بزوغ نجم السيد عبد الرحمن المهدي

 


 

 


بزوغ نجم السيد عبد الرحمن المهدي                 
The Rise of Sayyid Abd Al- Rahman Al-Mahdi          
مارتن وليام دالي Martin W. Daly
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة : هذه ترجمة مختصرة لبعض ما جاء في فصل من كتاب "امبراطورية على النيل" لمؤلفه البروفيسور مارتن دالي (1950م - ). ويعد دالي، الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1977م ، والذي يعمل أستاذا بجامعة درم البريطانية ، من أشهر مؤرخي الشرق الأوسط والسودان المعاصرين ، وله عدد كبير من المقالات والكتب المشهورة عن مختلف جوانب التاريخ والسياسة السودانية ، وله عدد من المؤلفات مثل "امبراطورية على النيل" و"السودان المستعمر" و"تاريخ السودان" بالاشتراك مع ريتشارد هيل ، و"أحزان دارفور" وكتاب "صور الإمبراطورية" وغيرها. صدر كتاب "امبراطورية على النيل" في عام 1986م عن دار نشر جامعة كامبريدج.
المترجم
*************** *********** *************
بان عدم اكتراث حكومة السودان بالمهدية في عهد ما بعد سلاطين في عدم ممانعتها من قراءة كتاب الأنصار التعبدي "الراتب" الذي قام المهدي بتجميعه (وهو بحسب ما جاء في كتاب "ويسألونك عن المهدية" للسيد الصادق المهدي "ديوان للمعاني الروحية الإسلامية وجرعة مكونة من تلك المعاني لتيسير تناولها والاهتداء بها". المترجم). وفي عام 1917م كلف ويليس (وهو C. A. Willis ، والذي عمل بقلم المخابرات وعين مديرا لها في عام 1920م، وكان من مناصري ما عرف بـ "المهدية الجديدة ، وكان مستشرقا مجيدا للعربية قراءة وحديثا". المترجم) قاضي القضاة الشيخ محمد مصطفى المراغي بدراسة محتويات ذلك الراتب وإبداء الرأي الديني فيه. وأفاده الشيخ بأن الراتب ليس به ما يخالف صحيح الدين. وبناء على تلك النصحية أمر ويليس من تحته بالكف عن ملاحقة قراء الراتب أو مصادرته منهم ، إلى حين قيام الحاكم العام بوضع سياسة كلية تجاه مسألة طائفة المهدية.  
وفي عام 1921م أعلن السكرتير الإداري أن الحاكم العام لي استاك (1868 – 1924م) لم يصل بعد لحكم عام في مسألة الراتب، وأنه يترك الأمر في يد السلطات المحلية لتفعل ما تراه مناسبا حياله. ولم تكن تلك سياسة بالطبع ، بل دليلا دامغا على غياب سياسة حكومية واضحة. واكتشفت المخابرات في ديسمبر من عام 1926م وجود نسخ من الراتب تمت طباعتها في عامي 1921 و1922م، ونسخ أخرى بلغ عددها نحو 5000 تمت طباعتها بالقاهرة في عام 1924م، وتوزع علنا في الخرطوم. أما فيما يتعلق بتنظيم الأنصار، فقد وقعت الحكومة ضحية لسلوكها غير المبالى به. فقد كان للسيد عبد الرحمن، ومنذ عام 1916م، ممثلين (مناديب) ووكلاء في الأقاليم المختلفة. وعندما واجهته السلطات في عام 1921م بتلك الحقيقة، أقر بذلك دون مُوَاربة، وقدم لها قائمة بأسماء كل ممثليه ووكلائه المنتشرين في كل أنحاء البلاد ، مصرا في ذات الوقت على أنه كان قد حصل مسبقا على موافقة شفهية من ويليس ، ومن مديرى المناطق التي يبعث لها بممثليه.
وأعترف ريجلاند ديفيز (والذي خلف ويليس في إدارة قلم المخابرات، وكان من معارضي سياسة "المهدية الجديدة. المترجم) بصحة ما قاله السيد عبد الرحمن ، ولكنه كان يرى أن "حصول السيد عبد الرحمن على موافقة السلطات له بإرسال ممثلين له لمناطق معينة لأسباب حميدة لا ضرر منها على الحكومة ظاهريا ، قد جعل المسئولين البريطانيين يألفون تدريجيا وجود هؤلاء الممثلين والوكلاء في أوساط الأهالي ، رغم أنه كان من المفترض أن يواجه ذلك بأشد أنواع المعارضة لو كانت الفكرة قد قدمت لهم بفجاجة ودون إخفاء لمراميها الحقيقية". وزعم ديفيز أن تلك كانت مثالا واحدا فقط لوسائل السيد عبد الرحمن المفضلة في التعامل مع الحكومة بمبدأ "الأمر الواقع fait accompli". وما أقبل عام 1926م حتى كان السيد عبد الرحمن شخصية مبغوضة عند الحكومة، حتى أنها كانت تعزو إليه كل اخفاقاتها وعدم كِفايتها. ولم يكن عند السيد من سبب يجعله يفسر لحكومة السودان "عقابيل" نشاطاته التي سبق لها أن سمحت له بممارستها.
ولم تضع استعادة سياسة ديفيز عام 1926م تأكيدا كافيا على استخدام (أو استغلال) الحكومة للسيد عبد الرحمن والذي لم يتوقف بنهاية الحرب (العالمية الأولى).  ففي غضون عام الثورة المصرية عام 1919م، طرحت فكرة قيام وفد من علية زعماء السودان بالسفر إلى لندن لتهنئة الملك بالانتصار في الحرب العالمية الأولى ، وفي المقابل ، لقبول شكره لهم وللسودانيين لمساهمتهم المخلصة في المجهود الحربي (لمزيد من التفصيل في أمر هذه الزيارة انظر كتاب بشير محمد سعيد المعنون"السودان من الحكم الثنائي إلى انتفاضة رجب" الصادر عام 1986م ، ص 39 إلى  42 ، وكذلك المقال المترجم بعنوان "ولاء السودان : مقابلة زعماء السودان للملك"
http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-54035.htm .  المترجم
وزاد قيام الثورة المصرية من أهمية تلك الزيارة ، وسعت الحكومة البريطانية لجعل وفد الزعماء واسع الطيف متضمنا أكبر عدد من الممثلين . وفي أبريل من ذلك العام أصدر قادة أهم الطوائف الدينية بالبلاد (عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني ويوسف الهندي) والمفتي (الشيخ الطيب هاشم) ورئيس مجلس العلماء (الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم) وشيخ الطريقة الإسماعيلية بيانا أعلنوا فيه  معارضتهم لما يجري في مصر من أحداث "بالإنابة عن كل أفراد الشعب السوداني".
وجاء تشكيل الوفد الذي سافر للندن لتهنئة الملك بالانتصار أكثر شمولا ـ وذلك اقرارا ببلوغ قادة الإسلام الشعبي درجة من المساواة والتكافؤ التعاوني (collaborative parity) مع زعماء القبائل وقادة العشائر ووجهاء القوم ، وضم : المفتي الشيخ الطيب أحمد هاشم ، وأخاه الشيخ أبو القاسم رئيس مجلس العلماء، والشيخ إسماعيل الأزهري القاضي (أو مفتش المحاكم) بدارفور، وأربعة من زعماء القبائل هم عبد العظيم بيه خليفة ناظر العبابدة ، وعلى التوم ناظر الكبابيش ، وإبراهيم فرح ناظر الجعليين ، وعوض الكريم أبو سن ناظر الشكرية، إضافة للسادة عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني ويوسف الهندي.
ومن بين هؤلاء كان السير استاك شديد الحرص على إشراك السيد عبد الرحمن المهدي لأنه وبحسب ما سجل من مكاتباته "ظل دوما شديد الإخلاص (لنا) في سنوات الحرب، وفي غضون أيام المشاكل الأخيرة" وهو من يمثل "أنصاره الكثيرين في السودان". وتمنى استاك ألا يكون هنالك أي "اعتراض عاطفي" لزيارة السيد عبد الرحمن للندن ، لأن الرجل هو "دليل حي على التغير الذي يمكن إحداثه في جيل واحد من الإدارة المتعاطفة".
وعلى الرغم من أن السيد علي الميرغني كان قد نصب رئيسا لذلك الوفد ، إلا أن إبن المهدي هو من أفلح في أن يغدو المستفيد الأكبر من تلك الزيارة ، وذلك عن طريق مناورات غاية في الدهاء لاقتناص الفوائد الكامنة فيها.
 ففي حضرة الملك (جورج الخامس) قام السيد عبد الرحمن بتقديم سيف والده هدية له، وذلك إظهارا – كما يبدو- للخضوع . وقام الملك – واتباعا لتقليد ملكي تليد – بلمس السيف المُهدًى وأعاده للسيد ليحتفظ به "للدفاع عن السودان والإمبراطورية للأبد". وقيل فيما بعد إن ذلك السيف قد سخره أتباع المهدي لأغراض متباينة، ونسجت حول حادثة تقديمه هدية لملك بريطانيا اسطورة (legend) مفادها أن الملك قد أقر بقبوله الهدية بقبول السيد عبد الرحمن، وبقبول المهدية نفسها. ومهما يكن من أمر، فقد ثبت أن مشاركة السيد عبد الرحمن في ذلك الوفد كانت خطوة مهمة للأمام في مسيرة تقدمه الشخصي ، وعلى " عودة recrudescence المهدية"، بحسب عبارة المسئولين البريطانيين. وعلى الرغم من تأكيد الحكومة على أن اللقاء الذي دبر للزعماء مع الملك جورج الخامس لم يكن لقاء رسميا، إلا أنه من العسير تجاهل أن ذلك الاجتماع شكل "اعترافا" بوضع السيد عبد الرحمن لدى الحكومة البريطانية. وفي المقابل، فقد ضاعف وجود السيد عبد الرحمن في لندن من قيمة الوفد الدعائية في وقت ساءت فيه العلاقات البريطانية – المصرية، وشاب الشك والريبة الأوضاع في السودان.
وظللت سحب رمادية كثيفة من الشك والريبة وسوء الظن العلاقات بين السيد عبد الرحمن والحكومة بين عامي 1919 – 1924م بسبب سياسة الحكومة. وظل التساؤل حول السيد عبد الرحمن قائما، أهو زعيم محترم ومقدر عند السودانيين؟ أم هو دخيل متطفل interloper؟  أم دجال مشعوذ ودعى charlatan؟ أم أنه ثوري سري؟ لم تحر الحكومة لتلك الأسئلة جوابا شافيا. وهي في تلك الحالة من التذبذب والتأرجح في تحديد رأيها في السيد عبد الرحمن، آثرت الحكومة أن تستفيد من الفرص التي يتيحها لها ذلك السيد . غير أن طبيعة أنصاره وتعدد أصولهم ومناطقهم زادت من صعوبة واجب الحكومة وتحديد طريقة تعاملها معه ، وعضد في ذات الوقت من موقفه.  ففي المناطق النيلية في وسط البلاد كان الأهالي ينظرون إليه بحسبانه شيخا دينيا تقليديا ، يلجأون إليه لطلب البركة، وكان محترما حتى عند غير أنصاره باعتباره رجلا مهما ومؤثرا، ابن أبيه . أما في غرب البلاد فقد كان يراه البعض "النبي عيسى" والذي سيقوم (قريبا) بالإعلان عن هويته ، ويقيم الجهاد ضد الحكومة الكافرة. ووصف ويليس التفريق العام الذي يضعه بين "طائفة الأنصار الحديثة" و"المهدية التقليدية / القديمة" ، وهو نفس التفريق الذي عبر عنه السيد عبد الرحمن ، ولكن ليس بذات الكلمات.
ولم تكن لأحداث العنف الدينية ، والتي وقعت بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة ، أي علاقة بالسيد عبد الرحمن. بل إن سوء تدبير وتخطيط وتنفيذ من قاموا بتلك الأفعال العنيفة يتناقض تماما مع تضاعف شعبية السيد عبد الرحمن، ومظاهر الحنكة والدهاء التنظيمي الذي ظل يبديه بصورة متزايدة. ولنضرب لذلك مثالين ؛ فقد قاد محمد سانبو، وبعد أن أصيب – كما قيل – بلوثة دينية religious mania  مجموعة محتجة من أتباعه للهجوم على قلعة الحكومة في كسلا وذلك في ديسمبر من عام 1918م . وكان صد ذلك الهجوم أمرا يسيرا على جند الحكومة بسبب ضعف قدرة اولئك المهاجمين، وتم أسر محمد سانبو وقتله. وفي ربيع عام 1919م أعلن ابن أخ أو (ابن أخت) المهدي، واسمه محمد سيد أحمد، والذي كان يقيم تحت المراقبة اللصيقة في سنجة أنه "النبي عيسى". ورغم  أنه كان  مترفا فاجرا luxurious debauchee إلا أن الكثيرين كانوا يجلونه ويؤمنون بأنه صاحب قوى خارقة للعادة . وأخفقت محاولته في التمرد على الحكومة وتم وأدها في مهدها ، وأعدم في ذات العام. ورغم تلك الأحداث ، إلا أن خطر "التطرف" الأكبر كان في غرب السودان. وظهر هذا جليا بنيالا في عام 1921م، حين قامت أكبر وأخطر حركة "مهدوية" منذ عام 1908م.
وعلى الرغم من تخوف كثير من المسئولين البريطانيين في غرب السودان من احتمال قيام حركات مناهضة مهدوية للحكومة وعودة المهدية من جديد، إلا أنه لم يقع في ذلك الإقليم أي تمرد أو ثورة دينية المنشأ لسنوات طويلة . وقد وحدثت بالفعل بعض الاضطرابات المحلية، إلا أنها عدت حركات صغيرة معزولة وليست بذات شأن أو خطر . غير أن تمرد نيالا كان مختلفا جدا، لأنه كاد أن يفلح في تحقيق غرضه الآني ، ولأنه ضم عددا كبيرا من المتمردين من قبائل مختلفة.
        ففي يوم 26 سبتمبر من عام 1921م قاد الفكي المسلاتي عبد الله السحيني هجوما على القوات الحكومية ، فقتل منها 41 ضابطا وجنديا، وقتل أيضا المفتش ماكنيل والطبيب البيطري شون، ولكنه خسر في تلك المعركة 600 فرد . وانسحب السحيني من أرض المعركة بعد اصابته بجرح. غير أن بعض رجال القبائل ألقوا عليه القبض في أكتوبر من ذات العام وسلموه للسلطات البريطانية ، والتي أعدمته في نيالا في الرابع من نوفمبر 1921م. وتواصلت الاحتجاجات والاضطرابات قبيل وبعد إعدام السحيني. وهاجم نحو 2000 إلى 3000 من أنصار السحيني قوات الحكومة ، والتي صدت الهجوم وقتلت منهم 87 رجلا ، واستعادت الأمن والاستقرار في المنطقة، وصادرت أعدادا كبيرة من ماشية المتمردين (لمزيد من المعلومات حول هذا انظر الفصل المعنون "قلاقل في دارفور Trouble in Darfur" الذي ورد في كتاب هـ. جاكسون The Fighting Sudanese. المترجم).
وفي نوفمبر من عام 1921م أعلن العقيد بالفور (من قسم المخابرات) أن "أحداث نيالا" قد ظهرت فجأة هكذا دون أن يتحسب لها أحد.  وسارع المسئولون بإلقاء اللوم في ذلك التمرد على السيد عبد الرحمن بصورة غير مباشرة . وغدا "التعصب المهدوي" هو الملاذ المفضل للمسئولين لتفسير حدوث حالات التمرد على الحكومة ، عوضا عن الاعتراف بسخط السودانيين على الحكم. وأتهم روبرت سافيل حاكم دارفور السيد عبد الرحمن ببعث رسائل لأفراد بعينهم في دارفور ، وأن تلك الرسائل، وإن بدت بريئة في الظاهر ، إلا أنها أدت دورا سالبا ، وكانت تتميز بغموض جعل من السهل على البعض أن يفسرها بأنها  موجهة ضد الحاكم نفسه . وزعم روبرت سافيل أن الفكي السحيني "رجل مهدوي ظل يداوم على قراءة الراتب". وذهب ديفيز إلى أن تمرد نيالا "لم يكن حدثا مستقلا عن النفوذ المتمدد للمهدية في الغرب ...  رغم أنه يصعب استنتاج أن مبعثه كان قد أتى مباشرة من جهة الشرق".
ورغم ميل المسئولين لعزو تمرد نيالا للمهدويين، خاصة وكلاء السيد عبد الرحمن الذين كانوا يجوبون المنطقة، إلا أنه من الثابت أن الفكي السحيني لم يعلن أبدا أي ارتباط له بالسيد عبد الرحمن. ولخص ويليس في تقرير له في نوفمبر من عام 1921م أسباب تمرد نيالا في نقاط خمس ، كان من ضمنها حالة الاستياء والاضطراب التي اجتاحت العالم بأسره ، والتي لم تستثن حتى القبائل البعيدة ، وأن الرجال من كبار السن كانوا قد شهدوا في حياتهم اختفاء نظامين كانا يحكمان السودان، ولذا سهل عليهم تصور أن هذا النظام قد استنفد أيامه في الحكم، وفشو أخبار كاذبة عن نجاح تمرد نيالا، والزيادة المفرطة في "العشور" التي فرضت على ماشية بعض القبائل. وذكر قرانت مفتش زالنجي أنه تم في عام 1920م فرض زيادات ضخمة على العشور تفوق في بعض الأحايين قيمة كل ما ينتجه الأهالي من محاصيل. وسرت شائعات في أوساط المساليت بأن الحكومة عازمة على تحصيل ضرائب أربعة أعوام مجتمعة على الفور، وأنها ستفرض ضرائب على كل ما يمتلكه الرجل في بيته، ولا تستثني حتى كلاب الحراسة. ولم يخف كثير من المسئولين البريطانيين قناعتهم بأن المفتش ماكنيل، بسوء إدارته للمنطقة ، يتحمل جزءا كبيرا من أسباب قيام تمرد نيالا.
وقدم السير استاك (بصفته سردارا) تقريرا للسلطان فؤاد ألقى فيه باللوم في حركات تمرد غرب السودان على قبائل البقارة والفلاتة والمساليت . وأنحى أيضا باللائمة على سياسة إدخال نظام إدارة أكثر انغلاقا أدى لإيقاظ ما كان كامنا من مشاعر الاحتجاج عند الأهالي". فلم يكن من الحكمة – في نظره –  فرض ضرائب باهظة ، وتقديرها بطريقة مباشرة دون توفر العدد الكافي من الموظفين لتنفيذ تلك السياسة، ودون وجود عسكري مسلح يمكنه تثبيط أو ردع أو منع أي محاولة رد فعل من الأهالي، لا سيما في منطقة يعد فيها التمرد على سلطة (مركزية) بعيدة نمط حياة، وهو ما شجعته حكومة السودان نفسها قبل أعوام قليلة في صراعها ضد السلطان علي دينار .
واعترف روبرت سافيل حاكم دارفورنفسه (وهو من عتاة المعادين للمهدية) لخاصته بأن هنالك أسبابا أبسط لتفسير تمرد نيالا غير "مكائد" السيد عبد الرحمن. وذكر تحديدا أن سبب القلاقل يكمن حقيقة في الضرائب الباهظة المفروضة، وإطلاق سراح الرقيق من "سادتهم"، وصراع الحدود بين المساليت والهبانية. وذكر سافيل سببا آخر لقلاقل دارفور وهو حدوث الطاعون البقري الذي قضى على غالب ماشية القبائل في المنطقة.  فقد أورد سافيل في تقريره لعام 1921م أن قبائل جنوب دارفور  فقدت كل ماشيتها نتيجة للوباء الذي عم المنطقة، بينما بقي للرزيقات ثلث ما كان عندهم من ماشية ، ويذهب إلى أن فرض ضرائب على السكان في حالة العسر تلك لم يكن أمرا حكيما البتة. ووفر ذلك الوباء فرصة للمتطرفين الدينين ليشيعوا بين الأهالي أن ذلك الوباء الذي قضى على بهائمهم إنما هو عقاب إلهي وقع عليهم لنسيانهم دينهم، ولتعاملهم مع الكفرة . وبذا ينضم سافيل لزمرة من رأى أن لتمرد نيالا سببا دينيا قويا، وأن السحيني ليس متمردا (أو ثائرا) شعبيا، بل هو مجرد مهرطق متعصب. وذكرت الحكومة في تقاريرها عن قلاقل دارفور كل سبب ممكن عدا الاعتراف بأي خطأ لها في معالجة المشكلة. بل وذكرت أسبابا لا تخلو من غرابة . فقد عزت في بعض تقاريرها حدوث حركات التمرد بدارفور إلى سقوط الخلافة العثمانية ، وإلى القومية / الوطنية المصرية ، وإلى السنوسية ومؤامرات الفرنسيين معهم ، بل وإلى البلشفية!
خلصت الحكومة أخيرا، بعد إخماد تمرد نيالا، إلى أن السيد عبد الرحمن ليس له يد في "الشكل العيسوي messianic form " للتمرد الذي وقع، إذ لم يثبت عن السحيني أي ولاء سابق لإبن المهدي. وعدت الحكومة "المهدية المنظمة" تيارا واحدا فقط في نهر جار يحاول السيد عبد الرحمن توجيه مجراه لمصلحته الشخصية. وجاءت  لذلك بمثل واحد هو "الهجرة" إلى الجزيرة أبا . فقد سمحت الحكومة البريطانية في عام 1908م (أي قبل سنوات من مغادرة سلاطين للبلاد) للسيد عبد الرحمن بالزراعة في الجزيرة، وكانت تلك السياسة هي إحدى وسائل الحكومة لشغل السيد عبد الرحمن عن الخوض في الأمور السياسية. واتسعت في غضون سنوات الحرب العالمية الأولى مشاريعه الزراعية في أبا اتساعا كبيرا. ولاحظت الحكومة في سنة 1918م تزايد أعداد زوار الجزيرة أبا. وفي شهر رمضان عام 1921م تجمع فيها من أنصاره خلق كثير. وأبدى كثير من المسئولين قلقهم مما كانوا يلاحظونه. غير أن ويليس سارع بالتقليل من أهمية تلك التجمعات. كان غالب أولئك من قبائل غرب السودان وأفريقيا، وبقي كثير منهم بالجزيرة أبا، وانتقلت أعداد منهم إلى مناطق الزراعة في الجزيرة وعلى ضفاف النيل الأزرق.
وكانت الهجرة للجزيرة أبا محض مظهر للسهولة واليسر التي تمددت بها المهدية في غرب السودان.  وكتب حاكم كردفان في تقرير له أن "العقيدة المهدوية لم تكن معروفة في شمال دارفور في عام 1916م، ولكن ما إن حل عام 1922م حتى كانت تلك العقيدة قد انتشرت وثبتت قاعدتها في أوساط السكان، خاصة البقارة". وقام وكلاء السيد عبد الرحمن بتعيين أئمة لهم في مختلف قرى المنطقة. وصار سكان تلك القرى ينظرون إلى اولئك الأئمة (وليس لشيوخ قراهم التقليديين) باعتبارهم قادتهم في شئون دينهم ودنياهم. وأزعج ذلك التحول ، الذي أضر بالنظام القبلي tribal discipline ، المسئولين المحليين فأوعزوا للحكومة لتصدر أمرا رسميا في مارس من عام 1923م للسيد عبد الرحمن بسحب أو عزل وكلائه في دارفور وكردفان ومناطق بقارة سليم (بكسر السين) في مديرية النيل الأبيض. وكما هو متوقع ، لم يكن لذلك الأمر الرسمي كبير تأثير .
وفي مايو من ذلك العام حذر ويليس مدير مديرية جبال النوبة من أن مخابراته قد رصدت حالة من الهياج والحماس عند البقارة في المنطقة لدعوات الجهاد التي يتوقع أن يقوم بها رجال الدين الذين بعث بهم السيد عبد الرحمن، والذين كانوا يبثون أيضا "اشاعات غريبة outlandish rumors" في أوساط الأهالي. ومن هؤلاء ذكر ويليس الشيخ الكبير إبراهيم الترجماوي (والذي كان من ضمن من أسروا من رجال المهدية مع عثمان دقنة . انظر مقال الأستاذ حسن دفع الله المعنون "السجناء السياسيون في وادي حلفا". المترجم). فبعد إطلاق سراح الرجل من الحبس في وادي حلفا عام 1916م ، شوهد  في غرب السودان وهو يصف البريطانيين للأهالي بأنهم "دجالين" و"أعداء المسيح"، ووصف السيد عبد الرحمن بأنه "النبي عيسى"، بل وتنبأ بأن السيد سيعلن ذلك في يوليو عام 1924م. وتم إلقاء القبض على الشيخ الكبير ورحل لأمدرمان ليقضي ماتبقي من عمره مع أقاربه هنالك . وكان هنالك آخرون مثل إبراهيم الترجماوي يزيدون من حالة التوتر في المنطقة.
وفي أحد أيام الأعياد من عام 1923م تجمع ما بين 5000 إلى 15000 من أنصار السيد عبد الرحمن في الجزيرة أبا. وأثار ذلك التجمع مخاوف الحكومة السودانية ، فتم على عجل استدعاء السيد عبد الرحمن للخرطوم ، وأمر بفض ذلك الجمع على الفور. وتم منع الهجرة إلى الجزيرة أبا، وتحويل طريق القادمين من غرب السودان وأفريقيا في طريقهم لأداء فريضة الحج لطرق رئيسة محددة . وعند وصوله للخرطوم استجوب ويليس السيد عبد الرحمن، والذي عبر، كما كان يفعل دوما، عن نواياه الطيبة، وعن جهله بما تريد الحكومة، ونفى بأقوى العبارات الشائعات التي أطلقها البعض من أنه "النبي عيسى"، ونسبها إلى منافسيه السيدين يوسف الهندي وعلي الميرغني. وقال إن طماحه الوحيد هو أن تعترف به الحكومة زعيما دينيا يتبعه من يرغب من الأهالي. وذكر ويليس بإخلاصه للحكومة والذي عبر عنه خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1919م، وعن استعداده لبذل المزيد في هذا الجانب. غير أنه لن يستطيع السيطرة على الأهالي في غرب السودان إن منع من الوصول إليهم، و سمح للشائعات الضارة بالانتشار وسطهم.
وزعم ويليس أن السيد قد "انكفأ باكيا وهو يعزو كل ما تنسبه له السلطة لتدبير أعدائه". وبعد أعوام من ذلك اعترف مدير مديرية النيل الأبيض بأن أهمية التجمع الذي حدث يوم العيد في عام 1923م بالجزيرة أبا قد تم تضخيمه ، إذ أن المعلومات لم تأت من الجزيرة نفسها ، بل من الخرطوم!
وكان هنالك أكثر من سبب لإلقاء السيد عبد الرحمن باللوم على السيد علي الميرغني باعتباره من يبث عنه الشائعات ويسيء سمعته عند البريطانيين.  فمنذ "الانقلاب" الذي قام به السيد عبد الرحمن أمام الملك جورج الخامس عام 1919م، بدأ السيد علي الميرغني يتوجس خيفة من صعود نجم السيد عبد الرحمن ، ويحس نحوه بقلق وشك متعاظمين. وفي حوالي عام 1921م كان السيد علي يشتكي للمسئولين البريطانيين من أنهم ما عادوا يعاملونه إلا كـ " الأول بين أنداد The first among equals "، وكل هذا بسبب سياسة الحكومة المضللة (misguided) تجاه المهدية. وتجاوز الخلاف العميق بين السيدين مجرد التنافس الطائفي إلى عداء وراثي وشخصي. كان أحدهما رجلا فصيحا واجتماعيا، بينما كان الآخر صموتا ومنطويا على نفسه. وكان السيد عبد الرحمن يتحدث بفيض من الحيوية والحماسة في طيف واسع من الموضوعات المتنوعة ، بينما كان زعيم الختمية يغلف أفكاره في حكم وأمثال قليلة لا يمكن النفاذ إلى مضمونها. وبالنسبة للبريطانيين كان أحدهما "يشغل حيزا أكبر مما يجب فى محيطه"  فيما يبدو الآخر وكأنه "يمشى القهقرى على خشبة المسرح". وكان المسئولون البريطانيون يحتارون عند مقابلة أي من السيدين ، إذ كانوا ، على نحو شخصى، يفضلون ابن المهدي الداهية الودود على الميرغني المخلص المتحفظ .  فبالإضافة لاختلافهما في شئون الدين والسياسة ، كانت شخصيتاهما مختلفتين جدا، ولم تنته المنافسة بينهما إلا بوفاة السيد عبد الرحمن عام 1959م.
ووصفهما أحد المسؤولين البريطانيين بأنهما " بأسلوبيهما المختلفين سياسيان يمتازان بالذكاء والحذر والحرص. ولو قدر لهما التمتع بموهبة الرسم لجاءت لوحاتهما متباينة جدا عن بعضها . فالسيد عبد الرحمن كان سيرسم لوحة زيتية  كبيرة ، رائعة وغنية بالألوان، بينما سيكتفي السيد علي باستخدام قلم الرصاص لعمل رسم صغير ومحدد ولا تعبير فيه". ولعب ذلك العامل الشخصي في العلاقة المتوترة بين السيدين دورا كبيرا في السياسة السودانية (نذكر هنا ما عرف بـ "لقاء السيدين" في ديسمبر 1955م ، والذي أنهى رئاسة إسماعيل الأزهري للحكومة، واستبدله بحكومة يسيطر عليها السيدان سيطرة كاملة. المترجم). وكان كريق مدير مديرية كردفان قد قابل السيد على الميرغني عام 1924م، وسجل في تقريره عن تلك المقابلة  أن "هاجس السيد علي الأوحد هو الكره الشديد للسيد عبد الرحمن وكل أعماله ... فهو يؤمن ايمانا قاطعا بأن السيد عبد الرحمن يسعى جادا ليغدو ملكا على السودان. وقد أخبرني بصراحة بأنه يفضل المصريين على سودان يحكمه السيد عبد الرحمن ملكا".
 تعرض الحكم البريطاني للسودان في عام 1924م لأول معارضة علمانية له. وكان على الحكومة الحصول على تأييد صفوة القيادات التقليدية لها ضد القوى العلمانية المتمردة عليها. وهنا أبدى السيد عبد الرحمن صداقته واخلاصه للحكومة. و برز التناقض في موقف الحكومة من المهدية ، وممثلها السيد عبد الرحمن ، فكان عليها إما القبول به باعتباره قوة سياسية، وربما كان خطرا، ولكنه حليف مجرب ، أو القضاء عليه قضاء مبرما.
        ظل ويليس مدير المخابرات يدحض اتهامات المسئولين البريطانيين له بالتساهل مع النشاط المهدوي في غرب السودان، ويكرر أن المهدية قد تغيرت، وأنه قد تم القبول بقائدها السيد عبد الرحمن زعيما روحيا دون أن يكون رجلا ثوريا. ومرت بعض السنوات قبل أن يرضخ كل رجال الحكومة لهذا الرأي. ووجدت الحكومة نفسها في موقف لا تحسد عليه، مرغمة على الاعتماد على عون وسند رجل يظن أنه ينتظر (أو حتى يخطط) لتدميرها، غير أنها وجدت  حلا لهذه المعضلة . فقد أفضت المهدية إلى تآكل السلطة القبلية ، إلا أنها كانت في أضعف حالاتها في المناطق التي لم يتأثر فيها التماسك القبلي سلبا.   
 
 

 
alibadreldin@hotmail.com

 

آراء