إذ أعطاني الفرصة الكاملة، للتفرغ  لقراءة (في ظلال القرآن)، وغيره من كتب (الإخوان)!

ثم افترقت عن الأخ جمال، في المرة الثانية، عندما التحقنا بالجامعة. فقد التحق هو بجامعة الخرطوم، بينما التحقت بجامعة أم درمان الإسلامية.

ومرة زرت جامعة الخرطوم، جريا (وراء الفارغة)، وطلبا للاطلاع على صحف الحائط، ومشاهدة بعض المعارض، وأظنها كانت أيام مظاهرات، من مظاهرات أعقاب ثورة شعبان، أو لعله كان موسم انتخابات، أو نشاط نحو ذلك، لأن الزحام  والتدافع والجدل كان ميسم المكان حول مقاهي الطلاب.

وهنالك التقيت جمالا، وهو في حالة قلق وانزعاج وضيق، وحدثني مفاكها وجادا في الوقت نفسه، قائلا : حقا إنها لمصادفة أن نلتقي في هذا المكان، لأنه المكان الذي لا أغشاه ولا أجتازه على الإطلاق، ولا أمر بأمثاله من أماكن الجلبة والضوضاء والسياسة والعبث وإهدار الأوقات والمواهب والطاقات!

قال هذا عن المكان الذي تجشمت أنا عبء الوصول إليه من أم درمان، ولكنه كره أن يجد نفسه فيه، وهو منه على بعد خطوات!

 فأينا هذا الذي كان راكبا أو سالكا خطأ في الطريق؟!

 إن إجابتي اليوم تقول بأنني أنا الذي أخطأت الطريق.

أما هو فقد ظن بعد وقت طويل من لقائنا ذاك أنه كان ينبغي أن يركب ذلك المسعى منذ ذلك الإبان!!

انزل يوم من علاك الفوق!

تخرج الأخ جمال طبيبا، ثم التقاني، عن غير قصد أو ميعاد، بجامعة أم درمان الإسلامية الزاهرة، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وكنت عندما رأيته خارجا لتوي من إلقاء درس على الطلاب، فألقى تحية السلام، وقليلا من الكلام، ثم خاطبني في لهجة جد حقيقي، وقال في حديث نابع من الأعماق:

- يا  محمد! إن لي والله عليك لعتبا شديدا!

- قلت له: إني لا أخلو من تقصير مع كل الناس، وكل من يعاتبني فهو محق، فماذا تأخذ عليَ يا جمال؟!

- قال: عندما كنا صغارا كنت تقضي وقتك كله في القراءة (الخارجية)، وتتركنا للدارسة الأكاديمية، ولم تدلنا على ما معك من كتب العلم  والأدب، فلم ذاك؟!

 ثم إنك كنت مشغولا بالدعوة، أكثر مما كنت مشغولا بالدرس، فلم لم تشملني معكم بدعوة الخير؟!

قلت له: يا جمال .. إني أصدقك القول الآن, وما في قولي الذي سأفضي به إليك أَثارة من كذب أو مَيْن، فأنت كنت خير مثال، وقدوة، لنا في الصف جميعا، بل كنت منارا في المدرسة كلها.

 لقد كنت، مذ أنت في صغرك الباكر، تأتي في كل خير أولا، قبل كل الناس، وتأتي في كل شر آخرا، بعد كل الناس.

وقد كنت أشطرنا في الدراسة، وأنقانا في الطباع، وأصفانا في الأخلاق، وأحسننا جوهرا، وأنظفنا مظهرا، وأكثرنا انتظاما في صلاة الجماعة، وأنآنا عن المشاكسة، والمعاكسة، والمشاجرة، فما كان عساي أن أقول لك حينذاك؟!

هل كان مطلوبا مني أن أخاطبك، وأطلب منك أن تنزل (يوم من علاك الفوق) لتشاركنا في مقامنا، الثقافي، والدعوي، الذي هو دون مقامك بكثير؟!

لم تبد سيما الرضا والقناعة على وجه جمال، وظنني أجامله، وأطيب خاطره بهذا القول، ذلك مع أني ما كنت أنطق إلا بالحق، ولا أصدع  إلا بالصدق. بل ما كنت أعتذر من خطأ، وقعت فيه، ولا أتهرب من تبعة تقصير نحوه، ونحو أفراد  قلائل، من أمثاله، ممن رأيت من أفضل البشر، الساعين على وجه الأرض اليوم.

التدين الشخصي والتدين العام:

 وأظن أن الأخ الدكتور جمال صالح، لو قام بتوجيه سؤاله هذا الذي عاتبني به، إلى أخينا الشيخ الفاضل عبد الله التيجاني عثمان، زميلنا في الصف، وصديقي في الدعوة منذئذ، لأجابه بهذا الجواب نفسه، لم يخرم منه شيئا في المعنى ولا في اللفظ!

ولو وجه الأخ الدكتور جمال سؤاله هذا، إلى فضيلة الشيخ عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، زميلنا في الدفعة، في الفصل الموازي، في مدرسة مدني الأهلية الوسطى (ب)، وصديقنا في الدعوة بعد ذلك الحين بقليل، لأجابه بنفس القافية والرَّوِي!

فلم يكن أحد منا يظن أن التيار الإسلامي الحركي الذي ينتمي إليه، هو قدر الناس جميعا. وما كان أحد منا يتعصب لفريقه الذي يعيش بوسطه، ويتعالى على الآخرين. ولم يتحيز أحد منا لنمط التدين الذي كان يعتنقه، ويحتقر ما سواه.

فقد احتفظنا، منذ الصغر، بإجلال عظيم القدر، لنمط التدين الفردي، الذي امتاز به الأخ جمال، ورهط من أمثاله، من  نفر كريم  فاضل، من أصحابنا، الذين عايشناهم في مختلف البيئات.

بل كان لنا أحيانا شك في نمط التدين الجماعي، الصاخب، الذي يتحول، عند البعض، مع مرور الزمن، إلى شعارات نظرية، لا تتناسب مع الممارسات العملية، ولا تتوافق معها، فتنهار  المصداقية، ويصبح الداعية، بسبب من ذلك، خصما على الدعوة، وعبئا ثقيلا عليها!

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ولا شك أن الأخ الدكتور جمال صالح، الذي بدا لي ميله إلى التدين الجماعي، واضحا، عندما قابلته، تلك المقابلة الخاطفة، في أيام فورة الديمقراطية، واشتعال حماسة الإسلاميين، واستعدادهم للجهاد، بلا تردد، لحماية الشريعة الإسلامية، من عدوان العلمانيين، وصيانة البلاد السودانية، من تربص المتمردين، قد قدم لي أفضل برهان، على أن التدين الشخصي، الصادق، سينتهي حتما إلى تدين جماعي، صحيح، رصين، مخلص.

 كيف لا؟! و ديننا الإسلامي، الحنيف، قد قامت دعوته، من يومها الأول، على أساس من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكرات.

 

آراء