خرج على الناس، في صباح 29/1/2018 بيان صادر من السلطة القضائية، يحمل توقيع الناطق الرسمي بإسم السلطة القضائية مولانا خالد حمزة زين العابدين. هل تحتاج السلطة القضائية لناطق رسمي يعبر عن رأيها؟ السلطة القضائية كسلطة لا رأي لها إلا فيما يمسها كسلطة مستقلة، ويمثلها في هذا رئيس القضاء ونوابه، ولكنها لا رأي لها في الشؤون العامة. فالسلطة القضائية يلجأ إليها الجميع بما فيهم أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية والأفراد للفصل فيما يشجر بينهم من خلاف. وهذا يتطلب منها أن لا تبدي رأياً في مسألة يُحتمل أن تُعرض عليها حتى تحتفظ بإستقلالها وحيدتها. السطة القضائية منوط بها أن تطبق القانون، ولكنها لا تفعل ذلك كهيئة، وإنما تقوم بها محاكمها المختصة، وفقط حين تُعرض عليها مسألة تستلزم ذلك في خصومة قضائية، أو في حالات نادرة حين يمنحها القانون سلطة تفسيره في إجراءات خاصة. إذا فلا حاجة للسلطة القضائية أصلا لتوجيه خطاب للجمهور أو لأقسام منه. صحيح أن للسلطة القضائية حاجة للتواصل مع السلطتين التنفيذية والتشريعية ولكنها تفعل ذلك عن طريق قيادتها أي رئيس القضاء ومن يفوضه من نوابه وذلك ضمانا لحيدة وإستقلال السلطة القضائية، وهم يقومون بذلك التواصل في شكل مختلف تماماً عن أشكال البيانات المنشورة في الصحف.
البيان في مظهره ومخبره ليس عاديا وليس مطلوباً، ولو وقف الأمر عند هذا الأمر لكفاه ضرراً، ولكنه يهدد بخطورة شديدة بالنسبة لأثره السلبي على إدارة العدالة. وتأتي خطورة المسألة في أن البيان لا يتحدث عن رأي مولانا خالد حمزة زين العابدين، ولو كان لما خلا من المشاكل. بل يتحدث بإسم السلطة القضائية في مسألة عامة تتناول الحريات العامة وهو أمر يثير العديد من المشاكل.
القاضي وشبهة التحيز
بالنسبة للقاضي الفرد فإن طبيعة عمله، تتطلب منه أن يكون محايداً وغير متحيز لطرف من الأطراف. القضاة ليسوا مثل معظم المواطنين الآخرين فلهم وضعهم الخاص، ويمارسون سلطات خاصة. وهذا الوضع وهذه السلطات تؤثر حتما على ما يمكن لهم، وما ينبغي عليهم أن يفعلوه خارج عملهم القضائي. ومن الإعتبارات الهامة التي تحكم ذلك، ما تفرضه طبيعة عملهم والتي تقوم على الفصل في الخصومات، من ضرورة أن يحافظوا على حيادهم، ليس فقط كحقيقة موضوعية، بل على الأخص، على حيادهم في نظر الجمهور. لأنه بمجرد أن يكون الموقف من شأنه أن يجعل المراقب العادي في حيرة من أمره، فيما يتعلق بالحياد الصارم للقاضي في المسائل المعروضة أمامه للفصل فيها، فإن ذلك من شأنه أن يؤثر سلباً على ثقة الجمهور في القاضي.
تنص القاعدة الثامنة عشر من قواعد سلوك القاضي الاسترالية، على أنه " من المصلحة العامة أن يشارك القضاة في حياة المجتمع، وشؤونه، حتى يظلوا على تواصل مع المجتمع ويحق لهم ممارسة الحقوق والحريات المتاحة لجميع المواطنين، ومن ضمنها الحق في التعبير. ولكن من الناحية الأخرى فإن منصب القاضي يجلب معه بعض القيود وبقبول التعيين في المنصب يوافق القاضي على قبول تلك القيود".
في دعوى مجلس مدينة نيوكاسل ضد ليندساي ، تم الدفع بواسطة أحد الأطراف برد القاضية بسببب التحيز لأنها نشرت مقالاً علقت فيه على أحكام محكمة استئناف نيوساوث ويلز حول مسؤولية السلطات العامة عن الحوادث على الطرق السريعة والمسارات العامة، ذكرت فيه أنه من الصعب التوفيق بين أحكام المحكمة وبين قرارات المحكمة العليا". إستند الدفع على أن القضية تقوم على ادعاءات بإهمال مجلس محلي في المنطقة التي كتبت عنها القاضية. قررت القاضية أن مقالها يظهر أنها لا تملك "عقل خال" تجاه موضوع الدعوى، ولكنه لا يظهر أنها لا تملك "عقل مفتوح"تجاهه. وقد أيدت محكمة االستئناف قرار القاضية برفض ادعاء التحيز بسبب أن مقالاتها عبرت عن "انتقادات خفيفة" لقرارات الاستئناف الأخيرة، ولكنها لم تستخدم لغة "تعبر عن رأي متشدد أو متخندق ضدها " ولم تعبر عن رأي مؤيد لأي طرف من الأطراف في مثل هذه الدعاوي. ورأت محكمة الإستئناف أن اللغة المعتدلة والتحليل المتوازن للقاضي يجعلها تقرر أن ذلك التعليق لم يكن حتى قريبا من الدرجة المطلوبة من الحكم المسبق لتأسيس التخوف من التحيز
السلطة القضائية وتفسير القانون
وأول ما يتطلب من القاضي حين يتعرض لقانون، وتفسيره، ومدى صحة تطبيقه، خارج عمله القضائي، أن لا يحاول أن يُكسِب رأيه ثقلا من واقع منصبه القضائي. وهذا ما أوضحه السيد رئيس القضاء الأسترالي "جليسون" حين ذكّرالقضاة بأنه حين يكتبون في مسألة عامة بصفتهم الشخصية عليهم أن يوضحوا أنهم يتحدثون بصفتهم الشخصية، لأن "الاحترام والوزن" الذي تحظي به الآراء التي يعرب عنها القضاة، هو إحترام أساسه "الفهم السائد في المجتمع والذي يربط بين ما هو قضائي، مع ما هو غير متحيز "، واستمر قائلا "القضاة كمواطنين لهم الحق في حرية التعبير،وقد تكون هناك ظروف يكون فيها من واجبهم أن يتكلموا ضد ما يعتبرونه ظلم. ولكن أن يستخدموا سلطة القضاء دعما لقضية ما، قد يقوض الأساس الذي تقوم عليه هذه السلطة.
Chief Justice Murray Gleeson,The Rule of Law and the Constitution (ABC Books, 2000) 129
ولكن مولانا خالد يتحدث بالفعل بإسم السلطة القضائية، وهو ما يجعل القضاء بأسره مدافعاً عن رأي معين في مواجهة كل من يحمل رأياً مخالفاً، وذلك في حد ذاته مخالف لأسس العمل القضائي. فالسلطة القضائية أولا ليس لها رأي موحد في المسائل ذات الطبيعة العامة، وإن جاز لأفرادها أن يكون لهم مثل ذلك الرأي، ولهم الحق قي أن يعبروا عن ذلك الرأي وفق شروط معينة، أولها أن يكون ذلك بصفتهم الشخصية وليست نيابة عن السلطة القضائية. فالقاضي ليس طرفاً في أي مجادلة بصفته القضائية، وإن جاز له أن يدخل بصفته الشخصية في أي جدل يرى أنه يستحسن أن يعبر عن رأيه فيه، ولكنه يجب في هذه المسألة أن يكون واضحاً في أنه يعبر عن رأيه الشخصي من ناحية، وهذه مسألة لا خلاف حولها، وأن لا يكون ذلك الرأي من ناحية أخرى من شأنه أن يجعله منحازاً لأحد أطراف العمل السياسي، ولا أن يضعه في موقف يفقده حياده إذا عرضت عليه المسألة في خصومة قضائية. وإذا كان من الأهمية بمكان ألا يعتمد القاضي حين يدلي برأيه الخاص في نقاش خارج إطار عمله القضائي على منصبه ليمنح ذلك الرأي وزناً بسبب إرتباطه في ذهن الجمهور بحيدة القضاء، فإن الحديث بإسم السطة القضائية لإبداء الرأي في مسألة عامة يجوز أن تعرض أمام القضاء للفصل فيها، تصبح خطورته أبعد مما يمكن أن تصفه الكلمات. إذا كان الموقف الحاد الذي يأخذه القاضي الفرد قد يجعله غير مؤهل للفصل في خصومة قضائية معينة، فما بالك وقد إتخذت السطة القضائية بأكملها رأيا حادا في مسألة قد تعرض لها في خصومة قضائية وهي على درجة كبيرة من الأهمية كما سيظهر لنا.
ما هو الهدف من البيان
جاء في البيان مايلي:- "لعل المتابع للإعلام قد لاحظ أن ثمة ظاهرة قد استجدت في وسائل الإعلام المقروء وهي تناول أحكام القضاء بلاذع من القول تجاوز متون الأحكام ليطال القضاة أنفسهم. وقد ظلت إدارة السلطة القضائية تراقب الأحداث في صمت ، غير أن ذلك الصمت قد أغرى بالمزيد ، وظن من يكتب و يسئ أنه يمارس حقه ولا رقابة عليه في ذلك بل أن الصحف قد أترعت بنشر و تناول الأحكام القضائية ولما تزل قيد النظر أمام المحاكم الأعلى و نوضح في هذا السياق أن تناول الأحكام والتعليق عليها خلال سير المحاكمة أمر محظور بموجب المادة 26/1 هـ من قانون_الصحافة والمطبوعات لسنة 2009م أما القضاة فقد اصبحوا اغراضا لسهام الذين حالت الأحكام بينهم وبين ما يشتهون"
والبيان في مجمله يهدف لأمرين الأول هو منع الإعلام من التعليق على أحكام المحاكم خلال سير المحاكمة، أو أثناء نظرها أمام السلطة الإستئنافية، والثاني هو منع التعرض للقضاة بلاذع القول. غني عن البيان أن المسألتين هما من المسائل التي قد تعرض على المحاكم في خصومة قضائية.
حسم مسألة قضائيا خارج نطاق العمل القضائي
بالنسبة للإشارة للمادة 26 (1) (هـ) فإنها إشارة تحمل كثيراً من المتاعب، فالمادة نفسها مثقلة بالشك في دستوريتها، ورغم ذلك فإن البيان أضاف لها ما ليس فيها، فذكر أنها تحظر تناول الأحكام القضائية، وهي لا تفعل ذلك، بل تحظر فقط التعليق عليها. ولم يكن في الأمر مشكلة لو عرض مولانا خالد حمزة هذا الرأي بإسمه في ورقة علمية، أو مجلة قانونية، ولكن المشكلة تأتي بأن هذا الرأي جاء في بيان بإسم السطة القضائية وموجه للجمهور، ألا يعني ذلك أن القضاء هو على قلب رجل واحد في إدانة كل من يتناول الأحكام أو يعلق عليها إلا بعد الفصل فيها بصفة نهائية؟ وهذا يعني أن قراراً قضائياً قد إتخذ خارج ساحات المحاكم، بغض النظر عن صحته، فما هو السبيل للطعن فيه؟ أنا لا أعتقد أن ما حمله البيان من الناحية الموضوعية صحيح. بل إنني أرى أن التعليق على أحكام المحاكم قبل صدور الحكم النهائي فيها إذا كان يستهدف الصالح العام هو عمل لا غبار عليه، وهو ممارسة صحيحة لحق دستوري، فهل يا ترى ما زال هنالك جدوى من إثارة ذلك في خصومة قضائية؟ عندما يتحدث القاضي خارج عمله القضائي فإن ذلك يحمل خطورة الإعتقاد بأن هذا الرأي الذي تم التعبير عنه سيتم تطبيقه في أي دعوى ينظرها القاضي متعلقة بذلك الأمر، فما بالك إذا كان القاضي لا يتحدث عن رأيه الخاص بل يتحدث عن رأي السلطة القضائية، هل يعني ذلك أن السطة القضائية عن بكرة أبيها قد حسمت أمرها وقررت أن تناول أحكام القضاء قبل صيرورتها نهائية يخالف المادة 26 (1) (هـ) من قانون الصحافة والمطبوعات ويعرض صاحبها للعقاب بموجب ذلك القانون؟ وماذا عن دستورية المادة؟ هل حسمت السطة القضائية عن بكرة أبيها هذه المسألة، وهي لم تتم إثارتها بعد أمامها؟ وهل يحل ذلك البيان محل سابقة نهائية صادرة من المحكمة العليا يقضي بذلك. فلنتناول هنا مسألة دستورية تلك المادة لنر كيف تدخل البيان في مسألة هامة ما زالت تحتاج للحسم بواسطة قاضٍ جالس في المحكمة، يمارس إختصاصه القضائي، في مسألة عرضت عليه بتلك الصفة.
دستورية القيود على النشر الصحفي
" من المؤلم أن يجد شخصاً قضى عمره في خدمة الناس،أنه من المتعين عليه أن يفقد راحة باله لأن شخصاً ما قرر أن يحاكمه في صحيفة، ولكن للأسف لايوجد علاج لذلك الشر. فحريتنا تعتمد على حرية الصحافة، والتى لايمكن أن نحد منها دون أن نفقدها كليةً" جيفرسون
المادة 126 (1) (هـ) تحظر النشر في مسائل معينة وهي بذلك تضع قيود على على حرية الصحافة والتي تلزم المادة 39 فقرة 2 من الدستور الدولة بفروعها الثلاث بأن تكفلها وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي. والتنظيم لا يجوز أن يصل إلى مصادرة حرية الصحافة أو الإنتقاص منها (م 27 (4)) من الدستور.
مسألة التعليق على القضايا قيد النظر، تحكمها في المجتمعات الديمقراطية نظرتان ففي حين يأخذ القانون الإنجليزى موقفاً متشدداً من مسألة التعليق على الإجراءات القضائية، نجد ان القانون الأمريكي القانون أقل تشددا. المسألة تقع بين حقين الأول هو الحق في المحاكمة العادلة، والثاني هو حرية الصحافة وتلقي المعلومات. أخذ القانون الأمريكي موقفا متوازنا يحترم الحق في المحاكمة العادلة دون أن يهدر حرية الإعلام ويظهر ذلك في السابقة الشهيرة نبراسكا ضد القاضي ستيوارت
نبراسكا ضد القاضي ستيوارت
فى قضية تجمع صحافيي نبراسكا ضد القاضي ستيوارت Nebraska Press Assoc. v. Stuart, 427 U.S. 539 (1976), والتي تتلخص وقائعها فى أنه عقب وقوع جريمة بشعة فى بلدة صغيرة قدم المدعى العام في البلدة طلباً مشتركاً مع محامى المتهم إلى قاضي محكمة المدينة ليصدر أمراً يحدد فيه المسائل التى لايجوز نشرها، أو إذاعتها للجمهور، لأن الجو السائد كان ينذر بنشر مكثف لأخبار متحيزة ضد المتهم ، مما يؤثر على قناعة المحلفين، وبالتالى سيؤثر سلباً على إمكانية إجراء محاكمة عادلة. وقد إستجاب القاضى للطلب.
قدمت عدد من الصحف ووكالات الأنباء والصحفيين إلى المحكمة الجزئية طلباً بإلغاء أمر الحظر . سمعت المحكمة الطلب ، وأمرت بأن يظل الحظر قائماًحتى إختيار المحلفين.
تقدم تجمع الصحفيين بطعن للمحكمة العليا في نبراسكا ضد ذلك القرار، فقامت بتعديل الأمر بحيث إقتصر المنع على نشر محتوى الإعتراف الذى أدلى به المتهم للشرطة ، أو أى تصريح يكون المتهم قد أدلى به لأى شخص عدا مندوبى الصحف عن تورط المتهم في الجريمة، وأى وقائع أخرى من شأنها إثبات تورط المتهم في الجريمة . وهذا الأمر أيضاً ينتهى مفعوله بإختيار المحلفين والذين تم إختيارهم بالفعل في يناير 1976 ،وقد تقدم تجمع الصحافيين بطعن ضد حكم المحكمة العليا في نبراسكا إلى المحكمة العليا الإتحادية .
ذهبت المحكمة العليا إلى ذكر عدد من الدعاوى التى قررت فيها إعادة المحاكمة عندما تبين لها أن موجة النشر المعادى للمتهم كانت من الضخامة بحيث أهدرت حقه في المحاكمة العادلة، ولكنها أكدت أن ذلك لا يعنى قبول الحظرالمسبق للنشر، و وذكَّرت بما قالته في دعوى وثائق البنتاجون من "أى نظام للحظر المسبق للنشر يأتى لهذه المحكمة مثقلاً بإفتراض عدم دستوريته " وذكرت أن موقف المحكمة العليا الثابت في هذا الصدد، هو أن الحظر المسبق للتعبير والنشر، هو أكثرأشكال الإخلال بحق التعبير وحرية الصحافة خطورةً، وأقلها قبولاً من جانب المحكمة .
ودور الصحافة في إصلاح العدالة الجنائية لايجب تجاهله، فالصحافة لا تنشر فقط وقائع المحاكمات ،ولكنها توفر الحماية ضد إجهاض العدالة بإخضاعها للشرطة والنيابة والإجراءات القضائية للرقابة والنقد العلنى، وذلك يوفر المحاكمة العادلة للمتهم وقالت "إن ما نعلمه من التجارب التعيسة للأمم الأخرى التى سمحت للحكومات أن تتدخل في مسألة ما تنشره الصحافة ما يجعلنا نشعر بالإرتياب من أى محاولة للحكومة لأن تضع نفسها في محل من يتولى تحرير صحافة هذه الأمة "
وقد رأت المحكمة العليا أن القاضى كان محقاً حين توصل لأن النشر المتوقع عن هذه الجريمة البشعة قبل إختيار المحلفيين من شأنه أن يمثل خطراً على حق المتهم في المحاكمة العادلة، ولكن المحكمة لم تبحث الوسائل البديلة لأمر الحظر، والتى يمكن أن توفر للمتهم المحاكمة العادلة مثل نقل المحاكمة لموقع أقل تعرضاً للحملة الصحفية، والإختيار المدقق للمحلفين، وغيرها من الوسائل التى تضمن حياد المحلفين، ولما كان الحظر المسبق للنشر لايكون مقبولاً حتى ولو كان مؤقتاً مالم يكن هو الوسيلة الوحيدة لمنع التأثير على المحلفين، فإن المحكمة تكون قد أخطأت حين لم تتعرض لتلك الوسائل البديلة قبل القفز إلى حظر النشر، مع خطورة الحظر لما فيه من تجميد لحق التعبير. وقد لاحظت المحكمة أيضاً أن ظروف الدعوى لا تشير إلى أن حظر النشركان سيؤدى الغرض منه ،لأن الجريمة قد لفتت نظر وسائل الإعلام القومية وليس المحلية فقط، والقاضى الذى أصدر الأمر ليس له ولاية على تلك الوسائط التى تصدر خارج الولاية، مما يجعل الحظر عديم الجدوى لعدم سريانه على الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون التى تصدر أو تبث من خارج الولاية ، مع أن ماتنشره قد يؤثر على المحلفين . كذلك فإن بلدة صغيرة بحجم البلدة محل الجريمة غالباً ماتنتقل الأخبار فيها عن طريق تبادلها بين الأهالى مباشرةً ولا أثر لمنع النشر على ذلك.
معنى ضرورى لمجتمع ديمقراطى
بالنسبة للقانون الإنجليزي فقد كان قانون إزدراء المحكمة لعام 1979 يأخذ موقفا متشددا من مسألة النشر الإعلامي حين يتصل بالإجراءات القضائية قيد النظر حتى تعرضت له محكمة حقوق الإنسان الأوروبية فأسقطته. لأنه يسمح بقيد غير ضروري لمجتمع ديمقراطي.
شرحت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية معنى تعبير ضرورى لمجتمع ديمقراطى فى دعوى سنداى تايمز ضد المملكة المتحدة والتى تكتسب أهمية خاصة لأنها تتصل بممارسة السلطة القضائية لسلطتها.تتلخص الوقائع في أن بعض النساء واللائى إستخدمن دواءً سوقته شركة للادوية أثناء فترة الحمل قد وضعن اطفالاً مشوهين .بدأ أباء هؤلاء الاطفال اجراءات تقاضي ضد الشركة و قامت السنداى تايمز بحملة لمساعدة اولئك الآباء حاولت ضمنها نشر مقال حول تاريخ الإختبارات التي أجريت على الدواء وصناعته وتسويقه، ولكن النائب العام نجح في إستصدار امر من المحكمة العليا High Court بمنع نشرالمقال بدعوى انه سيشكل إزدراء بالمحكمة. ألغت محكمة الإستئناف ذلك الأمر إلا أن محكمة مجلس اللوردات اعادت العمل به . تقدمت الصحيفة بشكوى لمحكمة حقوق الإنسان التي قضت بانه رغم أن التقييد لحرية الطاعنين قد تم وفق قانون يمنع النشر الذي من شأنه ان يؤثر على المحكمة وأن محكمة اللوردات تدخلت بمنع النشر بغرض حماية سلطة القضاء وهو هدف مشروع إلا أنه لكي يصح التدخل يجب بالإضافة لذلك أن يكون ضرورياً لمجتمع ديمقراطي. وكلمة ضروري لا تعني انه لايمكن الاستغناء عنه كما وأنها لا تنطوي على المرونة التى تحملها تعابير "غير مسموح به "او "عادي" او "مقيد" ولكنه تعبير يتضمن وجود حاجة إجتماعية ملحة Pressing social need بالإضافة لأنه يلزم أن يكون التدخل متناسباً مع الغرض المشروع منه وأن يكون السبب الذي أبدته السلطة لتدخلها متعلق بالإعتبارات المذكورة في المادة وكاف بالنسبة لها . بتطبيق تلك المعايير توصلت المحكمة إلى أن المقالة نفسها كانت معتدلة ولم تورد وجهة نظر واحدة وبالتالى فإنها لم يكن من شانها إحداث تأثير سلبي على السلطة القضائية. ولاحظت المحكمة أن المحاكم لا تعمل في فراغ فكون أن المحاكم هى المختصة بالفصل فى النزاعات لا يعنى عدم جواز مناقشة تلك النزاعات في مواقع أخرى . لقد كان الدواء موضوع الدعوى محل اهتمام عام والمادة العاشرة لم تمنح فقط حرية الصحافة فى نشر المعلومات بل أيضاً حق الرأي العام في تلقي المعلومات بشكل صحيح. على ضوء كل ذلك فان التدخل لم يكن بسبب حاجة اجتماعية ملحة تفوق مصلحة الناس عموماً في حق التعبير وبالتالي لم يكن متناسباً مع الهدف المشروع المراد تحقيقه ولم يكن ضرورياً لمجتمع ديمقراطي حتى يصون سلطة القضاء .
عقب ذلك سن برلمان المملكة المتحدة قانون إزدراء المحكمة لعام 1981 ويتمثل الهدف الرئيسي لذلك القانون في حماية سلامة إجراءات المحاكم قيد النظر، دون أن يخل بحرية الصحافة وفإقتصر التجريم على نشر معلومات من شأنها الإضرار بسير العدالة في دعاوي قيد النظر. قررت المادة 5 من ذلك القانون أنه لا يجوز اعتبار النشر الذي يجري كليا أو جزئيا ضمن مناقشة بحسن نية للشؤون العامة أو غيرها من المسائل ذات المصلحة العامة ازدراء للمحكمة إذا كان إحتمال إعاقة إجراءات قانونية معينة قيد النظرأو الإخلال بها هو مجرد نتيجة عرضية للمناقشة. كما منح وزير العدل وحده سلطة فى مباشرة الإتهام إلا أن القانون واجه إننقادات حادة لأنه يفترض أن المحلفين يجب أن يأتوا إلى المحكمة بذهن خال من المعلومات، وهو إفتراض خيالي وغير مفيد ،لأن المحلفين هم أشخاص قادرون على تقييم ما يقرأون. وقد هاجم الصحفي المعروف أندرو نيل في صحيفة الجارديان ذلك القانون ، وذكر أنه غير مستعد لأن يقرر له لورد جولد سميث (وزير العدل آنذاك) ما يجوز له وما لا يجوز له أن يقرأ.
وهكذا نرى أن مسألة نشر إجراءات المحاكم والتعليق عليها هي مسألة خلافية وأن الماد 26 (1) هـ من قانون الصحافة لا تُعالَج بالبيانات بل يحسن أن يُترَك تفسيرها وتطبيقها للمحاكم، حين تباشر عملها القضائي بالفصل في الخصومات.
نبيل أديب عبدالله
المحامي
nabiladib@hotmail.com