بيع حليب الأمهات: تجارة رائجة وصناعة واعدة: جودي سدوتن .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
نشر هذا المقال (والذي نعرض له باختصار شديد) في المجلة الأمريكية المسماة "وايرد  Wired  الصادرة في يونيو 2011م، وهو يحكي عن فتاة من مدينة فينيكس بولاية أريزونا، اسمها إسبانيوزا، لم تبلغ سن العشرين، كانت ذات  مساء - ودون هدف معين - تتصفح في مواقع الشبكة العنكبوتية، وهي تغالب النعاس، فإذا بها تقع - بالصدفة المحضة-  على موقع يسمى "الصدر فقط Only the Breast " . لم يكن ذلك الموقع سوى موقع (تجاري) لبيع حليب الأمهات. حوى الموقع على مئات العروض من نساء مرضعات يرغبن في بيع الفائض من حليبهن لمن يرغب، وكسب بعض المال من وراء ذلك. كانت بعض تلك الإعلانات مصاغة بلغة جذابة، وبعبارات إعلانية مثيرة مثل: "المصنع البشري لحليب الأطفال" و"حليب غني وكامل الدسم" و"حليب بشري طازج". صنفت الإعلانات في ذلك الموقع بحسب أعمار الأطفال الرضع...فهنالك حليب لمن هم (أو هن) دون العام الأول، وهنالك حليب لمن لهم (لهن) احتياجات طبية خاصة (مثل الحليب الخالي من البروتين المسمى الجلوتين)، وهنالك أيضا من يرغبن في  بيع حليب صدورهن لمن يرغب، دون تحديد للعمر (حتى للرجال البالغين). ترسل كميات الحليب البشري المشتراة مجمدة في صناديق صغيرة، محشوة بمادة الثلج الجاف البالغة البرودة، وقد تسلم يدا بيد، حيث يتم اللقاء بين البائعة والمشترية (أو المشترى!) في مقهى محلي، ومبادلة "البضاعة" وثمنها. ما هو سعر البضاعة يا ترى؟ الثمن لا يتعدى ما بين دولار واحد ودولارين ونصف للوقية الواحدة (علما بأن الطفل الذي يبلغ من العمر نصف عام يستهلك نحو 30 وقية في اليوم).
تعجبت السيدة إسبانيوزا من وجود هذا الكنز الذي لم يكن يخطر لها على بال، وقررت أن تجرب حظها، فقامت بوضع  إعلان في ذلك الموقع  جاء فيه: "حليب امرأة لا تأكل غير الأطعمة العضوية (وهي الأطعمة التي لا تدخل في زراعتها أو تصنيعها مواد كيميائية مثل الأسمدة الصناعية ومبيدات الهوام). لدي نحو 500 أوقية من الحليب الفائض عن حاجة صغيري. أؤكد أنني لا أتناول غير الأطعمة العضوية  خلال أيام أسبوع العمل". ما أن مرت أيام قليلة حتى بدأت تنهال عليها الطلبات ، فباعت عددا كبيرا من الأوقيات بسعر دولارين للأوقية لشخصين في مدينتها فينوكس...أحدهما أماً حديثة الوضوع، والآخر رجل يزعم أن حليب الأمهات يقوي من جهازه المناعي العليل. سرت السيدة اسبانيوزا أيما سرور بهذه الصفقة، إذ أنها لم تكن لتجد فرصة للعمل وهي مرضعة لطفلها الصغير، وقالت إن ما حصلت عليه من بيع حليب صدرها سوف يكفي لسد نفقات طفلها الكثيرة من حفاضات وملابس وغير ذلك.
بعد مرور ثلاثة أشهر على بدء تجارتها، قامت الفتاة – من مال حليب صدرها- بشراء فستان زفافها لزوجها (والد الطفلة) المتخرج حديثا من الجامعة والبالغ من العمر 22 عاما، وظلت تخطط  للاستمرار في بيع حليبها لمدة عام كامل، فهي تقدر أنها إن استطاعت ضخ ما قدره 30 أوقية يوميا – وبصورة دائمة- فإنه يمكن لها في نهاية العام  أن تدخر مبلغا لا يقل عن 2000 دولار.
بعيدا عن قصة تلك الفتاة، فإن الواقع يقول إن الطلب على حليب الأمهات في ازدياد مضطرد، مما خلق بالفعل سوقا رائجا، بل وصناعة صغيرة سريعة النمو. بالإضافة إلى المتاجرين بالحليب البشري، فهنالك مجموعات كبيرة من النساء المتطوعات، لهن مواقع في الشبكة العنكبوتية والفيس بوك (منها
Babies and Fats on Feet  وHuman milk 4 humans  ) يقمن ببسترة (تعقيم) الحليب وإرساله لمن يرغب دون مقابل مادي. نشأت من هذه التجارة ظاهرة تمثلت في إنشاء بنوك (مصارف) للحليب البشري ، وهي بنوك تطوعية وغير ربحية تجمع الحليب من المرضعات المتطوعات، وتقوم بتعقيمه /بسترته وفق شروط مواصفات سلامة ونوعيه معلومة . يباع ذلك الحليب للمستشفيات ولأمهات الأطفال المواليد المكتملين والخدج وللأمهات المريضات بأمراض معينة، وذلك بسعر يقارب أربعة دولارات للأوقية. أنشئت حديثا في جنوب كلفورنيا شركة اسمها "برولاكتيا" (والاسم مأخوذ من اسم الهرمون المسئول عن إدرار الحليب عند إناث الحيوانات والبشر. المترجم) مصنعا متقدما للحليب البشري، مع إضافة مواد غذائية ومواد محسنة معينة له. يكلف هذا النوع من الحليب في اليوم مبلغ 135 دولارا للطفل الواحد. تعاقد هذا المصنع حتى الآن مع 58  مستشفى، ويتوقع أن تزداد قيمة صفقاته الرابحة لتبلغ ملايين الدولارات.
كما هو متوقع، قامت السلطات الأمريكية بسن قوانين ولوائح وضوابط تنظم أغلب سوائل وأنسجة الجسم، مثل الدم والسائل المنوي والكبد والكلي، بيد أنه لا توجد - حتى هذا اليوم- قوانين ولوائح وضوابط تنظم حليب الأمهات، والسبب هو أن حليب الأمهات يعد من الأغذية، وبذا يسمح بنقله وبيعه وشرائه وتبادله دون أدنى قيود في سائر الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا مما يجعل نوعية وشروط سلامة الحليب المتداول (إهداء وشراء وبيعا) تختلف من منطقة إلى أخرى. ولكن الجمعيات غير الهادفة للربح -  ومنها شركة "برولاكتيا" - وضعت لنفسها شروطا صارمة من أجل الحفاظ على مواصفات الحليب الذي تتبرع به المرضعات، لضمان خلوه من الملوثات، مثل الأدوية والمخدرات ومسببات الأمراض المختلفة، مثل فيروسات التهاب الكبد الوبائي والإيدز. لا تتوفر لجهات أخرى كثيرة (مثل موقع "الصدر الآن Only the Breast"، ومواقع المتبرعين والبائعين) الإمكانيات لعمل الفحوصات اللازمة لضمان جودة وأمان الحليب المتداول، وهي تؤكد أن شراء الحليب يتم على مسئولية المشتري. رغم كل ذلك فمن الواضح الآن أن حليب الأمهات يباع ويشترى ويتم التبرع به ويتلقاه الكثيرون، وأن كل هذه العمليات في ازدياد مضطرد.
لا خلاف في أن تغذية المواليد بحليب الأمهات، واعتمادا على العديد من المصادر الموثوق بها ، تفضل حليب البدرة بلا ما لا يقاس. وأثبتت كثير من الدراسات والأبحاث المحكمة أن الأطفال الذين تمت تغذيتهم على حليب البدرة  أكثر عرضة للإصابة بأمراض وأعراض كثيرة منها على سبيل المثال الربو (الأزما)، وإصابة (خمج) الأذن الوسطى، والإسهال. تشمل فوائد التغذية على حليب الأم (ولا تقتصر) على عدم الإصابة بالسمنة المفرطة، وزيادة معدل الذكاء (IQ) بما يصل إلى خمسة نقاط،؛ وهي فوائد ترافق الطفل طوال حياته.  عمل كثير من العلماء، ولسنوات طويلة، على اكتشاف سر فوائد الحليب البشري للرضيع. فحليب الأم غني بالأنزيمات وكريات الدم البيضاء، وكرات من البروتين والدهون المفيدة، والأجسام المضادة التي ينتجها الجهاز المناعي للأم ضد مسببات الأمراض من جراثيم وغيرها، تنتقل للرضيع عبر الحليب. كذلك اكتشف حديثا أن في الحليب البشري نوع من السكريات المركبة التي كان يظن بأنها عديمة الفائدة للرضيع (وذلك لعدم قدرة الرضيع على هضمها)، لكن ثبت الآن أن هذه السكريات تلتصق بالخلايا المبطنة لأمعاء الرضيع، حيث تعمل كغذاء ممتاز للبكتريا النافعة، وتطرد كذلك البكتريا الضارة. بذا تعمل هذه السكريات كحارس قوي أمين للدار، يسمح بدخول الأخيار ويطرد الأشرار. يحوي حليب الأم أيضا أحماضا دهنية تتغذى عليها خلايا الدماغ، وتحفز النمو العصبي للرضيع. أكتشف أيضا أن في حليب الأم نوعا من الأحماض الدهنية تسمى اختصارا هاملت (HAMLET)، لها القدرة على قتل أربعين نوعا من الخلايا السرطانية، وتجرى عليها حالياً كثير من الأبحاث كعلاج لبعض أنواع السرطان. في حليب الأم كذلك عدد من الخلايا الجذعية (وهي تلك الخلايا البيولوجية  التي لها القدرة على الانقسام لتكون خلايا متخصصة)؛  والتي يظن أنها قد تتطور وتنمو لتغدو من أسلحة الدفاع عن الجسم، وقد تعزل يوما من حليب الأمهات لاستعمالها كدواء، ولا يتوقع أن يثير ذلك قلقا عند علماء الأخلاق البيولوجية (Bioethics)، مثل القلق (بل والرفض الحازم) الذي يثيره استعمال الخلايا الجذعية المستخرجة من الأجنة، لما لذلك من تعارض مع بعض المعتقدات الدينية والأخلاقية لكثير من الناس.
قد يعجب القارئ من أن العلماء لم يتمكنوا حتى الآن من تخليق مواد صناعية (غير طبيعية) لها نفس خواص حليب الأم، رغم كل ما هو متاح من تقنيات وأجهزة دقيقة. ذكر ذلك العالم الأمريكي الذي ظل يعمل – ومنذ عشرين عاما- في جامعة كليفورنيا بديفيس على خواص حليب الأم. يقول ذلك العالم  إن هنالك أسبابا علمية وموضوعية تعيق الوصول لتخليق حليب يطابق تماما الحليب البشري. لا عجب إذن إن  كانت توصية الجمعية الأمريكية لطب الأطفال (ومنظمة الصحة العالمية) واضحة لا لبس فيها، وهي تتلخص في ضرورة تغذية المولود على حليب الأم حتى عمر ستة شهور، ثم مواصلة التغذية بذات الحليب لمدة ستة شهور إضافية مع  تناول أطعمة أخرى. بيد أنه من الواجب الاعتراف بأن الرضاعة الطبيعية تشكل عائقا كبيرا، وصعوبة بالغة للأم العاملة في المهن المختلفة، إذ أن عملية الإرضاع تتطلب أربعة ساعات كاملة في اليوم (مقارنة بنحو 15 دقيقة فقط  لعملية "ضخ" ستة أوقيات من الحليب). نسبة لاقتناع النساء الأمريكيات بفوائد الرضاعة الطبيعية، زاد معدل النساء اللواتي يرضعن مواليدهن طبيعيا من 25% في سبعينات القرن الماضي، إلى 75% في عام 2007م. بيد أن أقل من نصف عدد المرضعات يرضعن أطفالهن لمدة ستة أشهر كاملة (كما توصي به الجمعية الأمريكية لطب الأطفال)، وترضع اقل من 20% من النساء المرضعات صغارهن لعام كامل. لعل هذا ما يفسر سر إقبال الأمريكيات على إرضاع صغارهن بحليب بشري، حتى وإن كان من غير أثدائهن. لا تخلو هذه العملية من أخطار ظاهرة، وأخرى مستترة. لذا أصدرت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) في نوفمبر 2010م تحذيرا من تغذية الرضيع من سائل (حليب) من امرأة أخرى، لم يتم فحصه أو تعقيمه؛ إذ أن ذلك قد يشكل خطرا صحيا للرضيع. رغم هذا التحذير، لم يتم حتى الآن تسجيل أية حالة من حالات الضرر بسبب التغذية بالحليب البشري المشترى عن طريق الشبكة العنكبوتية أو غير ذلك.
مما أغفلت الكاتبة ذكره، الجوانب التاريخية المختلفة المتعلقة بالإرضاع من غير الأم. فمعروف من قديم الزمان أن بعض السادة والنبلاء في أوروبا كانوا يعهدون لبعض من هم أقل منهم في سلم التصنيف الاجتماعي بإرضاع مواليدهم، ويسمون هذه الممارسة Wet nursing ، بينما يسمى إرضاع المولود من إمرأة أخرى في ذات الطبقة الاجتماعية للأسرة Cross feeding. كذلك لم تذكر الكاتبة أن "بنوك الحليب" كانت قد بدأت في أمريكا قبل أكثر من قرن من الزمان، ثم اختفت وعاودت الظهور في أوقات مختلفة، بحسب الظروف والتقاليد والسياسات المتبعة، ونشاط الحركات النسوية بأطيافها المتعددة. 
أغفلت الكاتبة كذلك بعض الأخلاقية المتعلقة بتغذية الرضع على حليب من امرأة (أو نساء) أخريات، وبالآثار الهرمونية لعمليه الإرضاع الطبيعي، إلى جانب فقدان الرابطة (bonding) التي تخلقها عملية الإرضاع الطبيعي من ثدي الأم بين الرضيع ووالدته، علما بأن هذه الرابطة لها بعد نفسي عميق الأثر عند الطفل طوال حياته. عند المسلمين تحتل أمور الرضاعة للصغار (والكبار أيضا!) حيزا هاما في الحياة، فقلما يخلو برنامج للإفتاء من سؤال ما عن الرضاعة. ولا ريب إن الإسلام يحث على الرضاعة الطبيعية‘ إذ جاء في القرآن الكريم: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة" (البقرة: 233). بيد إن الرضاعة من حليب مأخوذ من "بنوك الحليب" حرام شرعا، بحسب ما جاء في فتوى لشيخ العثيمين بعنيزة في السعودية، حين جاء نص السؤال والرد كما يلي:
"يوجد في أمريكا بنوك أسمها بنوك الحليب ، يشترون الحليب من الأمهات الحوامل ثم يبيعونها على النساء اللواتي يحتجن إلى إرضاع الأولاد أو حليبها (يقصد اللاتي حليبهن) ناقص أو مريضة ( يقصد) مريضات أو مشغولات بالعمل .. إلخ ، فما حكم شراء الحليب من هذه البنوك ؟"
كان الرد هو:
حرام ، ولا يجوز أن يوضع بنك على هذا الوجه ما دام أنه حليب آدميات ؛ لأنه ستختلط الأمهات ، ولا يدرى من الأم ، والشريعة الإسلامية يحرم فيها بالرضاع ما يحرم بالنسب، أما إذا كان اللبن من غير الآدميات فلا بأس".
لا أدري إن كانت هنالك آراء وفتاوى إسلامية أخرى حول بنوك الحليب؛ وفي الأديان الأخرى توجد كثير من الاختلافات في حرمة وحل واستحباب قيام مثل هذه البنوك.
نقلا عن "الأحداث"

 

آراء