برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م (2)

Nationalism by Telegrams: Political Writings& Anti-colonial Resistance in Sudan , 1920 – 1924

الينيا فيزا ديني      Elena Vezzadini

ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة وتلخيص لبحث تاريخي طويل (33 صفحة) عن حركة 1924م  للدكتورة الينا فيزايدني نشر في عام 2013م في العدد الرابع والستين للمجلة الدولية للدراسات الأفريقية التاريخية والتي تصدر من جامعة بوسطن بالولايات المتحدة. وكانت حركة 1924م هي موضوع دراسة المؤلفة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة بيرجن بالنرويج، وأستلت المؤلفة عددا من الأوراق البحثية من رسالتها للدكتوراه، منها هذه الورقة التي نعرض لبعض أجزائها هنا، خاصة وقد يتذكر البعض منا هذا العام (2014م)  مرور  تسعين عاما على قيام هذه الحركة الوطنية. المترجم
****        ***********      **********     ************
إن هنالك أسبابا عديدة لاعتبار حركة 1924م حركة وطنية رائدة بل وسابقة لأوانها.  فالمؤرخين عادة ما يعدون الوطنية في السودان ظاهرة خاصة بالمثقفين دون سواهم، وبهذا الفهم فهم يؤمنون بأن "جمعية اللواء الأبيض" لم تلق نجاحا شعبيا لأنها أبت أن تستغل الدين والولاءات العرقية لتحقيق أهدافها، وبذا لم  تفلح في استمالة الجماهير وفي الحصول على أي تأييد من عامة أفراد الشعب من غير المتعلمين والذين لا يفهمون غير لغة الدين والعرق. ومن جهة أخرى أصابت الحركة الوطنية بعد سنوات ثلاثينيات القرن العشرين نجاحا ملحوظا بعد أن حصلت على تأييد زعيمي أكبر طائفتين دينيتين في البلاد هما على الميرغني وعبد الرحمن المهدي. وبذا بقي السودانيون في "دائرة التخلف"، وبمساعدة فعالة من رجال السياسة الطامعين في السلطة.
ولم تكن حركة 1924م سابقة لأوانها فحسب، بل كانت حركة مختلفة، شذت عن ما ألفه الناس. فقد ضمت تلك الحركة عددا كبيرا مما كان يسميه البريطانيون "السودانيون السود"، والذين كانوا في العادة من المهمشين، وغابوا تماما عن المشهد السياسي في ما أقبل من سنوات. ولهذا السبب عد بعض المؤرخين حركة 1924م  "ثورة للمهمشين" وليس ثورة لغالبية سكان السودان. ولكن هذا التعميم ليس هذا بصحيح على الإطلاق كما سيتضح عند تحليل البرقيات التي بعث بها قادة تلك الحركة للحكومة الاستعمارية.
وأخيرا، فقد كانت حركة 1924م الوطنية موضوعا لنقاشات مستمرة حول منشأها وأصولها وأصالتها. وهناك عدد من المؤرخين المصريين وكذلك من غير المصريين (مثل محمد نوري الأمين)  ممن يزعمون أن  وطنية تلك الحركة كانت  نتاجا لتأثيرات مصرية.
ويمكن القول بأن وطنية نبعت من مصر، وطالبت بوحدة مصر والسودان دون أن تعرف نفسها بأنها "حركة قومية عربية"، ويقودها سودانيون سود البشرة... مثل تلك الوطنية لم تكن مؤهلة (في حسابات غالب السودانيين) لتعد حدثا تأسيسيا للأمة السودانية، فالحدث التأسيسي (عند هذه الأمة) هو ما اعتادت عليه، ولهذا اعتبرت حركة 1924م استثناءً من القاعدة.
ويتضح عند النظر الفاحص لحركة 1924م أنها حركة سياسية بالغة التعقيد، وتستأهل الدراسة التاريخية المعمقة وبصورة مستقلة عن الحركات الوطنية (الأصيلة؟) اللاحقة، مثل تلك التي وقعت في الثلاثينيات، ولا ينبغي النظر إليها فقط كـ "تحرك فاشل" أو "فرصة ضائعة". وتتطلب دراسة تاريخ تلك الحركة معرفة دقيقة بسودان عشرينيات القرن الماضي، وتتطلب أيضا الفكاك من الصورة النمطية للشعب السوداني من أنه مجرد تابع فقط إما لبريطانيا أو لمصر. وأحسب أن دراسة الدعاية السياسية التي كتبها أو وقع عليها كثير من السودانيين في عام 1924م هي خطوة مهمة في هذا الاتجاه.
لم يكن استخدام حركة 1924م لأسلوب إرسال البرقيات والعرائض والبيانات والمنشورات والرسائل في المقاومة السياسية بدعة مبتكرة، فقد استخدمها من قبل الثوار في سوريا الكبرى(بلاد الشام) والصين ومصر وذلك بين سنوات النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. ولعل ذلك كان واحدا من نواتج الثورة العالمية والتي قدحت شرارتها اكتشافات واختراعات تلك السنوات مثل البرق (التلغراف) والسفن البخارية، والتي ساهمت في اختصار المسافات والوقت وحسنت كثيرا من نوعية وسرعة الاتصالات، بل وغيرت من طريقة إدارة وتنفيذ الاستراتيجيات الحربية والأعمال التجارية والمالية والاعلام والدبلوماسية. وأدخل التلغراف نساء الطبقة العاملة في دول رأسمالية كالولايات المتحدة لدائرة سوق العمل، وغير في بعض البلدان من أساليب الكتابة، وضاعف أضعافا كثيرة من سرعة نقل الأخبار لمختلف البلدان، ونقل كم هائل من المعلومات المخابراتية فيها. ففي القرن الثامن عشر مثلا كان نقل خبر ما من أوروبا إلى الولايات المتحدة يستغرق نحو ستة أسابيع كاملة، بل وكان نقل خبر في عام 1790م من واشنطن إلى بوسطن (والمسافة بينهما تبلغ 546 كيلومترا) يستغرق نحو ثمانية عشر يوما، وتناقصت إلى نحو يومين ونصف في عام 1841م.
تم ربط العديد من الدول بالتلغراف، حيث ربطت السويس بعدن في 1856م وبريطانيا بالهند والولايات المتحدة في 1865م ، واستفادت وسائل الإعلام، خاصة وكالة رويترز من كل هذه التطورات التكنلوجية الهائلة التي غمرت العالم بين عامي 1865م و 1914م في نقل الأخبار عبر العالم وبسرعة كبيرة. ولكن لم يتأثر السودانيون ولا الصحافة السودانية المحدودة في عشرينيات القرن الماضي كثيرا بتلك الثورة التكنلوجية، إلى أن دخل التلغراف حيز الاستخدام في المصالح الحكومية، فصار الناس يتناقلون الأخبار من موظفي التلغراف السودانيين والمصريين الذين كان بعضهم يسرب بعضا من تلك الأخبار العالمية لأصدقائهم وأقربائهم. فلا عجب إذن إن كان أربعة أو خمسة من قادة جمعة اللواء الأبيض من العاملين (أو الذين سبق لهم العمل) في مصلحة البريد والبرق، ولهم معرفة معقولة باللغة الانجليزية مكنتهم من قراءة أخبار رويترز العالمية. وفي هذا سجل علي ملاسي  موظف البريد ببورتسودان وأحد قادة حركة 1924م شهادته في الاعترافات التي أدلى بها فقال: "كانت وكالة رويترز تصدر الأخبار ثلاث مرات في اليوم، وكنا نأخذ تلك الأخبار ونلخصها. كنا نعلم  منها أن الألمان فعلوا كذا، أو أن هذا الشيء أو ذاك حدث للحلفاء... وانضممنا لجمعية اللواء الأبيض في ذلك التاريخ، وكان أفراد الجمعية يتحدثون الإنجليزية فيما بينهم عندما لا يودون أن يفهم كلامهم أحدا غيرهم..."
وكذلك صار كثير من قراء الصحف المصرية على إِطِّلاعكبير بمجريات الأحداث في العالم من حولهم، إذ أن وكالة رويترز قد افتتحت لها مكتبا في القاهرة في عام 1866م.
وكذلك ساهم انتشار البريد والبرق في نقل الأخبار المحلية والعالمية على المستوى المحلي. فقد أنشأ الاستعمار نظاما للبريد والبرق في غاية الإحكام، وشمل ذلك تعيين عمال بريديجوبون مختلف أرجاء البلاد وينقلون الرسائل من قرية إلى قرية ومن مدينة لأخرى، إذ لم يكن إنشاء مكتب بريد في كل مدينة وقرية أمرا مجزيا في بلد شاسع مترامي الأطراف كالسودان. وكان بمدن البلاد المختلفة 72 مكتبا بريديا في عام 1913م زادت إلى 84 مكتبا في عام 1924م.
وكذلك ساهمت السكة حديد في نقل مطبوعات جمعية اللواء الأبيض السياسية في 1924م. وبذا كان لتوفر خدمتي البريد والبرق والسكة حديد الأثر الأكبر في نقل أفكار وأخبار وتحركات أفراد جمعية اللواء الأبيض لمعظم مناطق السودان البعيدة عن العاصمة.لم  تقتصر حملة جمعية اللواء الأبيض في عام 1924م على إرسال برقيات فقط، بل اشتملت كذلك على رسائل وبيانات ومنشورات  كان مضمون كل منها متشابها جدا ظاهريا، بَيْدَ أنه عند النظر الفاحص تتضح بعض الفروقات بينها. ففي غضون الفترة الأولى (من منتصف مايو إلى منتصف  أغسطس) اقتصرت الحملة على البرقيات، فمن مجموع ثلاثة وخمسين برقية أرسلت واحد وخمسين برقية بين يومي 15 مايو و17 أغسطس 1924م. بينما أرسلت في ذات المدة الزمنية ثلاث رسائل وستة بيانات فقط. وفي الفترة بين 17 أغسطس حتى 28 نوفمبر  بقي في أرشيف جمعية اللواء الأبيض 11 بيانا و9 رسائل و3 مقالات وبرقيتين فقط.
وينبغي التذكير بأن البرقيات كانت منظورة وظاهرة بصورة أكبر من البيانات والمنشورات والرسائل، والتي كانت توزع بصورة سرية. ولعل هذا هو ما يفسر الارتفاع النسبي في عدد البيانات والمنشورات الموزعة في الفترة الأولى المذكورة آنفا.
وكانت غالب البرقيات التي أرسلتها جمعية اللواء الأبيض قد وجهت لأشخاص عددين في بلدان مختلفة، ويمكن تصنيفيها جميعا إلى ثلاثة أنواع بحسب البلدان التي أرسلت إليها وهي مصر والسودان وبريطانيا. ووجد أنه من أصل 46 برقية تم إِرسال 25 منها إلى مصر معنونة لمؤسسات وساسة مصريين مثل سعد زغلول ونواب ووزراء والجمعيات النسوية في الاسكندرية ونقابة الصحفيين المصريين والمندوب السامي البريطاني بمصر. وأرسلت جمعية اللواء الأبيض إلى بريطانيا 18 برقية معنونة إلى عدة جهات متنوعة وشملت رئيس الوزراء البريطاني رامسي ماكدونالد ورؤساء تحرير صحف مشهورة كالتايمز والديلي هيرالد. وأما في السودان فقد تم ارسال 14 برقية أهمها تلك التي بعثت للحاكم العام ورئيس قسم المخابرات. وأرسلت الجمعية برقيتين فقط  إلى أشخاص سودانيين (أرسلهما علي عبد اللطيف إلى اليوزباشي محمد أفندي صالح جبريل  في الأبيض، وإلى أحمد عمر باخريبه في واد مدني بتاريخ الأول من يونيو من عام 1924م).
ويتضح مما سبق ذكره أن جمعية اللواء الأبيض كانت تستهدف في حملتها البريدية تلك  إيصال صوتها عن طريق البرقيات للساسة الدوليين وللصحافة المصرية والبريطانية، وكانت تعتقد أن وصول صوتها إلى الصحافة المصرية يضمن لها الوصل إلى كثير من أفراد الشعب السوداني إذ أن تلك الصحف كانت تهرب بانتظام لداخل السودان.
كانت من مزايا استخدام البرقيات كوسيلة من وسائل النضال والاحتجاج السياسي هو أنها كانت وسيلة آمنة وعملية تمكن من تجاوز وتجنب التسلسل الهرمي المكاني والاجتماعي، فكان بإمكان موظف صغير مثلا أن يرسل برقية للحاكم العام يعبر له فيها عن آراء سياسية ومظالم  شعبية، دون الحاجة أو القدرة على مقابلته شخصيا! وكان بإمكان كاتب بسيط أن يرسل برقية إلى صحيفة مصرية دون أن يتكبد مشاق السفر إلى مصر وعرض القضية هناك. ولك يكن السفر لمصر مسموحا لأفراد جمعية اللواء الأبيض، فقد حاول بعض أفراد تلك الجمعية ارسال وفد  لمصر مكون من الضابط  (النوباوي الأصل) زين العابدين عبد التام  ومحمد المهدي (أحد أبناء الخليفة عبد الله)، إلا أن السلطات ألقت القبض عليهما في وادي حلفا وأعادتهما للخرطوم.
وكان لاستخدام  جمعية سياسية كجمعية  اللواء الأبيض أسلوب بعث البرقيات  كوسيلة عصرية من وسائل الاتصال دلالة رمزية كبيرة وتبعثبرسالة  ضمنية من الأمة السودانية لمجتمع عالمي متخيل من أنها جمعية عصرية ذات هيبة واعتبار(prestige)  وتؤمن بالتقدم العلمي وتتعامل مع "الأمم المتحضرة" بأساليب العصر. ويجب النظر إلى كل هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه في عام 1924م لم يدع سوداني واحد للمشاركة في المحادثات بين مصر وبريطانيا  لبحث مسألة السودان! وكانت تلك البرقيات فرصة للجمعية لبعث رسالتها إلى مجموعات مختارة في السودان ومصر وبريطانيا في عبارات بليغة كثيفة المعاني تلخص مطالب الشعب السوداني وتطلعاته.
وفي المقابل كانت لعملية ارسال البرقيات عددا من  المحاذير (المتوقعة) في استخدام  البرقيات كوسيلة من وسائل النضال والاحتجاج السياسي منها أن ما تحويه تلك البرقيات من معلومات يبقى مخنوقا (bottlenecked)، فهذه البرقيات تمر بالضرورة بنقطتين من المرسل والمستقبل، حيث يمكن – بسبب المراقبة الأمنية- حجزها. وهي على كل حال وسيلة عالية الكلفة المالية خاصة عندما تكون هذه البرقيات مرسلة لبلدان بعيدة. ولعل وجود موظفين مصريين كثر متعاطفين مع جمعية اللواء الأبيض في مصلحة البريد والبرق  يفسر زيادة أعداد البرقيات المرسلة لمصر مقارنة بما أرسل لبريطانيا، خاصة إن علمنا أنه عمل في تلك المصلحة في أعوام 1913 – 1924م  311 موظفا مصريا من جملة 397  موظفا.    
alibadreldin@hotmail.com

 

آراء