بين المهدية وحركة الإخوان المسلمين: الاستمرارية والتغيير في الراديكالية الإسلامية في السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

 

Between the Madhiyya and the Muslim Brotherhood: Continuity and Change in Islamic Radicalism in Sudan

يهوديت رونين Yehudit Ronen
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لما ورد في مقال للدكتور يهوديت رونين (1948م – الآن) عن المقارنة " بين المهدية وحركة الإخوان المسلمين" نشر في عام 2007م بالعدد الثاني عشر من مجلة دراسات شمال أفريقيا The Journal of North African Studies.
وتعمل الدكتور رونين أستاذة مشاركة وباحثة في قسم العلوم السياسية في جامعة بار إيلان الإسرائيلية. وهي متخصصة في تاريخ العالم العربي الحديث، بتركيز خاص على المغرب العربي والسودان. وصدرت لها عدة مقالات مُحكَّمة منها مقال عن الإخوان المسلمين بالسودان، وكتب منها مؤلف بعنوان "Sudan in a Civil War".
ويتناول هذا المقال موضوعا معقدا ومشحونا عن اقتران السياسة بالدين في حياة المجتمع السوداني والدولة. ويتتبع الأوضاع من أخريات القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن الواحد وعشرين.
المترجم
******* ******* ******** *******
انطلقت في يونيو عام 1881م الثورة المهدية من جزيرة أبا، وسرعان ما انتشرت في بقاع كثيرة من السودان. ورفعت تلك الحركة لأول مرة في تاريخ المنطقة راية ما يعرف الآن بصورة عامة بـ "الإسلام الراديكالي" أو "الإسلاموية". وقاد محمد أحمد بن عبد الله، وهو شيخ صوفي زعم بأنه هو "المهدي المنتظر"، حركة الجهاد ضد ما اعتبره إدارةً عثمانية – مصرية كافرة جائرة تحكم بلاد السودان.
وأنشأ المهدي له ثيوقراطية مسلمة بحسب ما ورد في القرآن والسنة، وأقام هو وخليفته من بعد وفاته، دولة المهدية التي منحت لغالب السكان في كافة أراضي السودان المترامية الأطراف إطارا لانتماء يتجاوز القبلية ويقوم على عمادين رئيسين: هوية دينية مشتركة ومصير واحد.
ولم يفض سقوط دولة المهدية في 1898م، وقيام الحكم الثنائي الإنجليزي المصري إلى مَحْو تراث المهدية التي كانت قد مدت جذورها عميقا في المجتمع السوداني. وبعد سنوات من قيام الحكم الثنائي أفلح الأنصار في الاندماج الفعال في الإدارة الاستعمارية الجديدة، وأدى جناحهم السياسي (حزب الأمة) دورا مهما في قيادة البلاد بعد نيلها لاستقلالها. وعلى الرغم من كل التقلبات السياسية التي هزت الدولة السودانية والمجتمع (وقيادة حزب الأمة أيضا) في غضون سنوات ما بعد الاستقلال، إلا أن الأنصار ظلوا على ولائهم لتراثهم الديني، وظلوا في ذات الوقت يتكيفون مع الأوضاع السائدة من أجل تحقيق مصالحهم السياسية.
وبعد نحو مائة عام من الثورة المهدية، ظهرت في المشهد السوداني عام 1985م حركة إسلامية راديكالية عاصفة أخرى، ولكنها تختلف عنها في المنظور والرؤية، وفي المظهر والمخبر. وعرفت تلك الحركة بـ "الجبهة الإسلامية القومية"، وتزعمها المفكر الإسلامي الكاريزماتي حسن الترابي. وكان الترابي وإخوانه قد انفصلوا من حركة الإخوان المسلمين الأم التي كانت قد امتدت من مصر إلى السودان في الأربعينيات. وسرعان ما غدت "الجبهة الإسلامية القومية" لاعبا رئيسا في حلبة السياسة السودانية، ولها رأي مهم ومؤثر في غالب مجريات شؤونه، خاصة فيما يتعلق بعملية الأسلمة التي كان الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري قد بدأها في 1983م. غير أن الترابي أخفق، رغم علمه وخبرته الطويلة في مجالي السياسة والدين، في مساعيه. فلجأ لوسيلة أخرى لتحقيق غاياته، فدبر – بالتعاون مع بعض الضباط الإسلاميين - انقلابا عسكريا في 1989م استولى به على حكم البلاد، وأنهى الحكم الديمقراطي به (الذي كان على رأسه زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، حفيد المهدي الأكبر وصهر الترابي).
وعلى الرغم من الاختلافات والفروقات النظرية والعملية والزمنية بين الحركتين (المهدية – ووريثها حزب الأمة - والترابية)، إلا أن ما كان يجمع بينهما هو الطبيعة الإسلامية البينة الملامح. وقبل الدخول في مناقشة جوانب التشابه والخلاف بين الحركتين يجب القول بأن السودان تحت قيادة الترابي كان هو القطر الأول والوحيد الذي يحكم في نهاية القرن العشرين بنظام إسلامي راديكالي (لا بد أن هنالك دولا إسلامية أخرى يمكن أن تدرج في مثل ذلك التصنيف. المترجم). وكان الربط بين شخصية الترابي الغالبة والمهيمنة وبين تشدده الديني – السياسي المتأصل قويا للحد الذي جعل سيطرته الأحادية على مختلف أوجه الحياة السياسية بالبلاد تجسد في نظر الكثيرين "الظاهرة الإسلامية" بكل تجلِّياتها. وكان ذلك أمرا غير معهود في السودان المستقل أو في بقية الدول العربية، غير أنه دفع بالترابية إلى دائرة الضوء، على الرغم من أفول بعض بريقها في بداية القرن الجديد.
وعلى الرغم من وجود الكثير من القيم والأهداف والخواص المشتركة بين الترابية (أي حركة "الجبهة الإسلامية القومية") والمهدية، إلا أن هنالك أيضا الكثير من أوجه الخلافات العميقة بين الحركتين. ومصدر تلك الاختلافات هو مجموعة متنوعة ومعقدة من الأسباب، منها العوامل الزمنية والبيئية والجيو –سياسية المتفاوتة، إضافة إلى الطبيعة المتغيرة للمجتمع السوداني نتيجة لدخوله في عالم الحداثة العصري، ولنيل البلاد لاستقلالها، ولتأثير العديد من الحركات والقيادات المختلفة فيه.
وفي هذا المقال سيكون التركيز منصبا على "الترابية"، تلك الظاهرة الجديدة نسبيا، إذ أنه سبق نشر الكثير من الكتب والمقالات عن تاريخ المهدية وحزب الأمة، بينما لم ينشر عن الترابي وحركته من الكتب سوى كتاب عبد الوهاب الأفندي "ثورة الترابي: الإسلام والسلطة في السودان" الصادر عام 1991م، وكتاب ميلر بير و روبرت كولنز "السودان الثوري: حسن الترابي والدولة الإسلامية" الصادر في عام 2003 (صدر للمؤرخة البريطانية عام 2017 م كتاب بعنوان "حسن الترابي: السياسيات الإسلامية والديمقراطية في السودان". المترجم).
تأثير المهدية وحزب الأمة على المشهد السياسي السوداني
كانت مصر العثمانية قد سيطرت على كثير من مناطق السودان في عشرينيات القرن التاسع عشر. ولكن بعد افتتاح قناة السويس في عام 1869م، بدأ الاوربيون (وخاصة البريطانيون) يبدون اهتماما متزايدا بهذه المنطقة. وبدأ البريطانيون أيضا في محاربة تجارة الرقيق التي كانت مصدر عيش كثير من السودانيين. وزاد فرض حكومة الخديوي المصري إسماعيل لضرائب باهظة على السودان لسد عجز خزائنه الفارغة حال البلاد سوءً. ومن التطورات الأخرى التي حدثت هي حط الحكم التركي - المصري من قدر الشيوخ التقليدين والفُكيا السودانيين، وضمه لدافور، وكانت كل تلك العوامل قد ضاعفت من غضب السودانيين وشعورهم بالغبن والمرارة من ذلك الحكم.
وأدى إنهاء ولاية الخديوي إسماعيل في 1879م، وما تلى ذلك من استقالة غردون، الذي كان يحكم السودان باسم الخديوي إسماعيل، إلى خلق فراغ في السلطة، كشف عن "كعب أخيل" حكام السودان الأجانب. ولم يكن من كشف عن ذلك غير محمد أحمد المهدي، ذلك العالم الصوفي من دنقلا الذي أفلح في استغلال أوضاع البلاد من أجل تغيير مصيرها. وكانت أهم دوافع المهدي هي المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها بلاده، إضافة إلى الرغبة في تطبيق قيمٍ إسلامية عليا على سكانها كافة. وكان المهدي يدعو السودانيين إلى العودة لصحيح الدين، والقيام بواجب الجهاد ضد الكفار الأجانب. وبذا يمكن أن نعد هبة المهدي حركة احتجاجية اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية ضد الإدارة الأجنبية الحاكمة. ولم تقم الحكومة المصرية-التركية في السودان ولا بريطانيا بأي تحرك جاد لسحق حركة المهدي في مهدها. ولعل هذا هو ما مهد الطريق لحركة المهدي لتنتشر وتعم البلاد من وسطها إلى أطرافها، بل وتحاول لاحقا غزو جيرانها (مصر وإثيوبيا) من أجل نشر قيم الدعوة المهدية الإسلامية.
وفي عام 1898م سقط حكم المهدية وتولت الحكومتان البريطانية والمصرية حكم البلاد باتفاق ثنائي، كانت السلطة الغالبة فيه للبريطانيين. وهنا قام الأنصار بالتكيف مع الوضع الجديد ليناسب ما جد من نظام سياسي واجتماعي واقتصادي، وكسبوا بذلك مواقع مهمة في ذلك النظام. وكان الأنصار يشتركون مع البريطانيين في رغبتهم الأكيدة في منع مصر من السيطرة على السودان، وكان هذا مما أتاح للأنصار قربا أكثر من مواقع السلطة والثروة بالبلاد، وكانوا أهم قوة سياسية فيه عندما حان الاستقلال.
ورغم قوة طائفة الأنصار ونفوذها السياسي، إلا أن جناحها السياسي (حزب الأمة) لم يفز في أي انتخابات برلمانية أجريت بعد استقلال السودان بأغلبية تتيح له الحكم منفردا، واضطر للإتلاف مع أحزاب الأخرى، ربما بسبب خلافات بين قياداته أو فقدانه لأدوات الحكومة الحديثة، ولطبيعة وصعوبة الأجواء السياسية والاقتصادية القائمة في ذلك الوقت.
وأفضت الصعوبات السياسية والاقتصادية بالبلاد لقيام أول انقلاب بالبلاد في 17/11/1958م. وكسابقه، عجز ذلك الحكم أيضا عن إخراج البلاد من مصاعبها السياسية والاقتصادية فأزاحت ثورة شعبية (شارك فيها الشيوعيون) ذلك الحكم العسكري في أكتوبر عام 1964م. وفي تلك السنوات ظهر حفيد المهدي (الصادق المهدي) كزعيم لحزب الأمة، ورئيسا للوزارة لبعض الوقت. وصرف غالب السياسيون جل وقتهم في خلافات وصراعات فيما بين الأحزاب وداخلها، ونال حزب الأمة النصيب الأكبر من تلك الانشقاقات. وفاقم من الأوضاع ازدياد نار الحرب الأهلية في الجنوب اشتعالا. وكان من نتائج تلك الأوضاع قيام الانقلاب العسكري الثاني بالبلاد في 25 مايو1969م، بقيادة جعفر محمد نميري، والذي بدأ بحظر الأحزاب السياسية (وعلى رأسها حزب الأمة). وقاوم حزب الأمة وطائفة الأنصار ذلك النظام الجديد، ورد النظام العسكري الجديد بعنف على ذلك بضربه لمعقل الأنصار التقليدي في الجزيرة أبا عام 1970م، وقتل الإمام الهادي المهدي ونفي الصادق المهدي لمصر.
(استطردت الكاتبة بعد هذا الجزء في سرد تحركات حزب الأمة وبعض الأحزاب الأخرى مثل الاتحاد الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين في "جبهة وطنية" ضد حكم مايو تعمل من خارج السودان وتتلقى مختلف أنواع العون والسند من ليبيا وإثيوبيا (اللتين كانتا في ذلك الوقت تتلقيان السند من الاتحاد السوفيتي) وتسعى للإطاحة بنظام نميري الذي يتبع لأمريكا ولمصر. وتطرقت المؤلفة أيضا للمصالحة الوطنية التي توجت بعودة الصادق المهدي للبلاد في 27/9/1977م، وعن خلافاته المبدئية مع نميري التي دفعت به للاستقالة من حزب ذلك النظام بعد نحو ثلاثة أشهر فيه، وعن لجوء نميري للحصول على تأييد أحمد المهدي (عم الصادق) كزعيم لطائفة الأنصار. ثم تناولت الكاتبة تاريخ صعود الصادق المهدي لسدة الحكم في عهد الديمقراطية الثالثة، وعن رفض "الجبهة القومية السودانية" السماح له بإلغاء قوانين الشريعة من أجندته السياسية وغير ذلك من تفاصيل تلك السنوات، إلى قيام انقلاب الجبهة في 1989م. المترجم).
صعود الترابية إلى السلطة وأفول نجمها
لفهم صعود "الجبهة الإسلامية القومية" تحت قيادة زعيمها صاحب الكاريزما العالية (حسن الترابي) ينبغي أن نعود إلى المرحلة الحرجة التي قفز فيها الإخوان المسلمون إلى حلبة الصراع (السياسي) مع الأحزاب الأخرى وشاركوا – بفعالية – في محاولة عسكرية للإطاحة بنظام نميري في منتصف عام 1976م. ومن العجيب أن تلك المشاركة حدثت بعد نحو ثلاثين عاما من دخول فكر الإخوان المسلمين للخرطوم. وساهمت تلك المشاركة في تكامل دخول الإخوان للمعترك السياسي السوداني. ثم انتهز الإخوان دعوة نميري لـ "المصالحة الوطنية" مع "أعدائه" السابقين لإدراكهم للفوائد السياسية العديدة التي يمكن جنيها من الدخول في تلك المصالحة. وشارك الترابي في عام 1977م في لجنة عهد إليها بتعديل القوانين السودانية بما يتماشى مع قوانين الشريعة الإسلامية، وصار عضوا في المكتب السياسي للحزب الحكومي (الاتحاد الاشتراكي) والمشرف السياسي على دارفور، وعين أيضا في منصب "النائب العام". وأثبت الرجل بتسنمه تلك المناصب ليس فقط مهارة سياسية فائقة، بل قدرة عظيمة على التكتيك المراوغ. وصرح في سبتمبر 1979م لمجلة Middle Eastبأنهم لن يتخلوا عن التعاون مع نميري "ما دام متمسكا بكلمته، ويسمح لهم بالعمل في سبيل ترقية وضع الإسلام بالبلاد". غير أن نميري بدأ يشعر من الضيق من تمدد نشاط الإخوان بقيادة الترابي لتحقيق أغراضهم السياسية والاقتصادية والعسكرية (بين أفراد الجيش). لذا استبق نميري الإخوان في سبتمبر 1983م بإعلانه لقوانين الشريعة. وقيل إن الترابي كان قد أُخذ على حين غرة من ذلك الإعلان الذي فهم منه أنه يسحب البساط من تحت أقدام الإخوان المسلمين، ولكنه التزم الحذر في تصريحاته، فلم يتحمس أو يعارض تلك القوانين بصورة صريحة، بل ظل يمارس عمله في موقعه كالمعتاد ويطبق تكتيكه السابق في صمت، إلى أن تفاجأ مرة أخري في بدايات 1985م بحملة اعتقالات واسعة لكل قيادات الإخوان (التي اتهمها النميري بالعمل مع قوى خارجية مثل ليبيا وإيران، ووصفها بالشيطانية مرة، وبالمتطرفة في مرة أخرى)، وعلى رأسهم الترابي نفسه. ولم يطلق سراحهم إلا بعد 6 أبريل 1985م بعد سقوط نظام نميري.
وفي العام الذي حكم فيه الفريق سوار الذهب السودان لمدة عام واحد عقب سقوط نميري تم "تعليق" تطبيق قوانين سبتمبر 1983م. ثم فازت "الجبهة الإسلامية القومية" في الانتخابات النيابية التي عقدت في نهاية فترة سوار الدهب الانتقالية بـ 51 مقعدا في البرلمان المتكون من 301 نائبا، وانضمت للمعارضة. وكان حزب الأمة قد فاز بالأغلبية في تلك الانتخابات وكون حكومة ائتلافية دون حاجة للتحالف مع "الجبهة الإسلامية القومية". ورغم ذلك فقد كانت تلك النتيجة نصرا مبينا بالنسبة للجبهة، بالنظر إلى حقيقة أن حركة الإخوان المسلمين كانت قد نالت في انتخابات نهاية الستينيات ثلاثة مقاعد فقط من مجموع 218!
يمكن أن نعزو إنجازات "الجبهة الإسلامية القومية" في عام 1986م إلى عدة عوامل منها قوة شخصية الترابي وكاريزميته، وتزايد أعداد مؤيديها، وأن كثيرا منهم كانوا في مواقع مهمة في الجيش، وفي أوساط رجال المال والأعمال، وخبرة وحسن تنظيم وإدارة قيادة الجبهة، وفقدان أعدادٍ كبيرةٍ من أفراد الشعب السوداني للثقة في الأحزاب التقليدية والطوائف الدينية. وكان كثير من السودانيين يبحثون عن حزب جديد يقدم لهم أفكارا اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة، خاصة وقد كانوا تحت تأثير الهالة المحيطة بالثورة الإسلامية الإيرانية التي نجحت في الوصول للسلطة قبل سبعة أعوام.
وقامت جبهة الترابي من موقعها في المعارضة بمواصلة الدعوة مؤسسة قوانين الشريعة الإسلامية، بينما ظل الصادق المهدي وحزبه يعارضان الجبهة في دعوتها، إذ أن ذلك كان من شأنه أن يغلق الباب أمام أية مفاوضات سياسية قادمة مع الجنوبيين بشأن الحرب الأهلية. ثم توالت الأحداث والتحالفات بين الأحزاب، ودُعي الترابي للانضمام إلى الحكومة فعين نائبا عاما ووزيرا للعدل في مايو 1988م. غير أن إدخال "الجبهة الإسلامية القومية" في تلك الوزارة لم يقلل من صراعها مع الحكومة. وفي بداية 1989م، وبعد نجاح الحكومة في إفشال محاولة انقلاب عسكري عليها، حدثت عقبات كبيرة دفعت الصادق المهدي لتكوين حكومة جديدة على أنقاض سابقتها، عُين فيها نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية. وتواصل الشقاق في الحكومة مما أضطر الصادق لتكوين حكومة جديدة لم تكن الجبهة الإسلامية مشاركةً فيها. وعند ذلك المنعرج، أدرك الترابي أن محاولات جبهته للانضمام للمؤسسة الحاكمة والتكامل معها ليس لها في النجاح نصيب كبير، وأن عليه محاولة الإطاحة بالحكومة والانفراد بالحكم. وبدأت تلك المحاولات بإعلان الترابي في ربيع 1989م عن الجهاد ضد الحكومة حتى تعيد العمل بقوانين الشريعة، وسمى دعوته تلك "ثورة القرآن" (ألوان، 17/4/ 1989م). ووجد الصادق نفسه في موقع حرج أضطر معه لتكوين لجنة لدراسة وضع قوانين الشريعة بالبلاد في منتصف شهر يونيو من ذلك العام. وأعلنت الحكومة بأنها ستعدل من تلك القوانين إن أوصت تلك اللجنة بذلك. ولعل ذلك كان هو خاتمة المطاف للحكومة، إذ أن الجبهة نجحت في انقلابها ضد الحكومة في 30/6/1989م، والذي أنهى آخر حكومة ديمقراطية تحت قيادة حزب الأمة، وبدأ عهد الترابية.
وبدأ الانقلاب بحظر الأحزاب السياسية واعتقال زعمائها في سجن كوبر، وأكد قادته "استقلالهم" التام عن كل الأحزاب، وأن كل اهتمامهم ينصب على مصلحة البلاد كلها. وأعلنت الحكومة ورئيسها أيضا أن أكبر همه هو إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب، ولم يأت على ذكر أي شيء حول هويته الإسلامية أو دور للجبهة الإسلامية في ذلك الانقلاب. وبنظرة استرجاعية، لا بد للمرء من الوصول لقناعة بأن تدبيرا بين البشير والترابي كان قد تم لضمان عدم الإفصاح منذ البداية عن هوية الانقلاب (الإسلامية) خشية رد فعل الولايات المتحدة ومصر.
ولم يقم الترابي بالإفصاح عن هوية الانقلاب إلا في ربيع 1990م حين تكلم عن دوره في تدبيره. بل أعلن عن عزمه على تحويل السودان إلى دولة إسلامية خالصة (القبس الكويتية، 26 مارس 1990م). وأعقب ذلك حملات اعتقال و/ أو فصل لكثير من اللبراليين والعلمانيين من الخدمة المدنية، والاعلان عن تغيرات كاسحة في التشريعات بالبلاد للإسراع بتحويل السودان لدولة إسلامية، وقرارات أخرى تخص الحياة اليومية (مثل تخصيص أماكن خاصة في المركبات للنساء، وقصر توظيفهن على مجالات الخدمة الاجتماعية، وإغلاق المحلات لصلاة الجمعة، ومنع شرب الخمور وغير ذلك).
وكان تفاعل معظم السودانيين (الذين تكاثرت عليهم المعارك السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية عبر السنوات) حيال ذلك الانقلاب وما أعلنه سلبيا، ولا يخلو من بعض تفاؤل وأمل في أن تفضي الترابية إلى إنقاذ البلاد بالفعل. وجابت الخرطوم مظاهرات ضخمة تردد شعارات "الشريعة الآن" و"الشريعة أو الشهادة"، لتعطي الانطباع للعالم بأن ما تقوم به الحكومة من إجراءات إن هو إلا استجابة لضغوط شعبية. ومع بداية 1991م أعلنت الحكومة عن بدء العمل بقوانين الشريعة، وعن مبايعة الترابي قائدا للأمة (الإسلامية) في عدد من مناطق السودان المختلفة. وبدا أن الترابي قد بدأ في حصاد ما ظل يبذره عبر سنوات طوال. والتفت إلى الشأن الاجتماعي والثقافي بالبلاد، فأنشأ "قوات الدفاع الشعبي" للذود عن القيم والمثل والممارسات الإسلامية التي ظل يدعو لها، وللدفاع عن البلاد ضد قوات التحالف الوطني الديمقراطي (وضد الجيش الشعبي بالجنوب).
ووضح (لاحقا) أن السبب الرئيس للصراع بين الحكومة والمعارضة لم يكن حقيقةً حول الشريعة وقوانينها، بقدر ما كان بسبب التنافس والتسابق حول السلطة، وبسبب الاختلافات الأيدولوجية حول كيفية إدارة شؤون الدولة الخارجية والداخلية.
وفي صيف عام 1995م عقد تجمع الأحزاب والحركات المسلحة مؤتمرا مشتركا في أسمرا أعلنوا فيه عن نيتهم التعاون للقيام بمقاومة نظام الخرطوم عسكريا. وأثار ذلك قلق الحكومة فقامت باعتقال الصادق المهدي وقيادة حزبه (ثم أطلقت سراحهم بعد حين)، وقمعت بعض المظاهرات التي اندلعت بالخرطوم وبعض المدن الأخرى. ثم أفلح الصادق في الفرار من البلاد في نهاية عام 1996م ليبدأ في العمل ضد النظام من خارج البلاد (ذكر الصادق أكثر من مرة أن خروجه لم يكن "هروبا" بل عملية عسكرية أطلق عليها اسما حركيا هو "تهتدون". المترجم).
(تناولت الكتابة بعد ذلك مجريات الأحداث بالبلاد بعد 1996م ودور الترابي فيها، وعن أفول نجمه بعد "المفاصلة" بينه وبين البشير وحزبه عام 1999م. وتجد تفصيلا لكل ذلك في مقال آخر لذات الكاتبة (يهوديت رونين) بعنوان "ظهور وسقوط حسن الترابي: فصل فريد في تاريخ السودان". المترجم)
الخلاصة
هل آذن نجم الترابي بالأفول؟ أم أن الترابية قد أخذت فقط فترة استراحة إجبارية، وهي تتحين للحظة مناسبة، مثل العنقاء، ذلك الطائر الخرافي، لتهب من جديد وتعود لمركز المسرح السوداني الممزق. وإذا قُدر لتلك الحركة أن تعاود الظهور، فهل سيظهر اخفاقها السياسي السابق تغيرات مهمة في لونها؟ وإلى أي حد يعتمد مصير الحركة على فرد واحد.
ويجوز لنا أن نتساءل عن تأثير فشل الترابية على القوى السياسية – الدينية الأخرى في السودان، خاصة حزب الأمة. وهل بمقدور حزب الأمة أن يستعيد عافيته ويعود للسلطة من جديد؟ وإن حدث ذلك، فعلى أي شكل سياسي – ديني سيتم، وتحت أي قيادة؟ وكيف سيؤثر غياب أو عودة حزب الأمة أو جبهة الترابي (الجبهة الإسلامية القومية) على حظوظ السودان وتطلعاته للسلام والتعافي الاقتصادي والاجتماعي والاستقرار السياسي؟ وما هو مصير نظام "الإنقاذ" الحالي؟ وإلى أي حد سيقبل النظام ورئيسه بتسويات إضافية في شأن مبادئه الدينية المتشددة التي ظل يدعوا لها في الخمسة عشر سنة الأولي من حكمه. أعلم أنه ما بمقدور أحد الآن تقديم أي إجابات شافية لمثل تلك الأسئلة.
وعلى كل حال، أثبت لنا تاريخ السودان المعاصر أن غالب سكان البلاد ونواتها الصلبة hard core هم العرب المسلمون، أصحاب الأغلبية، الذين حكموا السودان دون انقطاع منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهؤلاء يجدون عسرا شديدا في التخلص من النظرة الإسلامية العالمية المسيطرة، التي يعدون فرض هويتها على بقية السكان المتنوعي الثقافات أمرا مبررا تماما، بل لعلهم يحسبونه واجبا مفروضا. واتضحت تلك النظرة، ضمن حالات أخرى، عند ظهور حركتين ضخمتين تميزتا بالتطرف الديني المفرط: المهدية والإخوان المسلمين. فهاتين الحركتان المتطرفتان كانتا قد غرستا (في المجتمع) مجموعة من القيم الإسلامية الضمنية، وفرضتا طريقة حياة معينة على سكان البلاد. وبذلت الحركتان الكثير من المصادر من أجل تقديم وتحقيق فكرة قيام دولة إسلامية عظمى. وظل الترابي مصرا على نشر أيديولوجيته الاسلامية إلى خارج حدود السودان بدعوى أن الاسلام "دين بلا حدود".
ورغم ما ذكرناه، فيجب التأكيد أيضا على وجود اختلافات عميقة بين حركتي المهدية والاخوان المسلمين، رغم أن الحركتين تركتا أثرا كبيرا على المجتمع السوداني ودولته، مما يقف شاهدا على أن الراديكالية الإسلامية الكامنة لم تأخذ مجراها كاملا بعد، ولكنها بدلت وجهها حتى تتمكن من العيش سياسيا في وسط بلد شديد التعقيد.
إن فرضية هذه الدراسة هي أنه لو لم تقم حركتا المهدية والإخوان المسلمين بالتخفيف من تعصبهما الديني، وتنتهجا مسلكا عمليا مكنهما من توسيع دائرة شعبيتهما وتكوين قاعدة سياسية صلبة، إذن لسقطت نهائيا الحركة المهدية (في بدايات القرن العشرين) وحركة الإخوان (في السبعينيات والثمانينات) مصطدمة بصخور التعصب الإسلامي السوداني. ولولا قدرة الحركتين على المساومة وتقديم بعض التنازلات، فربما كان مصيرهما السياسي مختلفا تماما، ولفشلتا في الحفاظ على تأثيرهما على المجتمع السوداني والعودة مرة أخرى لمركز السلطة والقيادة. ومن الأمور الجديرة بالملاحظة والإعجاب هو مُراوحة الحياة السياسية – الدينية بالسودان بين الاستمرارية والتغيير. وأبلغ مثال على تلك المُراوحة هو أمر الترابية. ففي الفترة التي سبقت عودة الديمقراطية للبلاد في النصف الثاني من الثمانينات، أقدمت الحركة الترابية – بكل حنكة وتروٍ وتعقل – على تعديل نظرتها الشاملة للعالم حتى تستفيد من الأوضاع السياسية المتغيرة. والتزمت أيضا بذات التكتيك لنحو عام ونصف بعد استلامها للسلطة عقب قيامها بانقلاب 1989م. ورغم ذلك فقد أخفقت الحركة في مواصلة ذلك النهج النسبي الاعتدال، فقد افتقرت إلى البصيرة النافذة، وإلى إدراك مآلات السياسات الدينية المتطرفة التي انتهجتها وعواقبها، ولم توائم سياساتها تلك مع الأوضاع السياسية بالبلاد وفي العالم كافة. وربما نتيجة لذلك تمت إزاحة الترابي من منصبه ومن مشهد السياسة الإسلامية بالبلاد وخبا نجمه إلى حد ما (أنظر مقال المؤلفة المترجم عن الترابي، الذي سبقت الإشارة له. المترجم).
ومن جانب آخر، أثبتت حالة حزب الأمة أن مجرد القبول بتعديل ومساومات براغماتية (عملية) للسياسات والمبادئ الدينية لتتوءام وتتكيف وتحقق بعض المصالح السياسية والرفاهية للدولة، لا يكفي لضمان الاستقرار والاستمرار. فهنالك كما هو متوقع العديد من العوامل الداخلية والخارجية التي تؤدي أدوارا مهمة في تشكيل مصير التيارات السياسية في البلاد.
ومهما يكم من أمر ا على مسار الحركتين (المهدية والإخوان)، وبغض النظر عن اتخاذهما لموقفين متضادين، إلا أن النتيجة النهائية كانت واحدة، وهي اخفاق الحركتين سياسيا، فهما الآن خارج الساحة السياسية الفاعلة، والتي يتسيدها الرئيس البشير الآن، والذي يجيد بحكمة قراءة المواقف ونذرها وبِشاراتها، والتخفيف من غلواء الحماس الإسلاموي من أجل تشديد القبضة على السلطة.
ويمثل وضع السودان المعقد داخليا وخارجيا تحديا كبيرا، ليس فقط لاستمرار حكومة البشير، بل أيضا من أجل استمرارية خصائص وطابع البلاد الديني – السياسي.

alibadreldin@hotmail.com
/////////////////

 

آراء