بين الغبطة والمأساة هكذا تمشي شيراز عبدالله جلاب
abdullahi.gallab@asu.edu
تلك الطفلة الرضيعة التي اكملت بالكاد شهرها الثاني من العمر في العام ١٩٨٩عندما اخرجت وأسرتها الصغيرة من السودان ليتلقفها والدها في مطار نيويورك ويذهبوا جميعا هي ووالدتها سعاد تاج السر وأخوها احمد وأختها عزة في ليل ذاك الشتاء القارس الى بوسطن مقرهم الجديد ها انت اللحظة تراها وهي تمشي بثقة وسط فرح وتهليل زميلات وزملاء لها لتستلم شهادة الماجستير من واحدة من ارقى أكاديميات الفنون الجميلة في الولايات المتحدة : اكاديمية كرامبروك Cranbrook للفنون وذلك في الثامن من مايو ٢٠١٥. ليس ذلك فحسب بل لتعرف بانه قد تم اختيارها لتكون اضافة جديدة في أسرة التدريس في كلية كالفورنيا للفنون في سان فرانسيسكو. تلك الطفلة الرضيعة التي لم تعد طفلة الان بل شابة في مقتبل العمر هي شيراز عبدالله جلاب. غير ان ذلك الزمان لم يكن زمانها الخاص فقط وتلك السيرة وان استبطنت سيرتها لم تكن سيرتها وحدها. ولو كان ذلك الزمان زمانها والسيرة سيرتها هي فقط لما كان لكل ذلك معنى الا في حدود الخاص. ولا كان في ذلك نموذجا له دلالة تكبر او تضمحل في حياة العديد من السودانيين٠ او ظل على ارتباط عضوي بأتراح وأفراح الوطن. اذ ان ما هو دون ذلك فلن يكون هناك من طائل لإيراده هنا او التطرق اليه. فالزمان الذي نشير اليه هنا هو زماننا نحن معشر السودانيين. وتاتي قيمته من وقع نزالنا مع دولة العنف او دولة ونجت عمر البشير. وهو ايضا زمان الوطن وتجربته مع غولاغ الإسلامويين الذي ظل أوسع مجالا وأكثر بؤسا وأطول عمرا من غولاغ ستالين.
لقد اخرجت شيراز من وطنها حينما كشرت الإنقاذ أنيابها ونزلت بطشا على مواطني السودان ذات اليمين وذات الشمال. بداية بالفصل التعسفي وبيوت الاشباح وحالة الطوارئ والتجنيد الإجباري الذي كان فيه القاتل والمقتول من ضحايا ذلك النظام٠البعض ماتوا "فطائس" كما قال "شيخ حسن" والبعض الاخر ماتوا بلا اسم او مسمى. لقد كان في ذلك بداية فصل مظلم في حياة السودانيين ظلت نهاياته بلا نهاية اذ تمددت دولة العنف وتطاولت دون ان تستثني حتى الإسلامويين انفسهم في بلاد كانت تقاس فخرا بالمليون ميل مربع ليذهب حزنا ثلثها دون ان يختلج جفنا او يهتز رمشا لأي من أهل النظام. وهكذا تمخطر سيف الموت المجاني لتصبح البلاد مقبرة واسعة. واتسعت الملاجئ لتصبح كل ارض الله منفى للسودانيين. لم تعد غربة الأحياء هي مجرد اغتراب في خارج الوطن وإنما اصبح كل من لا ينتمي لتلك الأقلية القليلة غريبا في موطنه اغترب ام لم يغترب. طوبى إذن للغرباء.
الدلالة الكبرى لحياة شيراز وهي تمشى فخرا والتي قد يراها كذلك من يراها من الخارج ويفرح لها من يفرح جذلا بحق فهي بلا شكل تمثل شكلا من أشكال العديد من خريجي الدراسات العليا في الجامعات هنا في الولايات المتحدة او في غيرها من بلاد. نعم ان في ذلك ما يعلي مقام الفرد بالانجاز العلمي وما يقبط الأهل والمعارف والاصدقاء بما تحقق من حسن ظن هؤلاء وأولئك في مقدرات وجهد وكسب ذلك الفرد. ولأنه ليس بمثيل لكسب الإنقاذ، بمثله تتجدد امال واحلام المجتمعات بما أتها وما سيأتي من فيض المعارف والكفاءات وسعة بحار العلوم. غير ان هنالك وإضافة اخرى تضاف الى ذلك ما يرد في إطار الظاهرة الاجتماعية والتي لها معناها الخاص والعام. اذ قد يرى من يدقق النظر الى ابعد من ذلك ليرى ما نرى. فقد ترى ان تيسر لك ذلك خاصة لو كنت حاضرا في عيني شيراز وفي عيون اَهلها كيف امتزج ذلك الفرح والفخر بذلك الحزن المقيم. حزن هو بعمرها. وهو من جراء ما حدث لوطنها وأهل وطنها وما اكتنف اسرتها هنا وهناك. هنا في موقع وموطن إنجازها هي نقف معها كلنا طوالا اذ اننا كسودانيين لم ولن نمت وان عمل النظام كل جهده من اجل ذلك. ولكننا والحال كذلك نجد بعثنا ونشورنا يتجلى ذلك بالزيادة المطردة لجيل جديد من الأبناء والبنات في المهاجر يتخرجون من جامعات عريقة ويتصلون بتجارب ذات اثر. فالذين حرموا من ان يستثمروا جهودهم وطاقاتهم ومعارفهم في خدمة السودان، وذلك عن طريق تصاعد عوامل الطرد التي برع فيها النظام، استثمروا السودان في تربية أبناء وبنات لهم بتأهيلهم نحو طرق النجاح. وبقدر ما نرى والحال كذلك علامات موت النظام يمكن ان ترى بجلاء إشارات حياة السودان في اجيال جديدة قد ولدت او عاشت في المهاجر لتتأهل بجهد أولئك الآباء الأمهات الذين كان النظام يعتقد ان في طردهم من وظائفهم ومن وبلادهم برنامجا استراتيجيا يخلو ويحلو له به الجو والمجال لينعم بالسلامة وطول العمر. نعم اكتظت المهاجر بالسودانيين بشكل لم يسبق له مثيل غير ان ذلك الفصيل من سودان المهجر قد أنتج الان وفي المستقبل من هم قرة عين سودان جديد. ذلك هو المعنى لنجاح شيراز وأمثالها من أبناء وبنات المهجر وقتما يتكامل جهدهم مع جهد الشباب المهاجر الى أكتوبر في الداخل (راجع مقالي السودان الوطن الممكن: الشباب المهاجر الى أكتوبر) وجهد شعبهم من اجل إسقاط وتغيير النظام.
نعم هناك فصيل اخر من السودانيين طال عليه العصر في معسكرات النزوح. هناك من هم في عمر شيراز واكبر بقليل او اصغر لم يجدوا ولم يتعرفوا على ما يمكن ان تعطيه الدولة لمواطنيها الا هذا الوجه القبيح الذي فجرت فيه وبه دولة الإنقاذ وهي تكلهم للملاجئ والجنجويد في دارفور وجبال النوبة. لقد اغتصبت الإنقاذ طفولتهم ونعومة أظفارهم وشبابهم وهم يشاهدون الآباء والامهات الذين كانوا يعتزون بأنهم من منتجي الغذاء وفنون الطعام والادام والشراب اسرى لمعسكرات لا تمنح غير التعاسة لأنهم سلبوا مساهمتهم المنتجة. من ينقذ هؤلاء؟ أهو ذلك الذي يقول لجنوده ما عاوز اسرى؟. او ذلك الذي يقول بفضل اغتصاب الجعلي للغرباوية؟ او الذي يرقص امام جثث السودانيين مستمتعا بتلك الاغنية القبيحة: "دخلوها وصقيرها حام"؟ هل ينقذهم من يطارد بائعات الشاي في الخرطوم وهن يسجلن احتجاجا صامتا لجور ما يعتقد بانها دولتهن٠ ام الذين يستنكرون ويتعففون من وجود الذين نزحوا، ليكونوا كما يقول أهل النظام، بان أولئك الهاربين من عنف الإنقاذ ودولتها والذي استشرى في ديارهم والقائمين بالشكوى الى اخوة لهم وأخوات في حضر السودان، قد عكر ذلك عكروا عليهم صفاء حياتهم لذا وجب النزوح بهجر العاصمة الى عاصمة جديدة. اي نزوح هذا وأي نزوح ذلك وأي هجرة تلك وأي هجرة تلك الاخرى.
نحن الذين سننقذهم: نحن آباء وأمهات شيراز وأخوتنا وأخواتها في المهجر في تضامننا مع آباء وأمهات الشباب المهاجر الى أكتوبر معا كآباء وأمهات وأبناء وبنات في تضامننا نحو إسقاط وتغيير النظام. الان هناك واقع جديد يتشكل من اجل تغيير الحياة وصناعة سودان جديد.
///////////