“بولتيكا” النظارة وأحداث العنف في ولاية النيل الأزرق (2-2)

 


 

 

(أتوقف هوناً هنا عن متابعة نشر تقييمي لشهادة الرائد (معاش) عبد العظيم عوض سرور عن مذبحة بيت الضيافة (1971) لأدلي بوجهة نظر في محنة ولاية النيل الأزرق)
ربما كان الصدام الدموي المؤسف الذي وقع في الأسبوع الماضي بين جماعة وصفت نفسها بسلطنات الفونج (الهمج والبرتا وغيرهما) ضد جماعة الهوسا في ولاية النيل الأزرق بجنوب شرقي السودان هي مرتنا الأولى التي تأتي فيها الحكومة ب"عظمة النزاع" في الواقعة المضرجة. فقال بيان حكومة الولاية إن الخلاف شب لدي مطالبة الهوسا ب"نظارة" وهي أعلى الرتب قاطبة في نظام الإدارة الأهلية في السودان كما سيأتي. وزاد البيان بقوله إنه تعذر الاستجابة للمطلب لأن النظارة غير مأذونة شرعاً لمثل الهوسا التي تقيم في دار آخرين هم شعب السلطنات. وأضاف أنه صدر أمر من وزارة الحكم الاتحادي من قريب يسد الباب في وجه كل مطالب به. وبالطبع أزعج مطلب الهوسا في حد ذاته شعب السلطنات، فاحتجوا عليه، وصعدوا استنكارهم له إلى حد المواجهة الدموية بنطاقها الواسع إقليماً بعد إقليم في البلد وضحايا.
كانت النظارة من وراء أكثر نزاعات الريف تكراراً بين أهله ودموية. ولكن تواضعت البيروقراطية والصحافة في السودان على دمغ النزاع حولها بأنه "نزاع قبلي" بغير تعيين لبواعثه كما فعل بيان ولاية النيل الأزرق هذه المرة. ونقول بالدمغ بدلاً عن الوصف لأننا بالدمغ نبتعد عن العلم بحقائق بولتيكا النظارة، ونمتثل لنزاعاتها كأمر واقع لا عاصم منه. فنجعل من حقيقة اجتماعية وتاريخية كالنظارة حقيقة طبيعية شعواء لا نملك معها صرفاً ولا عدلا. وظللنا نلاقيها، طالما بقيت حقيقة طبيعية فينا، بالطقوس. فتدعو الحكومة إلى مؤتمر للصلح بين الطرفين يلعن الجميع فيه "مثيري الفتن"، ويتعهد الأطراف بسد الفرج دونهم. إلى حين. وتلقاه صحافتنا تنعى تعاقب دوراته علينا بما تستعيد به مجاز "داحس والغبراء" بينما أهل الحكم في شغل عنه.
لم ينجح تعيين ولاية النيل الأزرق للنظارة ك"عظمة النزاع" في الصدام الذي وقع فيها في أخذ فكرنا إلى بنية العنف هذه في نظام الإدارة الأهلية. فسرعان ما تجاوزها الكاتبون بمد أصبع الاتهام إلى من استغلها لمآربه الخاص. ولن تعدم بالطبع مستغلاً لمثل هذه البنية ما وجُدت. فأخذت جماعة من المعلقين النخب السياسية بالشدة لاستغلالها موضوع النظارة تسترضي بها من طلبها لتكبير كومها. وخص آخرون بالذكر من كان من هذه النخب من وراء هذه الفتنة الأخيرة. فحملوا وزرها للسيد مالك عقار زعيم جناح في الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال). وهو الجناح الذي تسود جماعته في حكومة الولاية لتوقيعها اتفاق سلام جوبا بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة في 2020. وهذا الجناح مع ذلك قليل النفر في الولاية. فقد جرده خصمه السيد عبد العزيز الحلو من تابعيته بين جماعات السلطنات. وقيل إن عقار أراد تعزيز صفه المتآكل بالهوسا يغريهم بمطلب النظارة.
بدا مما نقرأ للمعلقين على صدام النيل الأزرق، مهما قلنا عن انتهاز النخبة السياسة لسانحته، انصرافهم عن موضوع الصدام الذي في بنية الإدارة الأهلية إلى من انتهزه لغرضه. ولا جديد في انتهاز الصفوة إغراء النظارة للكسب السياسي. فهذا الانتهاز خصيصة جوهرية في سياسات الدولة خلال حكم الرئيس المخلوع حسن أحمد البشير. فكان منح نظامه النظارات ل"التبع" مقابل البيعة السياسية له، وبرغم أنف أصحاب الدار، بعض شرار حربه في دارفور. ولم تخل حتى الفترات الديمقراطية من مناورات بالنظارة بين الجماعة الريفية وحزبها الحاكم.
ما يغيب عنا ونحن لا نرى من بولتيكا النظارة إلا استغلالها بواسطة سياسي مغرض أن المطلب بها حق قبل أن يكون مادة تغري صفوة الحكم طالب هذا الحق به. فخلو الطرف من النظارة واقع تعيشه جماعات ريفية كثيرة. وهو واقع مهين كما تقدم حتى عده من خرج منه "تحريراً". وهو واقع تريد هذه الجماعات الخروج منه إلى رحاب عز. وبعبارة أخرى، فهذه الجماعات ليست غشيمة يستدرجها صفوي ماكر لحق أضربت هي عن طلابه. فيكفي أن قبيلة مثل اللحويين في شرق السودان لم تكل من المطالبة بالنظارة، أو تمل، منذ أوائل القرن العشرين لتنالها في 2019. وبرغم التعتيم على "عظم النزاع" في صدامات الريف إلا أنه من المؤكد أن الجماعات التبع هي نفسها من تنتهز سانحات السياسة الوطنية والإقليمية لتدفع بمطلبها بالنظارة في السوق السياسي لمشتر مغرض من النخبة. فالحركة في شارع بولتيكا النظارة ذات اتجاهين. فانتهزت جماعة الكواهلة في منطقة أبو دليق بولاية الخرطوم، سانحة التعبئة "القبلية" التي قام بها المجلس العسكري لتعزيز موقفه في وجه قوى الحرية والتغيير خلال مفاوضاتهما في 2019 لتعرض على قادته صفقة الوقوف بجانبهم لقاء منحها النظارة. وكان للصفقة تداعيات أمنية في ولاية الخرطوم عاصمة البلاد نفسها.
لا نريد بالتشديد على التوقف عند النظارة كبنية عنف في الثقافة السودانية إعفاء النخب الحاكمة من وزر مقاتل استغلالها وجراحه كما في النيل الأزرق وغيرها كثير. ولكن التركيز الصرف على انتهازية هذه النخب يحجب عنا فهم أميز للإدارة الأهلية كبؤرة عنف. فلا يُخضع من ركزوا على انتهازية النخبة الإدارة الأهلية لمساءلة عن العنف المؤسسي في تشريعها. ولن تجدي إدانة هذه النخب لانتهازيتها فتيلاً طالما بقيت الإدارة الأهلية بمواطنتيها في بلد واحد: مواطنة أولى لصاحب الدار ومواطنة ثانية للضيف عليهم. ومتى استصحبنا سياسات النظارة كبنية عنف مؤسسي لا مجرد "جزرة" سياسية لإغراء أطراف التبع انتقلنا من ذهن المعارض إلى ذهن الحوكمة، أي الإصلاح لنظمنا مستعاناً عليه بالتشريع. والأناة فيه.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء