بين السودانين: اتجاه الحركة أهم من موقع الوقوف
د. عبد الوهاب الأفندي
29 September, 2012
29 September, 2012
(1)
يتوجس من عركتهم تجارب جولات التفاوض اللانهائية بين جنوب السودان وشماله (والآن دولة جنوب السودان وجمهورية السودان، والمعنى واحد) عندما يسمعون لفظة "بروتوكول"، لأن كل التفاهمات التي حملت هذا المسمى كانت –ولاتزال- قنابل موقوته، بل لعل الأصح أن يقال قنابل عنقودية، تتناثر في سلسلة لا نهائية من التفجيرات. فهناك بروتوكول أبيي، وبروتوكول المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) وكلها مناطق ملتهبة الآن. أما بروتوكول تقاسم السلطة فحدث ولا حرج.
(2)
المنطق وراء البروتوكولات، بدءاً من بروتوكول مشاكوس عام 2002، هو تقرير عموميات يصعب الخلاف عليها، مثل المساواة في المواطنة والحقوق، والوحدة الجاذبة، والتقاسم العادل للسلطة والثروة، والحكم اللامركزي، إلى آخره، وترحيل الأمور المختلف عليها (مثل حال ديون دول دول اليورو) إلى مرحلة سداد في المستقبل البعيد. ولهذه الاستراتيجية مبرر منطقي، ينطلق من تعقيدات الأوضاع وصعوبة معالجتها، مع الاعتقاد بأن خلق جو من التعاون على خلفية اتفاقية مهما كانت جزئية، سيولد مناخاً من الثقة والتعاون يساهم في تضييق الخلافات المتبقية.
(3)
هناك مبرر آخر لا يملك نفس القيمة الأخلاقية، تتمثل في حسابات جهات خارجية، مثل الطموحات الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. فقد كان الأخير يستعجل الاتفاق حتى يروج لهذا "الانتصار" الهام في حملته. وفي الجولة الحالية في أديس أبابا، تلعب كل هذه العوامل دورها. فالرئيس أوباما في خضم حملة انتخابية هي الآن في أسابيعها الأخيرة، والوقت لا ينتظر. من جهة أخرى، هناك قوى كثيرة في الجوار وخارجه تريد أن ترى نهاية سريعة لهذه الأزمة. وعليه تزايدت الضغوط على الطرفين للتوصل إلى أي اتفاق. وقد كان أكبر عوامل الضغط وصول الرئيسين إلى العاصمة الاثيوبية وانخراطهما مباشرة في التفاوض، إذ أنها ستكون خيبة أمل كبيرة لو عاد أي منهما إلى عاصمته بدون اتفاق بعد أن لبس لأمته ونزل إلى الميدان بكامل عدته.
(4)
وكحل وسط بين الفشل التام والنجاح الذي لم يتحقق في حسم الخلافات، تقرر التوصل إلى "بروتوكول تعاون"، يسجل النقاط التي تم التوافق حولها، ويتعهد بالاجتهاد في حسم بقية الخلافات عبر آليات تم التوافق عليها، ولكن دون التزام بمشورة تلك الآليات. ومهما يكن فإن التوصل إلى بروتوكول خير من عدمه، خاصة إذا ترتبت عليه فوائد عملية تصب في مصلحة مواطني البلدين، وترفع عنهم العنت والمشقة. ولكن العبرة تبقى في صدق النوايا في التوصل إلى وفاق وإنهاء الصراع، وفي اتجاه التحرك: هل يتحرك الطرفان من مواقعهما الحالية باتجاه تقارب مطلوب، أم نحو تباعد يزيد من شقة الخلاف؟
(5)
كنت قد أشرت في تعليق سابق إلى أوجه الشبه بين بروتوكولات اتفاقية نيفاشا وبين "بروتوكولات حكماء أوسلو"، حيث تم في الحالين تأجيل معظم القضايا الحيوية، مع استصحاب حسن نية الطرفين، وصدق توجههما إلى حسم بقية اسباب الخلاف. ولكن في الحالين لم يتوفر حسن النية بما يكفي، حيث رآت بعض الأطراف في المهلة الممنوحة سانحة لتعزيز الموقف الرافض للحل الوسط، وخلق حقائق على الارض تؤدي إلى استحالة الوصول إلى مثل هذه الحلول. وفي مثل هذه الأحوال، تؤدي الاتفاقيات الجزئية في نهاية المطاف إلى إشكالات أصعب من تلك التي سبقتها، حيث أن الحقائق الجديدة على الأرض قد تحتاج إلى جهود مضاعفة لتغييرها. وقد يصبح مجرد الرجوع إلى الوضع الذي كان قائماً وقت الاتفاق هدفاً بعيد المنال، وغاية من الغايات.
(6)
في مثل هذه الأحوال، لعل الحكمة تكون في البداية من المسائل الأصعب، وهو الحدود في حالة أوسلو، وأبيي والمنطقتين في حالة السودان. فعندما تحسم القضايا الشائكة، وتنتفي عند الطرفين الدوافع لخلق أوضاع ضاغطة لتحقيق أهداف يرى كل طرف ألا غنى عنها (وهو ما يعني استمرار الحرب تحت مسميات أخرى)، تبدأ مرحلة التعاطي الإيجابي حول القضايا الأقل أهمية.
(7)
من هنا فإننا نردف ترحيبنا بما تحقق من تقدم في مفاوضات أديس أبابا بتحذير من تكرار صدمات ما بعد نيفاشا، حيث انتقلنا من آمال عراض في سلام ووحدة، إلى حرب غير معلنة، كانت بالوكالة حيناً، وبالكلام والدبلوماسية والاقتصاد وصراع المواقع أحياناً أخرى، قبل أن ينتهي إلى الحرب المكشوفة وامتشاق السلاح الذي لم يرجع إلى أغماده بعد.
(8)
هناك حالياً حرب قائمة بين شمال السودان وجنوبه في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وهي ليست حرباً بالوكالة، ولكنها حرب مباشرة بين جيشي البلدين. وأي اتفاق لا يوقف هذه الحرب هو سراب خلب، وذر للرماد في العيون. فلا يستقيم أن يتعانق الطرفان، ويتبادلان البسمات والهدايا، وفي يد أحدهما أو كليهما سكين يواصل بها طعن الآخر في ظهره. فلتوضع السكاكين أولاً، ثم ليبدأ العناق وتبويس اللحى بعد ذلك. وقد كان يقال إن العاقل من اتعظ بغيره، ولكن أدنى العقل أن يتعظ الإنسان بنفسه وتجربته القريبة.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]