بدروم النذالة

 


 

عمر العمر
17 August, 2023

 

الآن أدركوا صعوبة الخروج من لهب الحرب . الحسم في غضون ساعات وهمٌ عابر . النصر لا يلوح في الأفق الملبد بالأدخنة. تلك ليست هي المسألة. القضية التلبس القسري بروح ما كبث. لا سيبيل للتقهقر. فالدم خلفكم كما الدم أمامكم. لا سبيل للخلاص من كابوس الرعب .كأنما التوغل في الدم أيسر من الاغتسال منه .في الحالتين ما من مهرب آمن من مواجهة الحساب الشعبي العسير .كما أبان شكسبير في ماكبثه (يا له من يوم أحمق). في تراجيديتنا ليس ذلك يوم إشعال الحرب بل يوم الإنقلاب على سلطة الثورة. البرهان وحميدتي استنساخ مشوّه لقائد الجيش الاسكتلندي وصديقه بانكو . أما الساحرات الثلاث فهن قابعات داخل المؤتمر الوطني. هناك كذلك ليدي ماكبث حيث استقى القائد وهَم (الفضيلة والجبن شيء واحد).
*****

حتما كما في رائعة شكسبير حيث واجه ماكبث المثقل بالعذابات والأوهام غابة بيرنام زاحفة إليه ، ستواجهون غابة الشعب حال النصر أو الهزيمة. فذلك مصير كل مشحون بنوازع ودوافع تتجاوز القيم الإنسانية إلى الأطماع الذاتية. فالسقوط الأخلاقي يشكّل محور الملهاتين الإنجليزية والسودانية. فقط في الأولى حبكة متماسكة حول السلطة، الصداقة والخيانة. بينما في الثانية رقاع ملفّقة على عجل . بغض النظر عن التباين والتطابق بين(ماكبث) وملهاتنا فان المسرحية تعتبر أكثر أعمال الشاعر الخالد بربرية. تماما مثلما هي بربرية حميدتي والبرهان في التاريخ السوداني.
*****

كما في لندن إبان الحرب العالمية الأخيرة ،لم يكن الدمار هو أكثر مصادر معاناة سكانها .فالصدمات النفسانية ألحقت تشوهات ماحقة بقطاع عريض من ساكنيها ممن هُجّروا أو ظلوا تحت حمم القصف النازي. تماما كما نهضت لندن خرجت ستالينغراد من تحت الأنقاض عقب الصمود في واحدة من أكبر المعارك في التاريخ العسكري كي تضمد جراحها. في المدينتين على نهري التيمز و الفولغا واجه السكان عدوانا خارجياً لكن مدينتنا الساكنة بين النيلين أفاقت على عدوان من الداخل. لذلك هنا حجم المعاناة ليس أخف وقعا بل أشدّ إيلاما.
*****

البرابرة الجدد لم يعرفوا الخرطوم وهي تنام وتصح على إيقاع الطرب. صعاليك المدينة المشرّبين بالشعر والغناء دأبوا على هز جزع المدينة حتى الهزيع الأخير من ليل آخر الأسبوع بينما يعطر العُباد ليلايها دوما حتى أوقات السحر. فلا ينجو أحدهما من وهج الآخر. من آيات ذلك قصة العناق المتداولة بين الشيخ قريب الله والفنان كرومة على فريدة أبو صلاح (ياليل أبقالي شاهد على نار شوقي وجنوني) هذه البيوت المدمرة المنهوبة والشوارع المهجورة لن تألفكم ولن تمنحكم الدفء (فالبيوت تموت إذا غاب ساكنوها) كما يقول الشاعر الفلسطيني المجيد محمود درويش في رائعته المعنونة(لماذا تركت الحصان وحيدا) .فهذه البيوت المشيّدة بعرق الأجيال لن تألف البتة ذئاب البراري .
*****

فلنردد معاً من رائعة درويش الشعر العربي :
يا ابني تذكر
هنا وقع الإنكشاري
عن بغلة الحرب
فاصمد معي لنعود
متى يا أبي؟
غدا
ربما بعد يومين ياابني
ولأتجاسر على الدرويش فأزيد عليه على نسق ديباجته:
غداً يا ولدي نعود
و نعيد للخرطوم سيرتها الأولى
بعد رحيل المرتزقة والجنود
*****

اختباؤكم في بدروم الخيانة يؤكد خواءكم من الإيمان بقضية. فالقناعات الكبيرة تولّد شغف الدفاع عنها حد الموت. بينما الاقتتال على المغانم الصغيرة يفرز الجبن. هل منكم من سمع عن استشهاد سلفادور أليندي ، الرئيس التشيلي ،في قصر الرئاسة. ما حمل الرجل السلاح دفاعا عن منصبه .بل استبسالا في سبيل الزود عن مبدأ رسم تجربة اشتراكية ديمقراطية طازجة حتى إذا اقتضى ذلك الرسم الدم . هو طبيب ليس ضابط عسكري . ذلك الثبات المبدئي حفر اسم سلفادور أليندي أيقونة في سجل النضال. لاشيء يجمع بين سيرته وحكايتكم غير الخيانة. فمن عينه أليندي وزيرا للدفاع، أوغستو بينوشيه، آثر دور بروتس مع قيصر فانتهى جنرالاً مجردا من شرف الجندية. هي كذلك نهاية قريبة من المختبئين في بئر النذالة. فلم لا تخرجوا للدفاع عن شرفكم ، شرف الجندية قبل الكلام عن كرامة الأمة أو وحدة الوطن!
*****
القوة هي آلية الحرب لكنها في الحرب الأهلية خاصة تكون قوة مدمرة.نعم الحرب قوة قاهرة لكنها عاجزة عن قهر إرادة الشعوب. أما السلام فهو ملحمة تتمازج فيها مكونات القوة على درب البناء والخير والمحبة. فغادروا مخابئكم الآن الآن وليس غدا لتواجهوا الموت أو العقاب. ففي الخيارين خلاص الشعب والوطن.

aloomar@gmail.com

 

آراء