دروب الناس
ishragamustafa@hotmail.com
لم احسب ان الفلم الوثائقي الذى اعده واخرجه الفنان المتفرد دكتور وجدى كامل وثم بثه عبر قناة الجزيرة, سيحيل ليلتي الى بحيرة من الدمع تضاهى ملوحتها عذوبة البحيرات في النمسا تلك التي عانت من حروب طويلة ومن النازية ولم تتكتم على هذه التواريخ بل جعلتها منذوره لوعى اجيالها لتقف ضد الحروب والنازية ومحارقها التاريخية. كنت افكر في هذا التاريخ حين بدأت مشاهدة الفلم متوقعة فلما وثائقيا من ذلك النوع السياسي البحت. لأول مرة رأيت السياسي مؤنسنا وهاشا للضباب الذى عتم كثيرا على تواريخنا الشقية, لأول مرة حسيت ان للسياسة قلب اسمه الانسان.
كلما دندن قطار التاريخ قديمه وجديده دندنت الدموع بموسيقى الفلم الخلفية. موسيقى الدموع النبيلة التي دثرتنى وليلى الغريب. شدتني حبال الذاكرة الى الوراء, الى سنوات بعيدة حالما رأيت لقطة عن الميناء البحري في مدينة كوستي حيث كان التنوع والتعدد ملمحا من حياتنا وهويتنا في مدينه كان لونها الانسان غض النظر عن دينه, مرجعتيه الاثنية , ميوله السياسية الخ. ادخرت ذاكرتي كل ما يؤكد على البعد الإنساني في تلك المدينة التي من على ضفافها رحل نصف القلب الى هناك... الى ظهر السودان الذى انقسم.
{بروق الحنين} فجرت انهار الذاكرة التي لم تنسى يوما مشاهد الفرح في ليالي الكريسماس واهلنا من جنوب السودان يجوبون الشوارع في كوستي بفرح, يرقصون وينشدون, ريش النعام الذى يزينهم وبحلاوة قطن افرحوا طفولتنا. وفى الحى الخلفي, في حي الرديف بكوستي كانت امسيات الجمعة تحفل بالرقص والطبل, كان قاسمنا المشترك الإفقار الذى احدثته السياسات المختلفة في السودان على مر تواريخه. وفى ايام رمضان يتقاسمون الطعام والابتسام ولم يكن يضير احدا ان انفاسهم الذكية هي اختلاط دعاش بحر ابيض و{المريسة} التي تعتبر غذاء رئيسيا لبعضهم, لم يضيرنا شيء ان يحتسونها نهارا جهارا ونبلُ عطشنا {بالحلومر}.
سمعتهم يوما يتحدثون عن الحرب, عن جيوش من الناس الطيبين ستحل بكوستي, من حسن حظى ان ذاكرة طفولتى معافاة من الالم الذى عايشته لاحقا حين بدأ الوعى السياسي يشق دروبه لا اعرف إي ظلم حاق باهلنا. كيف لأنسان ان يحس بانه درجة ثانية في بلاده؟ لماذا كانت تلك النظرة المتعالية التي مارستها السياسة السودانية على اهلنا بجنوب السودان ولاحقا بجبال النوبة والنيل الازرق؟ اعنى الثقافي وتداعياته على السياسي؟
ما زلت اشاهد في {بروق الحنين} وتلك التفاصيل الجميلة التي عايشتها في زمن باكر تسطو علىّ في هذا الليل الفيناوى والشتاء يطرق على الباب ومعه جيوش الذاكرة. لم يتناول الفلم تلك الرؤى السياسية المتباينة فحسب بل ركز على البعد الإنساني, البعد اليومي الذى عايشه كل منا في حياته. رفض الآخر, الآخر الذى هو مننا وفينا, الآخر المنفى الذى حدث نتيجة الممارسات السياسية المجحفة, منذ زمن بعيد قبل ان يرى جيلي نور الحياة.
الطريق الطويل لرحلة الالم والقهر وتناول ذلك برؤى مختلفة من الجانبين جعل الفلم يتحلى بالموضوعية, مهم ان يعلو صوت الآخر الذى تم قهره لسنوات طويلة فظل شريدا في بلده ودفع ثمن الاخطاء السياسية ونشأ ت أجيال تعرف عن دول الجوار اكثر مما تعرف عن السودان, فقط تلك الجمل التقريرية التي درسناها في المدرسة عن طقس الجنوب الماطر. غابت صورة الآخر الذى لا يتحدث العربية, ظلت امكانهم شاغرة في مقاعد الدرس. غابت وجوههم في الاعلام وفيما تردد من اغنيات وحكايات. تم تغييبهم عن مراكز القرار وهكذا وبتحليل للأرضية التي فرخت كل هذا البؤس نتاج الحرب الضروس. حرب الاهل و (قبيلة) الانسان. مات فيها الملايين من الجانبين, مات شباب غيبوا وعيهم بان الامر جهاد, جهاد من ضد من؟ سنوات طويلة من التزييف وتغييب الوعى وتغبيشه, وكما روجوا للحرب روجوا انهم رأوا الملائكة تحارب معهم, الملائكة التي عرفناها لا تحب الحرب ولكنها رسوله للسلام والمحبة. ولكم ازكمتنا تلك البرامج التي أججت للحرب, مثل ساحات الفداء, وبرنامج صباحى يزعق بها وبالكراهية والعنصرية فافسد نهاراتنا بالزعيق واقصاء الآخر, فمن منا لم تصيبه تلك {الانتباهة)؟.هي لا تختلف عن من اججن للحرب وذاد الشهيد يشهد, ولا تختلف عن شاعرة افسدت كلماتها بهدير الدبابات والمدافع. كيف لها ان تكتب والكتابة ممشوقة في فضاءات السلام والتسامح والمحبة؟
كل هذا هجم على كما هجم النمر على محمود ... النمر في قاعة المحاكم الظالمة والعدالة التي لم تنجز سوى برنامج سيأسى قام على قمع الآخر...فكيف يعتذر شيخهم ومن علمهم السحر؟.
هذا مهم مواجهته بجسارة , نفخ رماد الحروب حتى تضيء جمرات وعى جديد. الفلم كان صادما وبذلك حقق شروط انتاجه, فالكاميرا اخترقت شغاف القلوب وهى تبكى, وهى تعود الى بلاد الميلاد الاول. وبعضهم يكتشفها للمرة الاولى ولكنها ارضه حيث لن يذله فيها احد. الفلم وجسارة الكاميرا وهى تجوب فيافي الجراحات القديمة والجديدة قدرت ان تقول مالم تقله السياسة وقدرت ان تجعل الوجدان يهش غبار السنين ويرى بشفافية ما لم يره السياسيون من اول بيان والى آخر انقلاب. لحظة كتلك الحاسمة في تواريخنا يوم مرّ (المحارب من هنا)* ويوم قالت الجموع التي كان لونها ودينها وتوجهها السياسي الانسان. كانت الكاميرا تتآمر وكأنه تصر على صدمتنا اكثر لنفيق عن احداثنا الجسام التي مرت عبر تاريخنا السياسي والاقتصادي, ليس بالأرقام والاحصائيات والمنطق العلمي عن التنمية اللامتوازنة وعن حديث الثروة والسلطة والظلم التاريخي الذى يفوق النيل طولا والذى حاق بجنوب البلاد وغربه وشرقه, الهامش الذى في اطراف الخرطوم وفى قلب المدن الكبيرة ولكنها قالت عن تعقيدات العلاقات الانسانية التي لم ينتبه لها صانعي الحرب. جاء الانفصال كنتيجة حتمية للحروب والنزاعات, كانت اغلبية الاصوات لاستقلالهم عن الشمال السياسي وذاكرة لا تحملسوى الغبائن التاريخية, وحدث ولكن ماذا عن تلك الذكريات حلوها ومرها؟ ماذا عن الاسر التي تكونت؟ ماذا عن الاجيال الجديدة التي ما عرفت غير التشرد والضياع لتعود الى بلدها بذاكرة الالم والحنين المر في علاقات الجيرة , الاصحاب والعشق والتزاوج الذى تمّ.
لم تجف دموعي طيلة فترة مشاهدتي للفلم ولم اترك حبات الامل تنفرط من اصابع قلبي, لم ادع مجالا لتلك الاصوات العنصرية البغيضة التي ساهمت في ان يكون قرار اهلنا بالجنوب الانفصال لماذا الحسرة على الانفصال ولم تفعل الحكومات سوى ما يعزز له.
تلك الفرحة التي ركزت عليها الكاميرا, تلك التجاعيد التي حكت شقى الدروب والانتظار الًمر {للمحارب} الذى عبر سريعا قبل ان تجف دمعات الفرح, قبل ان يكون للسودان قلب واحد ينبض بإنسانه وتعددنا التر, ذات الكاميرا التي تلألأت مشارط الليل على حوافها واستيلا تكتب على ضىء الشموع, ودمعات مهولات تنهمر فرحة بنهاية الحرب وحزنا على نصف قلبها في شمال البلاد, تلك الورطة التي لم ينتبه لها صانعي القرارات الجائرة, ورطة الانسان حين يكن منحازا لإنسانيته متجاوزا الجراحات والالم , استيلا تصف بألم كيف دلفت الى بلد كانت فيه بالأمس القريب ضمن مواطنيه, دخلت غريبة ودخل صغارها مواطنين, ذلك الشرطي الذى ساعدها ذكرني بالجلالات القديمة قبل ان تتحول الى بوق الى الحروب التي دمرت الاخضر واليابس. لا ارمى الملامة على من هاجموا استيلا ورفيقاتها الآتي شاركن في وخزنا بإبر آلمهن, لأننا نحتاج الى زمن اتمنى ان يقصر المسافات بيننا وان نفتح تلك الجراحات لشمس الكاميرا الحارقة لنرنا في مرآة التوثيق الإنساني.
وشتان ما بين انتباهه الكاميرا وتلك (الانتباهة),
شتان ما بين ثقافة الاقصاء وبين وعى جديد ينهض من ركامات العنصرية ويشدو لأجل ثقافة سلام لابد ان تكن يوما ما
الاحداث والالام تتراكم وعبرها ينفجر وعى جديد, اراه واحسه من تفاصيل الوجوه حيث حدثتنا كاميرا د. وجدى كامل فقالت ماسكت عنه السياسي الذى قام برنامجه على اقصاء الآخر وعدم الاعتراف به, وقالت ما يشحذ الطاقات خلاقة لأجل زمن مغاير, زمن طعمه الانسان, النيل ,اشجار المانجو والتبلدى. اذن لتأخذ الفنون فؤوسها وفوانيسها وتطرق في المسكوت عنه.. ان التغيير قادم لامحالة.
*المحارب مر من هنا فلم وثائقي مميز للدكتور وجدى كامل